عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-04-2020, 04:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: “الحضارة الإسلامية-المسيحية”.. قراءة في مفهوم جديد

“الحضارة الإسلامية-المسيحية”.. قراءة في مفهوم جديد



تامر عبد الوهاب

ويرى بوليت أن تلك الحجج من السهل دحضها وتفنيدها. وحتى لو تم اختزال الأمر برمته في سؤال استفزازي من قبيل: هل حارب المسلمون المسيحيون وأظهروا كراهية تجاههم؟ وحتى لو كانت الإجابة هي نعم..حدث ذلك من وقت لآخر، لتظل الحقيقة التاريخية قائمة وهي أن هذه الأفعال والمشاعر كانت متبادلة بين الطرفين لأسباب تاريخية. و يمكن مواجهة هذا الإختزال بسؤال مقابل: ألم يصب البروتستانت اللعنة ومشاعر الازدراء والكراهية على الكاثوليك، وخاضوا ضدهم حروبا دموية مقيتة؟ ألم يسب مؤسسو البروتستانتية صرح العلم السكولاستي الذي شيده رجال الدين الكاثوليك على مدى أجيال، واستقلوا بأنفسهم عنه؟ وفي السياق نفسه، ألم يزدري المسيحيون الأولون اليهود لرفضهم الاعتراف بالمسيح ورفضهم التخلي عن القسم الأعظم من التعاليم القانونية والأخلاقية التلمودية بعد مجيء شرع جديد برسالة عيسى؟ ألم يبادل اليهود ازدراء هؤلاء بازدراء مقابل وأدانوا أولئك اليهود الذين عدلوا القانون وتحولوا إلى المسيحية؟ الإجابة نعم في كل الحالات، ولكن: صلات القرابة التي تربط بين البروتستانتية والكاثوليكية وبين المسيحية واليهودية، والتي هي بمثابة الشيء المقدس في روايتنا المهيمنة عن الحضارة اليهودية المسيحية، أضحت تعتمد على الاحترام المتبادل والعلاقات السلمية أكثر من اعتمادها على العامل التاريخي. ربما أعمل البروتستانت والكاثوليك الذبح في بعضهما البعض بالماضي، وربما حط المسيحيون من قدر اليهود وأعملوا فيهم المجازر، لكن تقديرنا اليوم للرباط الحضاري بين البروتستانت والكاثوليك واليهود بمأمن من تلك الذكريات التاريخية البائسة، فلماذا يتم استثناء الإسلام؟!
الرد الذي يقدمه بوليت هو أن العداء السائد في الغرب للإسلام هو إرث رؤية مسيحية للتاريخ تتعمد إقصاء الإسلام. فالمسيحيين الغربيين اعتبروا طيلة قرون أن الإسلام هو ذلك الآخر الحاقد، وابتكروا العديد من الأسباب لتبرير تمسكهم بتلك الرؤية. لكن الواقع أن تلك الأسباب واهنة. والدعاية الصاخبة ضد المسلمين في هذه الأيام مهتمة بترديد الإشاعات الإسلاموفوبية التي تنتمي إلى قرون سابقة، حتى أقل من اهتمامها بإيجاد صياغات جديدة للكراهيات القديمة!
فهل يمكن تطوير العلاقة نحو نظام مشترك يمثل حضارة إسلامية-مسيحية ؟
بالرغم من صعوبة تحديد النسبة الحقيقية لتعداد الجاليات المسيحية التي عاشت في إسبانيا وشمال أفريقيا ومصر والشرق (أي النهاية الشرقية للمتوسط) والجزيرة العربية وإيران، لكن يكفي الإشارة إلى أن هذه المناطق ضمت ثلاثة، من إجمالي أربعة مراكز بطريركية (القدس والإسكندرية وإنطاكية) ، وأنجبت أغلب المفكرين والكتاب البارزين في المسيحية في عصورهم.
وعندما وقع الشطر الأكبر من إسبانيا في قبضة المسلمين عام 711م، كانت الغالبية العظمى من سكان أوروبا باستثناء إيطاليا وبعض المناطق المسيحية في فرنسا – أي أغلب سكان ألمانيا وبولندا واسكندنافيا والجزر البريطانية والأراضي المنخفضة وشمال فرنسا- كانوا لا يزالون يعبدون أربابا شتى ويعتقدون في تعدد الآلهة، إن لم يكن على المستوى العام، فعلى المستوى الخاص.
