عرض مشاركة واحدة
  #44  
قديم 21-05-2020, 05:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

المعاتبة والمعاقبة: وذلك بأن تعاتبَ نفسَك على التقصيرِ، وتؤدِّبها وتعاقبها على الذُّنوب والغفلة، فتعاقب نفسَك بحرمانِها من بعضِ شهواتها - تأديبًا وزَجْرًا، وتهذيبًا وتربيةً - أو تعاقبها بإلزامِها بزيادة قرباتِها؛ فتفرضَ عليها استغفارَ عشرة آلاف مرة، وتمنعها من النُّوم، تعاقبها بأن تأكلَ خبزًا جافًّا بغيرِ إدام، وتشربَ بعد الخبزِ ماءً فقط؛ بعضُ السلفِ أراد أن يعالج نفسه من الغيبة، فما استطاع أن يعالِجَها بعد أن جرَّبَ معها بعض العلاجات، ثم عاقبَها بأنه إذا اغتاب إنسانًا تصدَّقَ، حتى قال: "فغلبني حبُّ الدنانير، فتركتُ الغيبة"، فعاتِبْ نفسَك وعاقِبْها، فبذلك تنجو من شرِّها، وتقودها سالمةً إلى ربِّها، والله المستعان.
إنَّ اعتياد هذا الاعتكافِ بهذا البرنامج يوميًّا، يؤدِّي إلى تلافي الأخطاء، وإصلاح الأحوال، فاصبر، والْزَم تلتزم.
احرص أخي - يا بنَ الإسلام - على هذه المحاسبة كلَّ يومٍ وليلة، وخاصَّةً عند النوم؛ لأنَّه أرجى أثرًا؛ حيث تخلو النَّفس عن شواغلِها، وتكون أكثرَ استشعارًا للموتِ الذي هو أخو النوم، فضلاً عن الغيبةِ عن عيونِ الخلق، فيحاسب الإنسانُ نفسَه كلَّ يومٍ قبل النوم، وإلا ففي أيِّ وقت آخر من يومِه، ويحاسب نفسَه كل اثنين وخميس؛ لما رواه أبو داود والنسائي وأحمد - وقال الألباني: حسن صحيح -: ((تُعرَضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرضَ عملي وأنا صائم))، ويحاسب نفسَه في شعبان؛ لما رواه النَّسائيُّ وأحمد عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله، لم أركَ تصوم شهرًا من الشهورِ ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذلك شهر يغفل النَّاس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم)) والحديث حسنه الألباني، والظاهر أنَّ هذا رفع أعمالِ السَّنَة قبل رمضان، والله أعلم.
فينبغي مراجعة النيَّة والإخلاص، والحذر من أمراضِ القلوب؛ ومن أخطرها: الرياءُ، وطلبُ المدح من النَّاس، والكبر، والإعجابُ بالنَّفس، والغفلة، والانشغالُ بالأسبابِ عن التوكل، وطلبُ الجاه والرِّياسة، وحبُّ الدنيا وتقديمها على الآخرة، والحسد، والشحناء؛ قال - تعالى -: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ï´¾ [الحشر: 18]، وروى مسلمٌ وأحمدُ وابن ماجه أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله لا ينظرُ إلى أجسامِكم ولا إلى صورِكم؛ ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم))، وفي رواية: ((وأعمالكم))، وفي الحديث: ((الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله))؛ والحديث رواه البيهقيُّ والترمذي وابن ماجه وأحمد، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه.
وقال الرَّجلُ - الذي أضاف ابنَ عمرٍو - عن عمَلِه: "ما هو إلاَّ ما رأيت، ولكنِّي أَبِيت وليس في قلبي غشٌّ ولا حسد لأحدٍ من المسلمين على خير آتاه الله إياه"، فقال ابنُ عمرو: "هذه التي بلَغَتْ بك، وهي التي لا نُطيقُ"؛ والحديث رواه النسائي وأحمد وعبدالرزَّاق في "المصنَّف".
