عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-09-2020, 02:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي رد: منهج القرآن في مجادلة الحيارى المرتدين ومكرة المشركين

وقال عن المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويخوضون في آيات الله أو يستهزؤون بها:
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 64 - 66]


وقال عن الجهلة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴾ [الحج 3].
وقال عن علماء السوء والمتلبسين بشعار الدعوة من المتحزبين والمتاجرين بالدين وخدام السلاطين: ﴿ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91].


وقد عالج الوحي الكريم بقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68]، معضلة الأقلية المسلمة في المجتمع غير المسلم من المرحلة المكية بحكمة بالغة، إذ أمر بالإعراض عن الخائضين في آيات الله والمستهزئين بها، وترك مجالستهم، فإن جالسهم المؤمن ناسيا وجب عليه أن يعرض عنهم وينصرف عن مجلسهم حال تذكر تحريم الله تعالى ذلك، ثم بين حكم الله في حالتي الإعراض عنهم ابتداء والإعراض عنهم بعد مجالستهم نسيانا فقال تعالى:
﴿ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 69]، أي ليس على الذين يتقون مجالستهم ويتجنبونها حساب ما يرتكبه المشركون من إثم، سواء في حالتي الإعراض عنهم ابتداء أو الإعراض بعد المجالسة نسيانا، لا يسألون عن ذلك لأن الإسلام لا يعاقب امرءا بذنب غيره، ولا بما يرتكبه نسيانا وخطأ واستكراها، لقوله صلى الله عليه وسلم(رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).


وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ [الأنعام: 68] قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 69] الخوض ﴿ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 69] أي: ليس عليهم شيء من آثام الخائضين. ﴿ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 69] ولكن مقاطعة مجالس المشركين أو مغادرتها تذكير لهم بحرمات الله عز وجل وآياته وكلماته، لعلهم يتقون الخوض ويحذرون إثم ما يفعلون فيجتنبوه.


وقد نزل هذا التشريع في المرحلة المكية رخصة للمسلمين وهم قلة مستضعفون. كما هو حال من يستوطن في عصرنا هذا بلادا لغير المسلمين. أما في المرحلة المدنية حيث المجتمع المسلم المتكامل والكثافة السكانية من المسلمين، والكفار فيهم قليل، فقد حرم الحق سبحانه مجالسة الخائضين في آيات الله تحريما قاطعا لم يجعل له رخصة، وعده نفاقا يصل حد الكفر فقال تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140].


وفي الحالين، حال الاستضعاف وحال الاستقواء لم يبح الشرع للمسلم مجادلتهم بالسّوأى، ومنع العدوان اللفظي والمادي عليهم بأي شكل من الأشكال، وأمر بمعاملة الجميع في القضايا الدنيوية بالأحسن من القول والمعاملة، وقال عز وجل: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 96]، أما حين يصدر عنهم ما يسيء إلى العقيدة وثوابتها مجادلة أو سخرية أو استهزاء فالواجب على المؤمن أن ينصرف عنهم ولا يحضر مجالسهم إلا للضرورة، لذلك عقب تعالى بقوله:
﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ [الأنعام: 70]، أي اتركهم وانصرف عن مجالسهم ولا تبادلهم جدلا بجدل، أو استهزاء باستهزاء، سواء كانوا من المشركين أو كانوا من الذين يدَّعون الإسلام ولم يرعوا له حرمة واتخذوه لعبا ولهوا، وقال فيهم الحق سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66].


ثم بين سبحانه ما ينبغي للمؤمن القيام به بدل مجادلة الهازئين فقال: ﴿ وَذَكِّرْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 70] أي ذكر الناس بالقرآن وتعاليمه وآياته، وحذرهم حساب الآخرة وعذابها قبلَ ﴿ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [الأنعام: 70] أن تهلك أنفسهم بما اكتسبوه من إثم الكفر والشرك والعدوان ﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ﴾ [الأنعام: 70] أي: وليس لها يوم القيامة ولي يحميها من العذاب أو شفيع يشفع لها بين يدي الله ﴿ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 70] ولفظ: "العدل" في هذه الآية لغة هو مماثل الشيء من غير جنسه، وقيمة الشيء وفداؤه. أي: وإن تحاول أن تفتدي نفسها من العذاب لا تقبل منها فدية، كما في قوله تعالى: ﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ﴾ [المعارج: 11 - 15]. ثم بين عز وجل ما أُبسِلوا به وارتهنوا وحُبِسوا وقال:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ﴾ [الأنعام: 70] هؤلاء هم الذين هلكوا بما ارتكبوه من شرك وما اكتسبوه من آثام ﴿ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [الأنعام: 70]، والحميم صديد سائل حار يشربون منه فيصهر به ما في بطونهم، ويصب من فوق رؤوسهم فتحترق به جلودهم، كما في قوله تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴾ [الحج: 19، 20]. وقوله عز وجل: ﴿ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ [إبراهيم: 16، 17]. ولئن كانت هذه الآية قد ذكرت العذاب الأليم مجملا، فإن عددا من آيات أخرى في القرآن الكريم قد فصلته تفصيلا وبينت أصنافه تبيينا، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ﴾ [الدخان: 43 - 50]