على النقيض من ذلك، كان من النادر وجود المؤمنين بتعدد الآلهة في أراضي الخلافة الإسلامية. فإلى الغرب من إيران، كانت الغالبية العظمى من الشعوب التي ضمها المسلمون تدين بالمسيحية أو اليهودية بصورة أو بأخرى.
وإذا انتقلنا إلى التحول في الهوية الدينية والاجتماعية، الذي حدث تدريجيا وعلى مدى قرون في إطار الإمبراطورية الإسلامية، فقد جرت عملية يمكن تسميتها بالـ “أسلمة”، وفي المقابل منها كانت عملية “التنصير” Christianization التي تمت في غرب وشمال أوروبا، لكن الإسلام واجه موقفا مختلفا وربما أسهل بصورة ما. حيث كان على المسيحيين اللاتينيين الاعتراف بالعديد من الممارسات التي ترجع إلى ما قبل المسيحية، بدءا من شجرة عيد الميلاد وحتى الاعتراف ببعض اللاهوتيين كقديسيين مسيحيين، خطبا لود غير المسيحيين في غرب أوروبا، لكنهم في الوقت نفسه عملوا على محو معتقدات وشعائر أخرى. في المقابل، كانت الغالبية من غير المسلمين، الذين أصبحوا رعايا في ظل الدولة الإسلامية، يتبنون بالفعل دينا كتابيا توحيديا. في هذا الصدد، يصدق القول بأن مواصلة محمد لمسيرة المسيح بعد ستة قرون قد عززت من إمكانية انتشار الإسلام بسهولة عن المسيحية اللاتينية. فأتباع الديانات الكتابية الموحدة كان عليهم أن يقطعوا مسافة أقصر كثيرا على المستوى الأخلاقي والعقائدي والتنظيمي حتى يتحولوا للإسلام، من تلك التي يجب قطعها من قبل الأوروبيين المخلصين لووتان وثور وجيوبيتر وايبونا وميركوري والعديد من الآلهة الأخرى حيث لم يطور معتنقوها دينا كتابيا مناظرا.
إن مسألة التسامح هي أحد بنود الجدل المعاصر في المقارنة بين الإسلام والغرب . فمنذ أمد طويل يعتبر المصابون بالإسلاموفوبيا أن الإسلام ذو طبيعة غير متسامحة لا تتغير لأنه يحرم اليهود والمسيحيين من المساواة الدينية الكاملة. في المقابل، يركز الرد الإسلامي على الفترات الطويلة من التعايش السلمي ذو الاستفادة المتبادلة على مدى القرون التي شهدت طرد المسيحية اللاتينية للأقليات اليهودية والإسلامية ثم الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت.
وفي الوقت نفسه، عمل الإسلام على إقناع أتباعه بجدال معتنقي الديانات التوحيدية، ولكن بالتي هي أحسن، حتى يتخلوا عن طرق أسلافهم وينضموا إلى جماعة المسلمين. في حين كان منهج المسيحيين في أوروبا في محو عقائد الشرك إشهار أسلحة عدم التسامح الديني، والتي جاءت في شكل فرض المحظورات والطرد ومحاكم التفتيش والحكم بالحرمان الكنسي وتوجيه الاتهامات بالهرطقة، بما يعكس تفاوتا جذريا في فهم التسامح يبرز فيه النموذج الإسلامي.
وفضلا عن تشابه الدور الذي لعبه العلماء ورجال الدين في الحضارتين، تشبه الجامعات المسيحية التي ظهرت بعد ذلك بوقت قصير في المدن الأوروبية الرئيسية، المدارس العلمية الإسلامية بشدة سواء في تنظيمها وفي مقتربها الأكاديمي، حتى أن بعض الباحثين يذهبون إلى القول بحتمية وجود تأثير مباشر من هذه المؤسسات.