ومُحاسبة النَّفس على الطاعات من أنفعِ الوظائف التي يقوم بها العابدون في شهرِ رمضان، والأصل أنَّ المحاسبةَ وظيفةٌ لازمة لسالكِ طريق الآخرة، ولكنَّها تتأكَّدُ وتزداد في هذا الشَّهر، والمعنِيُّ بمحاسبةِ النَّفْس على الطاعة: فحصُ الطَّاعةِ ظاهرًا وباطنًا، وأوَّلاً وآخِرًا؛ بحثًا عن الثمرةِ؛ ليعرفَ مأتاها فيحفَظه، وقدْرَها فينمِّيه، ووصولاً للنقصِ سابقًا ليتداركه لاحقًا.
وهذه المُحاسبة تكون قبل العملِ وأثناءه وبعده؛ أمَّا قبلَه فبالاستعدادِ له، واستحضار ما قصَّر فيه حتى يتلافاه، وأثناءه بمراقبةِ العمل ظاهرًا وباطنًا، أوَّله وآخره، والمحاسبةُ بعد العملِ بإعادة ذلك كلِّه.
وهذه المُحاسبةُ - كما ذكرت - إذا واظب عليها المرءُ، صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلُّفٍ ومعالجة، وسيجد غِبَّ هذه المحاسبة وثمرتَها تزايدًا في مقامِ الإحسان الذي سعى إليه كلُّ السالكون، وهو أن تعبدَ الله كأنَّه يراك.
ومثل هذه المحاسبةِ ينبغي أن تكونَ في الخفاء، يحاور نفسَه وهواه، ويعالج أيَّ قصورٍ بلومِ نفسِه وتقريعها، وعقابها على كسلِها وخمولها.
ولا يُنصَح بمداومةِ الاعتماد على أورادِ المحاسبة الشَّائعة، وقد اختلفَ فيها النَّاس على طرفين: فمنهم من جعلَها وسيلةً دائمة للتربية، وطريقة ناجعةً لتقويم النفس، ومنهم من بالغَ ومنع منها مطلقًا، واصفًا إياها بالبدعيَّة، والحقُّ: التوسُّط، نعَم، هي وسيلةٌ لم ترد عن سلَفِ هذه الأمَّةِ، لكن تشهد لها نظائرُ في الشَّرعِ، ثم إننا لا نقولُ بجوازِ الاعتماد على تلك الأوراد في كلِّ الأحايين، بل ننصحُ بها في بدايةِ السَّير، وأيضًا لا نُلزم بها أحدًا، ولكن من عوَّل عليها في بدايةِ سيره؛ لكون نفسِه متمرِّدة شموسًا، فنرجو ألاَّ يكونَ ثَمَّة حرجٌ؛ شرطَ عدمِ توالي اعتمادِه عليها.

والصَّواب تنشئة النَّفس على دوامِ المُحاسبة الذاتيَّة والمراقبة الشخصية، وتعويدها على العقابِ عند الزَّلل؛ فإنَّ هذا من شأنِه أن ينقي العبادةَ من أيِّ حافزٍ خارجي دخيل على النيةِ الصَّالحة، كرغبةٍ في تسويدِ ورقة المحاسبة، أو نحو ذلك.
أخي يا بنَ الإسلام، النَّفس لطيفةٌ ربَّانية، بل هي جوهرٌ مشرق على البدَن، إنْ أشرقَ على ظاهرِ البدن وباطنه حصلَت اليقظة، وإن أشرق على باطنِ البدن دون ظاهرِه حصل النَّوم، وإن انقطع إشراقُه بالكليةِ حصل الموت، والأدب مع النفسِ هو: إكرامها، وذلك بصيانتِها عما يُهينها من المعاصي والآثام، وتعلم العلم، والقيام بالطَّاعات؛ ليحصلَ لها النورُ والرِّضا، وإعطاؤها حظَّها من المباحاتِ من غير إسراف؛ للتقوِّي به على الطاعات والقربات.
ومن الأدب مع النفس:
1- أول ما يجبُ من أدبِ النفس: تزكيتُها وتطهيرها من طبائعها وعاداتها الرَّديئة التي توافقُ الهوى وتخالفُ الشَّرع؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ï´¾ [الشمس: 7 - 10].
