عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-07-2019, 01:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,931
الدولة : Egypt
افتراضي الكتابة باللغة العربيّة بَين الواقع وَالطمُوح

الكتابة باللغة العربيّة بَين الواقع وَالطمُوح
سَمر روحي الفيصَل


الكتابة كلمة غامضة جداً لتعدد معانيها واتساع دلالتها. والمشكلة التي نعاني منها هي أن هذه الكلمة مألوفة، كثيرة الدوران على الألسنة والأقلام، حتى أن القارئ يكاد يظن أنه يعرف دلالتها حق المعرفة، فإذا تصدى لتعريفها اكتشف أنها من السهل الممتنع. ولا أدعي أنني في هذه الدراسة قادر على الإحاطة بمعاني هذه الكلمة ودلالاتها، وإنما أدعي أنني سأحول ذلك لأخلص إلى الهدف الرئيس من الدراسة، وهو تحليل واقع الكتابة باللغة العربية وبيان ما نطمح إليه في أمرها. وأزعم، هنا، أن القضية تجاوز الناحية المنهجية التي تقتضي تحديد المصطلحات قبل الشروع في الدراسة إلى تلك التجربة التاريخية المرتبطة في التراث العربي بقضية "الكتابة".‏
أولاً ـ كلمة "الكتابة" ودلالاتها:‏
بين معجمات اللغة العربية اتفاق على أن "الكتابة" مصدر من مصادر الفعل "كتب"، بمعنى "خط"(1). تقول هذه المعجمات: كتب الكتاب: خطه، فهو: كاتب، ج: كَتَبَة وكتّاب. واكتتب الكتاب لنفسه: انتسخه. وهو يُكتِّب الناس: يعلمهم الكتابة. ولا تخرج المعجمات اللغوية القديمة عما سبق في تحديد الدلالة اللغوية للكتابة وهو ـ في التعبير اللغوي الحديث ـ نقل أصوات اللغة المنطوقة إلى حروف وكلمات مكتوبة، أو كما قال الكفوي في الكليات ـ "جمع الحروف المنظومة وتأليفها بالقلم. ومنه الكتاب لجمعه أبوابه وفصوله ومسائله"(2). ولكن الكفوي يضيف أن الكتابة "قد تطلق على الإملاء، وقد تطلق على الإنشاء"، أي أنه نص على أن هذا المصدر (الكتابة) استعمل بمعنى اسم (المفعول) المكتوب، لكنه حمل دلالتين: دلالة الإملاء والخط، ودلالة الإنشاء. وقد أفادت المعجمات اللغوية الحديثة ومعجمات المصطلحات من هاتين الدلالتين، وسعت إلى تحديد معنى "الكتابة" فزادته إشكالاً واتساعاً. إذ نصت على أن "الكتابة" صناعة الكاتب(3)، والكاتب: مَنْ يتعاطى صناعة النثر(4)، أو هو الماهر في الإنشاء، ومَنْ حرفته الكتابة(5).‏
من الواضح أن المعجمات اللغوية العربية القديمة والحديثة لم تخطئ حين حددت "الكتابة" بالإملاء والخط. فهذا هو المعنى اللغوي للكلمة، وهو الأصل فيها. كما أنه المعنى المراد من الكلمة حين تستعمل في حقل التربية. أما المعنى الثاني، وهو الإنشاء أو صناعة الكتابة، فهو في رأيي المعنى المجازي الذي اكتسبته الكلمة في أثناء تطورها التاريخي. وقد سعت معجمات المصطلحات إلى مقاربة هذا المعنى، فنصت على الكتابة الإنشائية وطريقتها(6)، وعلى تفصيلات أخرى تنحو بالكلمة المجازية نحو الكتابة الأدبية والصحفية وتأليف البحوث. بيد أن هذه المعجمات لم تصل إلى مستوى تعريف هذا المعنى المجازي بكلمات واضحة دقيقة محددة، مما أسهم في إبقائه غائماً متسع الدلالة. والظن أننا ـ في اللغة العربية ـ مضطرون إلى التمييز، بين المعنى الحقيقي والمجازي، ثم التمييز بين المعاني المجازية نفسها. وفي رأيي أننا قادرون على ذلك إذا اتفقنا على:‏
أ ـ استعمال كلمة "الكتابة" للدلالة على المعنى اللغوي وحده، أي الإملاء والخط.‏