من فهم الماضي ..إلى استشراف المستقبل

نزع المسيحيون اللاتينيون إلى الانغلاق على أنفسهم خلال القرون المبكرة، فكانت معرفتهم عن الإسلام بسيطة جدا. كان المسيحيون الأرثوذكس، في المقابل، على دراية واسعة بالإسلام وشهدوا بتوجس ضياع الإقليم البيزنطي والانكماش المطرد في أعداد الجماعة المسيحية مع تسارع وتيرة التحول للإسلام. وقد وصف بعضهم المواجهة بين المسيحية والإسلام بأنها مواجهة بين الأخلاق والتقوى الحقة ضد فتنة الثروة والقوة واللاأخلاقية الدنيوية، وهذه بالضبط نفس الرؤية التي يتبناها الأيديولوجيون المسلمون في القرن العشرين للصراع الإسلامي-المسيحي. كان أباطرة بيزنطة قد تحملوا مسئولية الحفاظ على قوة المسيحية في الأراضي المجاورة لدولة الخلافة، وكانت أرائهم نادرا ما تلتقي مع أراء باباوات وملوك المسيحية اللاتينية، إلا أنهم تجاوزوا مسألة عدم الاتفاق فيما بينهم من أجل القيام بعمل مسلح مشترك ضد الحكم الإسلامي في الأراضي المقدسة. فأطلقوا صيحات التحذير التي لم تساعد فقط في تحفيز الحركة الصليبية، التي أسفرت عن أول اتصال مباشر بين الإسلام والمسيحية اللاتينية، بل وفي تعميق العداء فيما بينهما.
ففي الفترة بين 1095 و1250، شن الصليبيون اللاتينيون،بمساعدة البيزنطيين في أحيان متفرقة، سلسلة من الهجمات على الحكام المسلمين بالأراضي المقدسة، وأقاموا بصفة مبدئية أربع إمارات على الطرف الشرقي للبحر المتوسط، والتي كانوا يطلقون عليها “أعالي البحار”. وعادة ما يعتبر التأريخ السياسي للحملات الصليبية رغبة القواد وحماسهم الديني بمثابة دوافع مسيحية رئيسية في استعادة الأرض، في حين تمت ترقية هؤلاء القواد إلى طبقة النبلاء على خلفية استعادة الأرض. كما جنت المدن التجارية الإيطالية، مثل بيزا وجنوة والبندقية، فوائد جمة على المستوى الاقتصادي، تركزت في الرسوم المفروضة على مرور الحملات الصليبية وفي التجارة المتنامية وقتئذٍ مع الأراضي الإسلامية. وفيما طغت سيرة المعارك والتحالفات في المرويات التاريخية، وفي المحكيات الأقل رسمية التي أنشأها المقاتلون الصليبيون، فقد شكلت المعاملات التي جرت في وقت السلم معظم فعاليات الاتصال الثقافي الذي حدثت في تلك الفترة.
ففي إسبانيا، التي شنت حملات مسيحية ضد الإمارات الإسلامية بالتوازي مع الحملات الصليبية، انتهز الدارسون المسيحيون لحظات السلم وقاموا بترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية، ثم نقلوا هذه الترجمات إلى فرنسا وإيطاليا. كما توفرت ترجمة المخطوطات العربية واليونانية في صقلية، تلك المدينة الإسلامية التي ضمها غزاة من شمال فرنسا في العقود السابقة على الحملات الصليبية. أما في البلاد الصليبية نفسها وفي البلاد الإسلامية التي تم ضمها، فقد تعرف التجار الإيطاليون والنبلاء الأوروبيون، الذين أصبحوا من سكان هذه البلاد، على تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الإسلامي ونقلوا العادات والأفكار المحلية إلى مجتمعاتهم الأصلية عند عودتهم.