2- مُجاهدةُ النَّفس في طاعةِ الله - تعالى - لأنَّ النفسَ أمَّارةٌ بالسوء، داعيةٌ إلى المَهالكِ، طامحةٌ إلى الشَّهوات، وحملها على الطاعةِ رغمًا عنها مخالفة لشهواتِها، يحتاج إلى مُجاهدة.
3- دوامُ سؤال الله هدايةَ النَّفسِ والوقاية من شرِّها؛ كما في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - الصحيح في "المسند".
4- دَوام محاسبتها؛ لمعرفة ما لها وما عليها.
5- مخالفتُها والاحتراز من شهواتِها؛ لأنها تُفْسِدها، بل تتعامل معها كما يحبُّ ربنا ويرضى.
6- الوقوف على عيوبِها، ومعالجة هذه العيوبِ بالصَّبر والتأني. وعيوبُ النفس كثيرة؛ منها:
أنَّها لا تألفُ الحقَّ ولا الطاعة، وهذا يتولَّدُ من متابعة الهوى، وعلاج ذلك يكون بالبُعدِ عن الشهواتِ ومخالفة الهوى.
ومنها: الغفلة والتواني والتسويف، وعلاجُ ذلك يكون بتوبةٍ تحلُّ الإصرار، وخوفٍ يزيلُ التسويف، ورجاءٍ يبعث على قصد مسالك العمل، وذِكْر الله على الدَّوام، ويكون ذلك كلُّه بقلب مُفرَدٍ فيه توحيدٌ مجرَّد.
ومنها: العُجْب بالعمل والشُّعور بالفخر، وعلاج ذلك يكون بأربع:
1- أن ترى التوفيقَ من الله - تعالى - فإذا رأيتَ ذلك، فإنَّك سوف تنشغلُ بالشُّكرِ، ولن تعجبَك نفسُك.
2- أن تنظرَ إلى النعمةِ التي أنعم الله - تعالى - بها عليك، وتَعْلم أنها من الله، وليست من كسبِك؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ï´¾ [النحل: 53]، فإذا نظرتَ في النِّعمِ انشغلتَ بالشُّكر.
3- أن تخافَ ألاَّ يُقبل منك؛ فإذا اشتغلتَ بالخوفِ من عدم القَبول، لن تُعجبَ بنفسِك؛ قال - تعالى -: ï´؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ï´¾ [المائدة: 27].
4- أن تنظرَ في ذنوبِك التي أذنبتَها قبل ذلك، فإذا خفت أن ترجحَ سيئاتُك على حسناتك؛ قَلَّ عجبُك، وكيف يعجب المرء بعملِه وهو لا يدري ماذا يَخْرج من كتابه يوم القيامة؟ إنَّما يتبين عجبه وسروره بعد قراءةِ كتابه في أرض المحشر.
ومنها: الاشتغالُ بتزيين الظَّاهرِ وإهمال الباطن، وعلاج ذلك موجودٌ في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح مسلم": ((إنَّ الله لا ينظر إلى صورِكم وأموالِكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم)).
ومنها: الاشتغالُ بمظاهرِ الأعمال وفقدان رُوحها وثمرتها ولذَّتِها، ويكون ذلك من سقمِ القلب، وخيانة السِّر، وعلاج ذلك يكون بأكلِ الحلال الطَّيب، والبُعد عن الحرام الخبيث.
ومنها: التَّكاسُل عن الطَّاعاتِ، وهو ميراثُ الشِّبَع؛ فإنَّ النفسَ إذا شبعت قَوِيَت، فإذا قويت أخذتْ بحظِّها، وعلاج ذلك يكون بتجويعِها؛ فإنَّها إذا جاعت عدمت حظَّها وضعفت.
ومنها: الطَّمعُ؛ فإنَّ النفس طمَّاعة، ولا يقف طمعُها عند حدٍّ؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [الحشر: 9]، وعلاج ذلك يكون بالقناعةِ والتعفُّف.
ومنها: كثرةُ الذُّنوبِ والمخالفات؛ فإنَّها تحبُّ العاجلة وتتابع الشهواتِ، وهذا العيبُ يجعلها تقسو، بل ويبعدها عن الخالقِ الأعظم - تبارك وتعالى - وعلاجُ ذلك هو الاستغفارُ والتوبة وأعمال البِرِّ، وحضور مجالس الذِّكر، ومجالسة الصَّالحين.