ثم بنوع من الالتفات العقدي وصيغة الاستنكار للشرك خوطب المؤمنون من خلال خطاب الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ﴾ [الأنعام: 71] كيف نعبد ما سوى الله مما لا ينفعنا ولا يضرنا ﴿ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 71] وكيف نعود إلى الكفر بعد أن أنقذنا الله منه وهدانا إلى الإيمان؟


وهذه الآية الكريمة تعريض بطائفة من المشركين والمنافقين كانوا يعلنون الإسلام أول النهار ويرتدون آخره توهينا لصف المسلمين وتشكيكا لهم في دينهم وتحريضا لضعفة الإيمان على الردة، وقال فيهم الحق سبحانه: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون ﴾ [آل عمران 72]، مثل ما تقوم به بعض المنظمات المعادية للإسلام حاليا في قنوات التواصل الإعلامي الموجهة إلى المسلمين. وقد شبهت هذه الآية الكريمة المرتد عن دينه بالذي يمشي القهقرى، وجهه إلى الأمام وخطواته تسير إلى الخلف خداعا ومكرا، يظهر الولاء للإسلام ويشحذ سيفه للقضاء على أبنائه.


كما أنها أيضا تعريض بصنف آخر من المرتدين، لم يستوعب الإيمان قلب أحد منهم ولم يثبت عليه وهو حائر بين طريق الحق وطرق الباطل، وأدى به اضطرابه وحيرته إلى الردة ومفارقة أهل الإيمان الذين أشفقوا عليه وأخذوا ينادونه ويدعونه إلى التوبة، فشبهه الوحي بالتائه الهائم في أرض عراء موحشة مضلة لا معالم فيها للإيمان والرشد بقوله تعالى:
﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ ﴾ [الأنعام: 71]، وقوله ﴿ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ ﴾ [الأنعام: 71] من فعل "استهواه" الشيء إذا أفرط في التعلق به، أو أفقده عقلَه وصواَبه فرْطُ حبه، كالذي يستهويه القمار والخمر، أو يولع بالصيد أو بأبواب السلاطين، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)، وكان العرب يعُدّون المجنون إذا تاه والمعتوه إذا انطلق في الصحراء لا يلوي على شيء قد استهوته الشياطين أو تسلط عليه الجن وأفقدوه صوابه فتاه في البراري.


وجاء التعبير القرآني استعمالا مجازيا للمحتار في دينه حَيرةً حملته على الردة ومفارقةِ من كان معه من المؤمنين الذين عزَّ عليهم مفارقتُه دينَه وابتعادُه عنهم، فأخذوا يدعونه للتوبة والعودة إليهم وإلى صراط الله المستقيم كما عبر الوحي عن ذلك بقوله تعالى: ﴿ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ﴾ [الأنعام: 71] أي: له إخوة في العقيدة التي كان عليها، مشفقون عليه ويبذلون له النصح ويدعونه إلى التوبة والعودة للحق بقولهم له: ﴿ ائْتِنَا ﴾ [الأنعام: 71] أي: عُدْ إلينا فنحن إخوانك في الله كما عهِدْتَنا ولا نتخلى عنك إن تبت ورجعت.


إن هؤلاء المؤمنين الذين يحرصون على إنقاذه من حيرة أدت به إلى الكفر، ويظنون أنهم يردونه إلى الإيمان، قد أغفلوا حقيقة ربانية ينساها أحيانا دعاة الوفاء والصدق، هي أن الإيمان فضيلة عظيمة بيد الله تعالى يهبها بحكمته وعلمه ورحمته ولطفه لمن يصطفيهم من عباده، لذلك عقب الحق سبحانه بقوله للرسول صلى الله عليه وسلم:
﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام 71]، أي قل لمن أشفقوا على الضال الحائر المصر على الكفر بعد أن دعوه للتوبة فأبى: إنكم لا تملكون هدايته وإن قلبه بيد الله يصرفه كيف يشاء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلمإن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)، وليس عليكم إلا أن تقوموا بما فرض عليكم وهو:
أن تدعوا الناس جميعا إلى الحق وتُسمِعوهم أمرَ الله الذي أُمِرْتم به، وكلمةَ التوحيد التي أقررتم بها إذ قلتم:
﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 71] نسلم له تعالى ونذعن لأوامره ونواهيه بالطاعة والامتثال، أما أمر هداية من استهواه الشيطان وارتد بعد إيمان، أو أصر على الشرك ابتداء، فليس من شأنكم هدايته أو إنقاذه من الضلالة،،قال تعالى:﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء ﴾ [البقرة: 272]، وقال: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]، وقال: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128].


ثم أن تدعوهم لإقامة الصلاة التي أُمِرتم بها: ﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [الأنعام: 72] وبالتقوى التي هي قوامها ﴿ وَاتَّقُوهُ ﴾ [الأنعام: 72]، ومن التقوى أن تنهاكم صلاتكم عن الفحشاء والمنكر لقوله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت 45].