ونتيجة لوفرة المؤثرات القادمة من الأراضي الإسلامية خلال هذه الفترة، حدث تحول في العديد من مظاهر الحياة الأوروبية. وضمت المؤثرات الإسلامية العديد من المجالات، منها الفلسفة (شروح أرسطو)، اللاهوت (أعمال ابن رشد)، الرياضيات (الترقيم العربي)، الكيمياء (البارود)، الطب (تقنيات الجراحة)، الموسيقى (العزف على العود، وأغاني التروبادور في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا)، الأدب (القصص التي تضمنتها الأعمال الأدبية الإيطالية)، التصنيع (الزجاج، والورق، والطباعة الخشبية)، الطهي (المكرونة، والسكر)، بالإضافة إلى وسائل الترف والتسلية في الحياة اليومية. وبالرغم من أن مناطق جنوب أوروبا كانت الأكثر تأثرا بالرؤى الفلسفية الإسلامية، إلا أن هذه الرؤى تغلغلت كذلك داخل الجامعات بشمال أوروبا،وإسبانيا وصقلية اللتين كانتا مركزا لنشاط المؤثرات الإسلامية. ويرى بوليت أننا إذا ما قمنا بإجراء مقارنة بين الافتقار إلى مناقشة المؤثرات الثقافية الإسلامية من جهة والوعي الغربي المفرط بالحملات الصليبية من جهة أخرى، يتضح لنا بالبرهان أن قراءة العلاقات المسيحية-الإسلامية باعتبارها قائمة على العداء بدلا من الإثمار هي قراءة مغرضة ومتحيزة.
وتتشابه أخلاقيات الأخوة الصوفية بصورة مدهشة مع أخلاقيات الحركات المتتابعة داخل المسيحية اللاتينية.ومن أهم صور التشابه بين الاثنين التفاني العام والزهد كتعبير عن الانصراف عن الشئون الدنيوية ، والتصوف، واستخدام اللغات العامية، والتنظيمات المدينية المتغلغلة في صميم الريف، واتخاذ الشخصيات الورعة المتاح الاتصال بها على المستوى المحلي كنماذج أخلاقية بدلا من طائفة العلماء ورجال الأكليروس المفرطين في الاهتمام بالنواحي التشريعية. وفيما أثبتت تلك الاستجابات للمطالب الدينية الشعبية نجاحها في ذلك العصر، فإنها لا تزال محكمة حتى يومنا الحالي. وفيما طابقت أعداد هائلة من التنظيمات الشعبية الإسلامية (وغالبا من ذوي التوجه السياسي الدوجماطيقي) بوعي أو بدون وعي نموذج الإخوانية الصوفية، فإن ما يوازيه في المسيحية هو الانتشار المعاصر للطوائف الجديدة، خاصة داخل البروتستانتية الإنجيلية.
لقد ظل المسلمون والمسيحيون أسرى لعداوة متبادلة منذ بداية القرن السادس عشر، لكن أحداث التاريخ حملت صراعهما إلى ميادين أخرى. ففيما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، قام المغول والتتار بسلسلة من الاعتداءات التي عرضت مسلمي الشرق الأوسط إلى مؤثرات جديدة من وسط آسيا والصين، بينما في الفترة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر تفتحت عيون الأوروبيين على سلسلة من الاكتشافات البحرية لعوالم مثيرة وجديدة في كل من أفريقيا وآسيا والنصف الغربي من الكرة الأرضية. هذه الخبرات شكلت المستقبل الاقتصادي والسياسي لكل من المسيحية الغربية والإسلام. فقد كافح الأمراء المسلمون اللاحقون على مدى قرون لاستعادة الأراضي الشاسعة والغنية من جانكيز خان، بينما أصبح الأوروبيون – فيما عدا روسيا التي خضعت هي الأخرى لخبرة الحكم المغولي- إمبراطورية ذات قوة بحرية.
إذا ما نظرنا إلى الإسلام والمسيحية معا، فسنجد أثر عقيدة التوحيد الكتابية في التقاليد السامية (نسبة لأبناء سام) واضحا. لكن إذا نظرنا بشيء من التوسع على الفترة الممتدة بين 1500 و1900، فسنجد اختلافات حديثة العهد فيما بين العالمين المسيحي الغربي والإسلامي. ومن المعتاد في الفكر التاريخي الأوروأمريكي الحديث اعتبار أن أوروبا انطلقت للأمام خلال تلك الفترة، بينما تركت العالم الإسلامي في ذل وهوان. وعادة ما يوصف مسار الإسلام في هذه القرون بأوصاف من على شاكلة “انحدار”، و”جمود”، و”رجعية”، وهو أمر موجع خاصة في ظل المجد الذي بلغه الإسلام في القرون السابقة، كما يتم التسليم بأن التباين في الثروة والقوة المادية الذي كان في صالح المسلمين قبل القرن السادس عشر قد تحول بشكل واضح لصالح المسيحيين الغربيين.