ومنها: الحرص، وهذا الحرصُ يدفعها إلى حبِّ الدُّنيا، والانهماك في جلبِ المصالح الدُّنيوية وتحصيلها، وعلاج ذلك أنَّ تعلمَ أنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرار، وأنَّ الآخرة هي دارُ القرار، والعاقلُ من يعمل لدارِ القرار، لا لدارِ البوار.
ومنها: الرِّضا عند المدح، والغضَب عند الذَّم، وعلاج هذا العيبِ يكون برياضةِ النَّفسِ على الصِّدق والحق.
فيا بن الإسلام، إذا علمت عيوبَ النفس وعالجتها، فعليك أن تستكملَ فضائلها بما يلي:
7- من الأدبِ مع النَّفس تحبيبُ الطاعةِ إليها، وتنفيرها من الشَّيطانِ وطاعته، فالنفسُ والشيطان قرينان في إبعادِ العبد عن مولاه، والدُّنيا معهما، فعليك أن تجتهدَ في مخالفةِ نفسك وشيطانك؛ فهُما سببُ وقوعِك في العطَب والهلاك.
8- الاشتغالُ بأمورِ الآخرة، فلا تعمل عملاً حتى تستعملَ عقلك في النظرِ إلى عاقبته، فإذا حرصتَ على طلبِ الآخرة وأعرضتَ عن الدُّنيا؛ أتتك الدُّنيا وهي راغمة.
9- النَّظر في العواقبِ يكسرُ النَّفسَ ويكفُّ طغيانَها، يكفيك أن تعلمَ حديثَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح مسلم": ((يُؤتى بأنعمِ أهل الدُّنيا من أهلِ النَّار، فيُصبَغ في النَّارِ صبغةً، ثم يُقال: يا بنَ آدم، هل رأيتَ خيرًا قطُّ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله، يا ربِّ! ويؤتى بأشدِّ النَّاس بؤسًا في الدُّنيا من أهل الجنةِ، فيُصبغ في الجنةِ، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيتَ بؤسًا قطُّ؟ هل مرَّ بك شدَّةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدةً قط)).
10- أن يجعلَ صاحبُها علوَّ همتِه مقصدَه، فمن كرمتْ عليه نفسُه، لم يكن للدُّنيا عنده قَدْر.
فهذِّب نفسَك - يا بن الإسلام - وداوِ أمراضَها حتَّى يكون يوم الحصاد؛ فتحصد ويكون حصادُك يومها خير الحصاد: جنَّة عرضها السموات والأرض.
الوسيلة الثانية والثلاثون: الجلوس في المسجد حتَّى تطلع الشمس:
البعد عن السَّهرِ المذموم في اللَّهوِ واللغو في ليالي رمضان يعينُ كثيرًا على استثمارِ الأوقات الفاضلة كوقتِ السَّحَر، ولإحياء السُّنة المباركة في الجلوسِ بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، ثم يصلِّي ركعتين، فيحصل على أجرِ حجة وعمرة تامَّةٍ، تامَّة، تامَّة، كما روى الترمذيُّ، وصححه الألباني.
فإن لم يرزقك الله - يا بن الإسلام - المالَ الذي يُمكِّنُك من السَّفرِ إلى أداءِ العمرة والحج، فهذه فرصةٌ غالية ثمينة من ربِّك الكريم، فأرِ ربَّك من نفسِك صدقَ النية.
الوسيلة الثالثة والثلاثون: الخروج في طلب العلم:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ: ((من سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل الله به له طريقًا إلى الجنة)).