ب ـ إضافة كلمة أخرى للتمييز بين المعاني المجازية. وأقترح هنا العبارتين الآتيتين:‏
ـ الكتابة الوظيفية: للدلالة على النصوص المكتوبة التي تؤدي مهام الإيصال اللغوي المختلفة في الحياة اليومية.‏
ـ الكتابة الإبداعية: للدلالة على النصوص المكتوبة الساعية إلى الخلق الأصيل الجديد النافع الماتع في العلوم والفنون والآداب.‏
ههنا يمكننا القول إن تحليل "الكتابة باللغة العربية بين الواقع والطموح" لابد من أن يشمل الأقسام الثلاثة: الكتابة ـ الكتابة الوظيفية ـ الكتابة الإبداعية، تبعاً لما بينها من ارتباط وثيق.‏
ثانياً: الكتابة بين الواقع والطموح:‏
إتقان الكتابة بشقيها، الإملاء والخط أساس لابد منه في السلوك اللغوي للإنسان العربي. وهذا الإتقان شيء مكتسب وليس فطرياً، ولهذا السبب عد من المهمات الأولى للتعليم في المدرسة الابتدائية، بيد أن واقع الكتابة داخل المدارس والجامعات والمعاهد، وخارجها يشير إلى أن هناك عناية مقبولة بالإملاء، أي كتابة الكلمات كتابة صحيحة خالية من الغلط. وهذه العناية لا تعني أننا حققنا ما نصبو إليه، وهو إتقان مهارة الإملاء، وإنما تعني أن المدرسة العربية تُعير الإملاء قدراً من اهتمامها يُمكّن العربي من الكتابة السليمة. ودليل هذه العناية اقتصار مشكلات الإملاء العربي على قضايا لا تجاوز أصابع اليد عداً، أبرزها كتابة الهمزة المتوسطة والمتطرفة، وكتابة الألف اللينة في آخر الأسماء، وكتابة حروف لا تُنطق ونطق حروف لا تُكتب. وما عدا ذلك يبدو هيناً ليناً يمكن تلافيه بيسر وبشيء من التدقيق في أثناء التعليم. كما يمكن تلافي مشكلات الإملاء بالاتفاق بين الدول العربية على قواعد لا يخرج عليها أحد في أثناء الاستعمال. وقد تم هذا الاتفاق كما هو معروف (7)، إلا أنه لم يُجسد في الاستعمال لغياب السلطة القومية الواحدة وسيادة السلطات القطرية بما تضمه من أمزجة فردية وآراء متباينة لا علاقة لها، في الحالات كلها، باللغة العربية وقدرة أبنائها على توحيد الإملاء.‏
أما واقع الخط العربي فبائس جداً، ومن ثم كثرت في السنوات الأخيرة الشكاوى حول تدني سوية الخط لدى تلاميذ المدارس وطلبة المعاهد والجامعات. ووضح أثر هذا التدني في الحياة العامة. إذ غدا المرء يعاني من سوء خط الموظفين والمعلمين والمهندسين والأطباء والعاملين في الحقول الاجتماعية والاقتصادية والإدارية. ولا عجب في ذلك. فطلبة الأمس موظفو اليوم، وتلميذ اليوم موظف الغد. وهذه السلسلة البديهية غير خافية على أحد من العاملين في الحقل التربوي. لأنهم معنيون بإعداد الجيل الناشئ ليتسنم أمور المجتمع في المستقبل. وقد كثرت البحوث والدراسات حول أفضل السبل لإعداد هذا الجيل، إلا أن حظ الخط العربي من هذه البحوث ما زال ضئيلاً، بل إن الاهتمام بالخط العربي لا يداني الاهتمام بشقيقه الإملاء على الرغم من الشكاوى التي نسمعها حول الأغلاط الإملائية لدى الكُتاب صغاراً وكباراً.‏
ـ لماذا تدنت سوية الخط؟‏