لكن ربما يمكننا النظر إلى هذه الأمور بطريقة أخرى. فبدلا من الاستعلام عن الغنى الإمبريالي، كان للفرد أن يسأل عن نسبة المسلمين المنحدرين عن أناس تحولوا إلى الإسلام في الفترة بين 1500 و1900 من إجمالي عدد المسلمين في العالم اليوم. هذه النسبة ستتجاوز بالتأكيد الـ 50% وتضم: الغالبية العظمى من بنجلادش وماليزيا وإندونيسيا؛ جماعات عديدة في أفريقيا جنوب الصحراء؛ معظم مسلمي باكستان والهند والصين؛ جزء كبير من المسلمين في أوروبا ووسط آسيا. على النقيض من ذلك، إذا ما تساءل الفرد عن النسبة التي يشكلها الرومان الكاثوليك والبروتستانت المنحدرين عن أناس تحولوا إلى المسيحية في الفترة بين 1500 و1900 من إجمالي عدد المسيحيين في العالم اليوم، فإن الإجابة ستكون بالتأكيد أقل من 20%، وستنخفض تلك النسبة كثيرا إذا ما استبعدنا المسيحيين في الأمريكتين وأستراليا وجزر المحيط الهادي، والثلث الجنوبي من أفريقيا ، حيث لم يواجه الأوروبيين في تلك الأراضي دينا يمكن اعتباره منافسا. لقد تنافس الإسلام والمسيحية رأسا لرأس على وجدان السكان الأصليين في الكتلة العمرانية الأفرو-أورو-أسيوية الشاسعة وفي منطقة جنوب شرق آسيا المجاورة، وقد حسم الإسلام الأمر لصالحه بلا جدال.
وعلى ذلك، إذا ما كان لنا اليوم أن نقيم نجاح نظامي الاجتماع- الديني المتنافسين على المدى الطويل، فسنكون بالتالي، وتبعا لإنجازيهما على مدار القرون الأخيرة، مجبرين على استنتاج أن الإسلام قد انطلق بحسم للأمام بين 1500 و1900، بينما “انحدرت” و”تجمدت” و”تراجعت” المسيحية الأوروبية في النهاية، بعد بداية نشطة.
فالفوز بقلوب البشر، كمؤشر على النجاح، كان له الأسبقية على الثروة والقوة منذ فجر المسيحية وحتى القرن التاسع عشر،وما زال الوضع كذلك إلى اليوم في دوائر المسيحية الإنجيلية. وبالطبع لم يحدث التحول في مجال مؤشرات التقييم نتيجة للتقدم الذي أحرزه الإسلام على المسيحية في مجال نشر الدين. فلا يجب أن ننسى أن المسيحيين نزعوا إلى اعتبار الإسلام شكلا من أشكال البربرية، وادعوا أن نجاحه مستمد من سطحيته العقيدية ومن تسهيله للشرك. لكن فعالية الدعوة الإسلامية خلال الفترة المسماة بالانحدار، في مقابل ركود الدعوة المسيحية، ليس بالأمر المشكوك فيه. كما لا يمكن إنكار أن النجاح الهائل لكل من الإسلام والمسيحية في أن يصبحا الدينين المهيمنين عالميا خلال القرون الخمسة المنقضية يمثل ظاهرة تاريخية فريدة.

الفارق بين أطروحة “صراع الحضارات” و”أطروحة الحضارة الإسلامية-المسيحية” أنه وفقا لأطروحة “صدام الحضارات”، فإن الغرب (اليهودي-المسيحي) كان وسيظل دائما في تضاد مع الإسلام. ووفقا لنموذج “الحضارة الإسلامية-المسيحية”، فإن الإسلام والغرب هما توأم تاريخي لا يمنع افتراقهما في المسار من الوعي بالمشتركات بينهما. وأفضل طريقة لإثبات ذلك هو التساؤل حول ما إذا كان ثمة اختلاف حقيقي اليوم بين المجتمعات الإسلامية والغربية على تنوعها.