ولا يَغُرنَّك كونُ سلَفِنا الصالح يمتنعون عن مَجالسِ العلم في رمضان؛ فإنَّ مجالس العلم عندهم عامرةٌ طولَ العام، ويَقْتطعون رمضان للقرآن، ولكن مجالس العلمِ عندنا خاوية في الغالبِ طوالَ العام، ولا نهتمُّ في رمضان مثلهم بالقرآن، فلماذا نقيسُ حالَهم على حالنا؟! ولماذا نتركُ العلمَ في رمضان تشبُّهًا بهم؟! ونتركه في بقيةِ العام مخالفةً لهم؟! فاستعنْ بالله، وابدأ في طلبِ العلم، وطالع في فضائلِه لتعلو همتك، ولتبدأ بواجب الوقت من أحكامِ الصيام وزكاة الفطر والعمرة - إن كنتَ ستعتمر - ثم سِرْ بعدَ رمضان في رَكْبِ أهلِ العلم؛ لعلَّ الله يحشرك معهم.
إنَّ المسلمَ يتعرَّضُ في حياتِه للعديد من الحالات الطارئة التي يحتاجُ فيها إلى وجودِ جوابٍ فوري يعمل بمقتضاه عند حصولِ الحالة المعيَّنة، وكثيرًا ما يصعب - أو يتعذَّر - وقتها البحثُ عن الحكمِ الشرعي أو السؤال عنه.
وهذا يؤكِّد أهميةَ طلبِ العلم والتفقه في الدِّين ومعرفة أحكام الشريعة؛ حتَّى إذا ما احتاج المسلمُ إلى الحُكمِ وجدَه عنده، فأنقذ نفسَه، أو غيره من إخوانِه المسلمين من الوقوعِ في المحرَّمات أو الأخطاء، وكثيرًا ما يؤدِّي الجهلُ إلى فسادِ العبادة، أو الوقوع في الحرَج.
ومن المؤسفِ أن يقومَ إمامٌ إلى الخامسةِ سهوًا في صلاته بالجماعة، فلا تجد في المسجدِ واحدًا يعرف الحكمَ الشرعيَّ في هذه المسألة، أو يأتي مسافرٌ وقت إقلاع الطَّائرة، وهو ينوي العمرة، ويكتشف فجأةً أنه قد نسي لباسَ الإحرام، وليس هناك وقتٌ لتوفيرِه، ثم لا يجدُ في المطارِ من المسلمين مَن يخبره بماذا يفعلُ في هذه الحالة الطارئة، ويدخل شخصٌ المسجدَ وقد جمعوا للمطر، وهو في صلاةِ العشاء، وهو لم يصلِّ المغرب، فيقع في حيرةٍ من أمره، وقُل مثل ذلك في كثيرٍ من الحالاتِ التي يختلف فيها المصلُّون، ويتناقشون بجهلهم، فيقع الاضطرابُ والتشويش في مساجد المسلمين وجماعاتهم، وفي كثيرٍ من الأمور الشخصية والفردية، فإنَّ الجهلَ يوقع في الحرج، وربما الإثم، وخصوصًا إذا كان المرءُ في موقفٍ يَجِب عليه فيه أن يتَّخِذَ قرارًا، وليس عنده علمٌ يَبني عليه هذا القرار.
وإذا كان أهلُ الدُّنيا يضعون الإجاباتِ المسبقة للتصرُّفِ السَّليم في الحالاتِ الطَّارئة؛ كحصولِ الحريق، وانتشالِ الغريق، ولدغةِ العقرب، وحوادثِ الاصطدام، والنَّزيفِ والكُسور، وسائرِ إجراءاتهم في الإسعافات الأوليَّة وغيرها، يُعَلِّمون ذلك للنَّاس، ويقيمون الدوراتِ لأجلِ ذلك، فأهل الآخرة أولى أن يتعلَّموا ويُعلِّموا تفاصيلَ أحكام هذا الدِّين.
ومما ينبغي الانتباهُ له هنا التفريقُ بين المسائلِ الافتراضيَّة التي لا تقع، أو نادرة الوقوع، وبين المسائلِ الواقعة فعلاً، التي عُلِم من التجربةِ وحال النَّاس أنَّها تَحْدث، ويقع السؤالُ عنها.
فأمَّا القسم الأول، فالبحثُ فيه من التكلُّفِ الذي نُهينا عنه شرعًا، والذي حذَّرَنا منه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في "الصحيحين": ((ذَرُوني ما تركتُكم، فإنَّما هلك مَن كان قبلكم بكثرةِ سؤالِهم واختلافهم على أنبيائهم...))؛ قال ابنُ رجب - رحمه الله - في شرحِ هذا الحديث: "فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السؤالِ عمَّا لا يُحتاج إليه، وعلى النهي عن السؤالِ على وجهِ التعنُّتِ والعبث والاستهزاء".