يعتقد الباحثون أن العاملين في الحقل التربوي قادرون على الإشارة إلى ثغرات كثيرة في مناهج التعليم قادت إلى هذا التدني في سوية الخط. ويقف التعليم الشكلي للخط على رأس هذه الثغرات. و المراد بهذا التعليم أن المناهج التعليمية العربية تنص دائماً على حصص معينة لتعليم الخط في كل مرحلة من مراحل التعليم. وتكتفي الكتب المدرسية التي تجسد هذه المناهج بتدوين عبارات معينة تطلب من التلميذ كتابتها على دفتره. وقد تدقق الكتب أكثر من ذلك فتذيّل العبارات المدونة بشكل من أشكال الحروف العربية مكتوب بحسب قاعدة الخط المراد تدريب التلاميذ عليها. والواضح أن واضع المنهاج ومؤلف الكتاب المدرسي استراحا إلى أنهما أديا واجبهما، وتركا مهمة التنفيذ إلى المعلم داخل الصف. وقياساً إلى ما نراه في الحياة اليومية من تدني سوية الخط نعتقد أن المعلم داخل الصف لم ينجح في الغالب الأعم في أداء مهمته، وسنحاول، هنا، تقديم وجهة نظرنا في الأسباب التي قادت المعلم إلى الإخفاق، ثم نقترح ما نراه ملائماً للقضاء عليها.‏
ـ لماذا نعلم االخط العربي؟‏
يعتقد الباحث أن المعلم يجهل الهدف من تعليم الخط. بل إنه يؤمن أن الخط فن جميل يُستعمل في الأغراض التزيينية. وهذا الإيمان صحيح إذا تحدثنا عن الخط حديثاً مطلقاً من كل قيد. فإذا قيدنا الحديث بالهدف التربوي لاحظنا أن الجانب الجمالي ثانوي، وأن الهدف الرئيسي هو الاتصال اللغوي. والمراد بذلك أن اللغة وسيلة الاتصال بين الناس في المجتمع، يعبر حاملها عن أفكاره وآرائه وحاجاته بوساطتها، ويتواصل مع الآخرين من خلالها، فيلتقيهم ويشاركهم عملية البناء الاجتماعي. وباختصار، فاللغة وسيلة التعبير، لكن اللغة تضم شقين: شقاً ملفوظاً وشقاً مكتوباً. أي أن وسيلة التعبير هي اللسان واليد. والإنسان يتواصل مع الآخرين بالكتابة لهم وقراءة ما يكتبون، كما يتواصل معهم بالكلام المنطوق، إضافة إلى أن الكتابة وسيلة نقل الماضي إلى الحاضر (من خلال كتب التراث)، وستكون هي نفسها وسيلة نقل الحاضر إلى المستقبل. ومن ثم يؤمن الباحث أن الكتابة لا تقل أهمية عن النطق في التعبير عن الإنسان. ولكي تؤدي الكتابة الغرض من خلقها لابد من أن تكون سليمة وواضحة. أما السلامة فينهض بها "الإملاء"، وأما الوضوح فينهض بـ"الخط".‏
أريد القول ان الهدف من تعليم الخط العربي هو توفير "الوضوح" أي أن يكتب الإنسان بخط يستطيع الآخرون قراءته فلا يلتبس أمره عليهم. ومن ثم اقترن البعد عن اللبس بالوضوح، وغدا كل منهما وجهاً لعملة واحدة . فالفاء والغين في وسط الكلمة يلتبس أمرهما على القارئ إذا لم يفرق الكاتب بينهما بجعل العين مطموسة والفاء غير مطموسة. والميم الرقعية يجب طمسها وإلا فإنها ستلتبس بالميم النسخية التي لا نطمسها في أثناء الكتابة. غير أن الوضوح ليس مطلقاً، وإنما هو مُقيد بنوع الخط. أي أن الوضوح في الخط الريحاني يختلف عن الوضوح في الخط الديواني. ولكي نجعل التلميذ يكتسب صفة الوضوح في الخط لابدمن تدريبه على المقارنة بين أنواع الخط العربي، وخاصة مراعاة شروط كتابة الحروف متصلة ومنفصلة، فوق السطر وتحته. فنحن ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ نرسم حروف الخط الرقعي كلها فوق السطر ما عدا الأشكال السبعة التالية: (ج ح خ ع غ ـهـ) (الهاء في وسط الكلمة)، ونرسم الراء والزاي في الخط نفسه فوق السطر، في حين نُنزل ذيلهما تحت السطر في الخط النسخي.‏
على أن الوضوح وحده غير كافٍ. إذ لابد من السرعة، أي الكتابة بخط واضح في أقصر وقت ممكن. والسرعة هي التي تعلل اختيار الخط الرقعي أساساً لكتابة التلميذ في غالبية الدول العربية. فهو أسهل أنواع الخطوط العربية من حيث المهارات الحركية اللازمة لأداء المهمات الكتابية في زمن قصير نسبياً. ولا عجب أن يحتل هذا الخط مكانة هامة في مناهج التعليم العربية، فحروفه واضحة، وقراءته ميسورة، وزمن كتابته قصير إذا قورن بزمن الكتابة بالخط الكوفي أو النسخي أو غيرهما من أ نواع الخط العربي.‏