كما أن من التقوى أن تتذكروا ما أنتم صائرون إليه، وتستعدوا له، وتستحضروا موقفكم بين يدي الله:
﴿ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 72] تبعثون بعد الموت وتحشرون للحساب والجزاء، حياتكم وموتكم وحشركم بيده سبحانه، لأنه الخالق المدبر للكون كله.


﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 73] خلقهما بالحق الذي هو علمه وحكمته وكلمته وأمره وصنعه كما قال عز وجل: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت 11]، لم يخلقهما عز وجل لعبا أو عبثا ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [الدخان 38]. أمْرُه تعالى خلقا وتقديرا، وتدبيرُه تكوينا وتسييرا، وإيجادا وإفناء، أن يقول للشيء كن فيكون:
﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [الأنعام: 73] كذلك قوله يوم حشركم وحسابكم إذ يأمر بهما ﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ ﴾ [الأنعام: 73] الذي به قامت السموات والأرض ﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ ﴾ [الأنعام: 73] الذي يتصرف فيه كيف يشاء، ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ [الأنعام: 73] النفخة الأولى لقيام الساعة: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الزمر 68]، والنفخة الثانية للبعث والحشر والحساب، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر 68]، وقال: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ﴾ [الكهف 99].


كل ذلك بتقديره عز وجل وعلمه وأمره، لأنه تعالى:
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام 73]، يعلم ما غاب عن الخلائق وجودا وعدما وحركة وسكونا وإحياء وإماتة، وظاهرا وخفيا، لأن الغيب من مخلوقاته وبيده أمره، أما الشهادة فهي ما خلقه سبحانه مشاهدا معلوما، أو يحتمل العلم به ومشاهدته والاطلاع عليه أو اكتشافه، أو مسخرا للناس أو عليهم.


﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ [الأنعام: 73] ولأنه هو وحده تام الحكمة مطلقها، لم يخلق شيئا إلا في محله ووقته وأجله والغاية منه، لا يرى أي خلل أو تفاوت فيما خلق أو قدر أو أحيى أو أمات أو أمر أو نهى أو شرع أو أخبر، سبحانه ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [الملك 3]، ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 73] ولأنه وحده هو الخبير بجميع أسرار الكون وما فيه من الخلائق مبدأ ومعادا وآجالا وغاية، ومستودعا ومستقرا وموارد ومصادر ومسارا، لا يخفى عليه شيء من نواياهم وأحوالهم وأفعالهم، وسرهم وعلانيتهم، ولا معقب لأمره لهم ولا راد لكلمته فيهم.


إن المرء إذا ما أسلم وجهه لله تعالى حرر عقله من أغلال الجهل والهوى، ومن أسر الرغبات الجامحة والشهوات الطامحة والمشاعر الرديئة العمياء، وإن أعرض عن الإسلام وجحد فضل الله على الأنام، سجن عقله في بلادته، وارتهنه في ظلام أنانيته وعزته بالإثم، واستل سيفَ الجدل التافه السخيف يدفع به نور الحق، وجهالةَ المِراء يصدُّ بها يقينَ المعرفة، وظلام الباطل يبتاع به مهالك الدنيا والآخرة، وهو في هذه الحالة أصمُّ عن سماع الحق أعمى عن رؤيته، كلما حاولتَ ردَّه عن ضلالاته أو كفَّه عن سفاهاته استدرجك إلى بذاءاته ومساءاته، فمثله كمثل المسعور إن اقتربت منه عضك أو حاولت نصحه نهشك، في مثل هذه الحالات لا ينفع إلا الإعراض عنه، والترفع عن الجدل والمماحكة معه، لعل بارقة من الحياء والفهم تمرُق في ساعة هدوء إلى عقله وفؤاده، فتحدث له نورا يهديه وطريقا مستقيما يؤويه.


إن الإعراض عن سفهاء الشرك والنفاق والجهل دواء دائهم وعلاج عمائهم وصممهم وغبائهم، وقد قال الله تعالى عن المشركين:﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأعراف 106]، وقال عن الجاهلين: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف 199]، وقال عن المنافقين: ﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة 95]. ومن أصدق من الله قيلاً وأحسن تأويلاً.



[1] قال مجاهد وابن جبير: قائل هذا هو النضر بن الحارث، وقال أنس بن مالك: قائله أبو جهل، وحُكِي أن ابن عباس لقيه رجل من اليهود فقال اليهودي: ممن أنت؟، قال ابن عباس: من قريش، فقال اليهودي: أنت من القوم الذين قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك..الآية"، فهلا عليهم أن يقولوا إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، إن هؤلاء قوم يجهلون.

[2] انصر أخاك ظالما أو مظلوما: مثل عربي من الجاهلية تناولته حكمة النبوة فقومت مساره في الحديث الصحيح: (اتصر أخاك ظالما أو مظلوما، إن يك ظالما فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوما فانصره)، وفي رواية أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، فقال رجل: يارسول الله: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: (تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه) متفق عليه.

[3] رواه الترمذي وحسنه.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]