وعلى هذا المعنى يُحمل كلامُ جماعةٍ من السلف كما جاء عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله عنه - أنَّه كان إذا سُئِل عن الشَّيء يقول: "كان هذا؟"، فإن قالوا: لا، قال: "دعوه حتَّى يكون"؛ كما أورده ابنُ رجبٍ في "جامع العلوم والحِكَم"، وأورد الدارميُّ في "سُننِه"، وابن عبدالبرِّ في "جامع بيان العلم" آثارًا مشابهة.
أما القسم الثاني، وهي المسائلُ التي تقعُ، فالسؤال عنها محمود، وقد كان أصحابُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحيانًا يسألونه عن حكمِ حوادثَ قبل وقوعِها، لكن للعمل بها عند وقوعِها، كما قالوا له: "إنَّا لاقو العدوِّ غدًا، وليس معنا مُدًى، أفنذبحُ بالقصَب؟"، وسألوه عن الأُمراءِ الذين أَخبر عنهم بعده، وعن طاعتِهم وقتالهم، وسأله حذيفةُ - رضي الله عنه - عن الفتن، وما يصنعُ فيها، فهذا يدلُّ على جوازِ السؤال عمَّا هو مُتوقَّعٌ حصولُه.
وعلى كلِّ حال، فقد ثبت عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((من يُرِدِ الله به خيرًا يفقِهه في الدِّين)).
احرص على حضورِ مجالس العلم والذِّكر، واحذرْ من الإعراضِ عنها؛ فقد روى مسلمٌ وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه وأحمدُ عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلاَّ نزلت عليهم السَّكينةُ، وغشيتهم الرَّحمة، وحفَّتْهم الملائكة، وذكرَهم الله فيمن عنده))، وفي "الصحيحين": دخلَ ثلاثةٌ المسجدَ والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - معه أصحابُه، فوجد أحدُهم فرجةً في الحلقةِ فجلس فيها، وأمَّا الثاني فلم يجد فرجةً فجلس خلفهم، وأمَّا الثالث فانصرف، فقال النبي - عليه السَّلام -: ((ألا أخبرُكم عن الثلاثةِ نفر، أمَّا أحدُهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأمَّا الآخرُ فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأمَّا الآخَر فأعرض، فأعرضَ الله عنه)).
وإن أصرَرْت على أنَّه لا طلبَ للعلم في رمضان، فلْيَكن طلبُك للعلمِ برمضان؛ فهذا حقٌّ من حقوقِه، وهو واجبُ الوقت، وإنْ كنتُ أرى أنَّ تعلُّمَ أحكامِ الصيام ينبغي أن يسبقَ دخول رمضان؛ حتى يتسنَّى لك الصيامُ الذي يُرضي اللهَ - تعالى - ولكن في رمضان يمكنك أن تتَّخِذَ من هذا الكتابِ بابًا للعلمِ والعمل والدَّعوة؛ وهاك بعض المقترحات:
القراءة الجديدة: لِتَكنْ خُطَّتُك مع هذا الكتاب: اكتب أفضلَ ما تقرأ، واحفظْ أفضل ما تكتب، وبلِّغ مَن حولك أفضلَ ما حفظتَ.
الإذاعة اليوميَّة: استخدم مادةَ هذا الكتابِ في التحضير لخاطرة يوميَّة في المسجد المُجاوِر، أو في مُصلَّى كليتك أو عملك؛ على ألاَّ تتجاوز الخاطرةُ 5 دقائق، وتكون عقبَ صلاةِ الظهر أو العصر.
الإذاعة الأسبوعيَّة: قدِّم نسخةً من هذا الكتابِ لإمام مسجدك مع إهداءٍ رقيق؛ لينتفعَ بها في خطبِ الجمعة الرَّمضانية، وتنال أنت أجرَ كلِّ من سمع الخطبة.