ولابد من الدقة إلى جانب الوضوح والسرعة، أي أنه لابد للتلميذ من مراعاة حجم كل حرف، من وضع النقاط في أمكنتها من الحروف المنقوطة، وحُسن وصل الحروف بعضها ببعض، كما يحتاج التلميذ إلى الترتيب الذي يعني المحافظة على المسافة بين الكلمات وحُسن توزيعها في السطر والتقيد بتقسيم الصفحة إلى فقرات.‏
إن الهدف التربوي من تعليم الخط هو تدريب التلاميذ على مهارات الاتصال اللغوي السليم، وهي الوضوح والسرعة والدقة والترتيب. ولابد من أن يعي المعلم هذا الهدف ويعمل على تحقيقه إذا رغب في أن يؤدي مهمته التربوية أداءً سليماً، ويُسهم في تجسيد ما نرنو إليه.‏
ثالثاً: الكتابة الوظيفية بين الواقع والطموح:‏
المراد بالكتابة الوظيفية كل كتابة تلبي حاجة من حاجات الإنسان في الحياة، سواء أكانت هذه الحاجة خاصة أم عامة، من نحو كتابة الرسائل والتقارير والإعلانات والعرائض ومحاضر الجلسات والاجتماعات وإلقاء الخطب والتعليمات والإرشادات وتدوين المذكرات وملء الاستمارات، وما إلى ذلك من أمور تتصل بحياة الإنسان وتؤدي مهمة اتصاله بالآخرين في المجتمع. والمعروف أن الكتابة الوظيفية تستعمل النثر وحده، وتحرص على أن يكون هذا النثر واضحاً محدداً بعيداً عن البلاغة والحيل الأسلوبية وتفصيلات الإنشاء والخيال والعاطفة، قريباً من المباشرة والموضوعية والعناية بالمضمون.‏
وإذا كانت مهمتا الإيصال والاتصال من المهام اللغوية الرئيسة فإن المنطق يفرض العناية الفائقة بالكتابة الوظيفية لأنها تكسب الإنسان العربي هاتين المهارتين، وتجعله قادراً على توظيف الكتابة (الإملاء والخط) في شؤون الحياة المختلفة. بل إن إتقان الكتابة الوظيفية يجعل الإنسان العربي يربط لغته بالحياة، ويدفعه إلى الإيمان بوظيفتها الاجتماعية. والعجب العجاب أن نرى الكثرة الكاثرة من حملة الشهادات تقف عاجزة عن استعمال الكتابة في تحرير رسالة أو كتابة محضر اجتماع أو تدوين تعليمات وإرشادات تريد إيصالها إلى الآخرين. وقد نمت حِرْفة على حساب الجهل بالكتابة الوظيفية ندعوها في سورية "العرضحلجي"، نرى ممتهنَيها يصطفون أمام الدوائر والمؤسسات ليكتبوا لأصحاب الحاجات أسطراً معدودات تجسّد الأمر الذي يرغبون في إيصاله إلى إحدى الجهات الرسمية، وليس لممتهني هذه الحرفة من علم غير إتقان هذا اللون من الكتابة الوظيفية، فلماذا لا يتقن صاحب الحاجة هذا اللون وهو يملك أداة الكتابة؟....‏
والحق أن الكتابة الوظيفية تُكتسب اكتساباً، أي أنها خاضعة للدربة والمران، ولكن العربي لا يتلقى في حياته المدرسية تدريباً يؤهله لاكتساب مهاراتها. وقد رجعت إلى مجموعة من الكتب التي تدور حول طرائق تعليم اللغة العربية، فما وجدت بينها غير كتابين يشيران إلى الكتابة الوظيفية ويحضان عليها (8)، وكأن الطالب العربي لا يحتاج إلى هذه الكتابة في أثناء تعلمه اللغة العربية. هل نعد ذلك جناية على اللغة العربية؟ أعتقد أن طموحنا اللغوي هو دفع الإنسان العربي إلى استعمال اللغة العربية الفصيحة في الحياة اليومية. وإذا كانت العامية تحول دون ذلك في عمليات الاتصال الشفهي فإن الكتابة تجسد بعض طموحنا لأنها تستعمل الفصيحة وحدها ولا تقترب من العامية، لكننا حين نهمل تدريب الطلاب على مهارات الكتابة الوظيفية نعمل على إبقاء الفصيحة بعيدة عن الحياة، ونستمر نتغنى لفظياً بطموحنا اللغوي. إن حياة اللغة في استعمالها، والمؤكد أن استعمال الكتابة الوظيفية يسهم في إكساب الفصيحة المرونة ويزيد ثروتها اللغوية ويمنح العرب إيماناً بقدرتها على تلبية حاجات الحياة بدلاً من الظن باقتصارها على تلبية الحاجات الأدبية وحدها.‏