إن ثمة تطابقا في نظرة كلا المجتمعين إلى بعضهما البعض. فالمتخصصون الأمريكيون في الإسلام يصورون الإسلام الثوري على أنه الصوت المهيمن في العالم الإسلامي، ونادرا ما يعترفوا بوجود أصوات ليبرالية. في الوقت نفسه، يرون أن “اليمين الديني” الأمريكي شيء مختلف تماما: فهو قوة أخلاقية من أجل الخير إذا كانوا هم أنفسهم ينتمون إلى ذات المعسكر، أو هو ظاهرة ضالة ومعادية للديمقراطية لا يمكن تفسيرها. على الجانب الآخر، نجد أن المحللين المسلمين، سواء إسلاميين أو علمانيين، يرون أمريكا أرضا علمانية للخطيئة وللاتجار بالقيم وللسطحية، ويبدون كمن لا يدرك بالكلية الطيبات محل الإعجاب التي يمارسها الأمريكيون في حياتهم اليومية. ولا يجد العلمانيون والإسلاميون أي فائدة تذكر من “اليمين الديني” الأمريكي خاصة في ظل الود الذي يجمعه بالصهيونية. وفيما يخص مجتمعاتهم، نجد المسلمين الليبراليين يتأسون لوجود الإسلام المسلح ويتمنون رحيله، بينما يرى الإسلام الثوري الليبراليين المحليين كعملاء للنفوذ الأمريكي أو محرضين على الدكتاتورية. والسائد أن كلا الشقيقين لا يبدو قادرا على رؤية نفسه وتوأمه بطريقة شاملة ومتوازنة، لأن كلاهما غير مؤهل للتعرف على نفسه في المرآة.
وأخيراً إذا ما انتقلنا من التشابهات في التطور داخل المذاهب والمدارس للتطور التاريخي لدور الدين في المجال العام وبخاصة لجدل العلمانية الحديث والمتجدد في الغرب والقلق بشأن ارتباط الدين بالدولة في الخبرة الإسلامية، سنجد أن العلمانيون الغربيون –خاصة في مجال الدراسات الأكاديمية- يؤيدون بتعاطف شعار فصل الكنيسة عن الدولة كشرط لنهضة العالم الإٍسلامي من ناحية وإمكان التواصل والتعاون معه من ناحية أخرى.
هنا علينا أن ندرك أن هناك اختلافات في التطور التاريخي للحضارات، وأن هذا الاختلاف لا يمكن القفز فزقه وليس من المفيد السعي المحموم لإلغاءه، فلم تحدث تلك القطيعة بين الكنيسة والدولة في الإسلام. وفي حين ظل القانون الإسلامي ذي صلاحية كونية ودون تحدٍ، على المستوى النظري، تقهقر القانون الكنسي الكاثوليكي أمام الإرادة الملكية فيما بعد اتفاقية ويستفاليا التي أسست الدولة القومية في القرن الـ17، ولم يتوصل البروتستانت أبدا إلى فلسفة قانونية شاملة خاصة بهم.
وختاما يؤكد بوليت على أننا إذا ما أمعنا النظر في العالم الإسلامي-المسيحي، في إطاره الكلي ومن وجهة النظر التاريخية، نجد أن ما يربطه أكثر بكثير مما يفرقه. ولا يمكن فهم ماضي ومستقبل الغرب بصورة كلية إذا لم نقدر علاقة التوأمة التي جمعت الغرب بالإسـلام طيلة أربعة عشر قرنا، والقول نفسه يصدق بالنسبة للعالـم الإسلامـي. إن الدعوى خلف صك مفهوم الحضارة الإسلامية-المسيحية كمبدأ تنظيمي للفكر المعاصر تضرب بجذورها في الحقيقة التاريخية التي تفيض بها تلك القرون. ويأمل بوليت في أن يدرك مؤرخو الحضارة الغربية والإسلام القيمة المضافة من إعادة ضبط وجهات نظرهم بحيث تأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة ودعوى الحضارة الإسلامية-المسيحية تتأسس بشكل مباشر على التنبيه لحاجة الأمريكيين كافة إلى إيجاد أساس مشترك مع مسلمي الغرب في وقت يهدد فيه الشك، والخوف، والديماجوجية العلاقة بينهم. فالحضارة الإسلامية-المسيحية هي مفهوم يقدم فرصة تاريخية لتحقيق الاندماج الديني والاجتماعي داخل الغرب، وبين الغرب وعالم الإسلام في زمن العولمة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.32 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.03%)]