الحلقة التعليمية: اجعل هذا الكتابَ موضوعَ المدارسة مع شبابِ الحي في حلقةٍ مسجديَّة يومية عقب صلاةِ الفجر أو صلاة العصر، والاتفاق على الخروجِ بتوصياتٍ عمليَّة مناسبة.
اللوحات الإرشاديَّة: انتفع من مادةِ هذا الكتاب في عملِ لوحاتِ حائطٍ مسجديَّة، أو أخرى تُعلَّق في مداخلِ البيوت السكنية، والأماكن التعليمية.
الطُّعم اللذيذ: يمكنك وضع نُسَخ من هذا الكتابِ في مكتبة المسجد المجاور، أو أماكن الانتظار العامَّة؛ كالعياداتِ وغيرها؛ لتعمَّ الفائدة.
الوسيلة الرابعة والثلاثون: تدريب النفس على هجر المعاصي:
إذا كنتَ أخي ممن ابتُلي بمعصيةٍ أو فتنة، واعتادت عليها النَّفسُ وأَلِفَتْها، وأصبح الفراقُ عليها صعبًا ثقيلاً، فإنَّ رمضان فرصةٌ عظيمة للصبرِ والمثابرة ومجاهدةِ النفس عن تلك الفتنة؛ فالشياطينُ مُصفَّدة، والنفس منكسرة، والرُّوح متأثرة، والنَّاس من حولك صيامٌ قيام، إذًا فالأجواءُ والظروف كلُّها مهيَّئة للابتعادِ عن الفتنةِ والمعصية، فشهر رمضان فرصةٌ عظيمة لذلك.
وكذلك الابتعاد عن مُشاهدةِ الحرام، والغيبة والنَّميمة، أو استماع الأغاني، أو تَبْرئة اللِّسان، أو غيرها من السَّيئات، ولذا فأقولُ لك أخي الحبيب: استعن بالله، وكن صاحبَ عزيمة وهمة عالية، فلا تغلبك تلك الشَّهوة، ثم أيضًا عليك باللُّجوءِ إلى الله، واصبر وصابِر، وحاسبِ النفس، فستجد - إن شاء الله - أنَّك تغلبتَ على هذه الشهوات، والله معك، يعينُك ويوفقك.
الوسيلة الخامسة والثلاثون: السِّواك:
السواك: عودٌ من شجرِ الأراك، أو ما يقومُ مقامَه في تنظيف الفم وتطهيره، والتسوُّك يعني: دَلْكَ الأسنان وتنظيفها باستعمالِ السِّواك أو غيره، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتسوَّك في كلِّ أحيانه.
والسواك سُنَّة مؤكَّدة في كلِّ وقت من رمضان وغير رمضان؛ لعمومِ الأدلة، لكنَّها كغيرها من العباداتِ في مضاعفة الأجر والثواب لِمُناسبةِ الزَّمان، وهي من الأبوابِ التي يُغفَل عنها في رمضان.
نعم، لقد غفل كثيرٌ من المسلمين عن هذه السُّنة المباركة - ألا وهي استعمال السِّواك - مع أنَّ استعمالَه ينفع المسلمَ في دينه ودنياه؛ فأمَّا عن دينِه، ففيه من الأجرِ والثَّوابِ العظيم الكثير والكثير، ويكفي أنه مرضاةٌ للرب، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما روى مسلمٌ: ((السواكُ مطهَرةٌ للفم، مرضاةٌ للرب)).
وأما عن دنياه، فهو مطيبةٌ للفم؛ فإذا استعملَه الإنسانُ فإنَّ المادة الموجودة في السِّواك يجعلُها الله سببًا في القضاءِ على سبعين نوعًا من الميكروبات الموجودة في الفم والأسنان - كما نقل ذلك الشيخ/ محمودٌ المصريُّ - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخرجه أحمدُ وصححه الألباني: ((عليكم بالسواكِ؛ فإنَّه مطيبة للفم، مرضاة للربِّ))، ويمكنك أيضًا - كوسيلةٍ لاستثمار رمضان والعمر كلِّه - أن توفرَه لغيرِك، والدالُّ على الخيرِ كفاعلِه، كما في "الصحيحين".

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.53 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]