ولقد كان أجدادنا يعون أهمية الكتابة الوظيفية. وقد جسدوا وعيهم في كتب تُعلَم هذه الكتابة، انطلاقاً من أنها "صناعة" قابلة للتعلُّم، هذا ابن قتيبة (213هـ/ 276هـ)، يؤلف "أدب الكاتب"(9)، ليعلم الكتّاب بعضاً من صناعتهم. ولهذا السبب قسم كتابه إلى أربعة كتب فرعية: أولها كتاب المعرفة، وثانيها كتاب تقويم اليد، وثالثها كتاب تقويم اللسان، ورابعها كتاب الأبنية. صحيح أن مصطلح "الكاتب" لدى ابن قتيبة واسع يشمل الأدباء، لكن الصحيح أيضاً أنه قصد أساساً إلى تزويد كتّاب ديوان الإنشاء الذين ينهضون بمهمة تحرير الرسائل الديوانية ببعض المعارف اللغوية والنحوية والصرفية والعامة بغية رفع مستواهم الثقافي، ذلك المستوى الذي يؤثر تأثيراً مباشراً في كتاباتهم الوظيفية... ويُخيل إليَّ أن ابن قتيبة كان يعتقد أن المعارف وحدها قادرة على التأثير المباشر في مهارات الكتابة الوظيفية، فاكتفى بما رآه ضرورياً منها وعزف عن الخوض في الأساليب التي تنمي مهارات الكتابة. وهذا ما جعل كتابه عاماً صالحاً للمبتدئين وشداة اللغة، والنحو والصرف، إضافة إلى الخدمات المعرفية التي قدمها للغة الكتّاب في زمانه.‏
ثم حظيت الكتابة الوظيفية بكتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" لأبي العباس القلقشندي (756هـ821هـ)، وهو كتاب ضخم في أربعة عشر جزءاً، يؤرخ لصناعة الكتابة من بداياتها إلى منتصف القرن التاسع الهجري تقريباً. وهو ـ أيضاً ـ كتاب تعليمي، لكن الكليات والجزئيات والمعارف والمهارات مجتمعة لم تغب عن مؤلفه. فقد حدد في بدايات الجزء الأول مراده من كتابة الإنشاء قائلاً: "المراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني: من المكاتبات والولايات والمسامحات والإطلاقات ومناشير الإقطاعات والهُدن والأمانات والايمان وما في معنى ذلك ككتابة الحكم ونحوها"(10)، وهذا التحديد يعبر بوضوح عن ألوان من الكتابة الوظيفية يُعنى بها الكاتب في ديوان الإنشاء، وقد خصها القلقشندي بالذكر لأنه ألّف كتابه من أجل صناعة الإنشاء وحدها (11)، كما فعل ضياء الدين بن الأثير في "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، وأبو هلال العسكري في "الصناعتين: الشعر والنثر"(12). وإذا قصرنا كلامنا على اللغة العربية لاحظنا أن القلقشندي عدها "رأس مال الكاتب، وأسّ كلامه، وكنز إنفاقه، من حيث أن الألفاظ قوالب للمعاني التي يقع التصرف فيها بالكتابة، وحينئذٍ يحتاج إلى طول الباع فيها، وسعة الخطو، ومعرفة بسائطها... والتصرف في بعضها دون بعض، ومن ثم أشار إلى الألفاظ التي انتخبها الكُتاب من اللغة العربية لطلاوتها ورشاقتها، ووضح أسلوب التصرف بها وتصريفها في وجوه الكتابة، وعُني بإيراد النموذجات الدالة على ذلك... ومن المفيد القول إن القلقشندي لم يكن يرغب في أن يحيط كاتب ديوان الإنشاء باللغة كلها، وإنما كان يرغب في أن يتزود هذا الكاتب بما يحتاج إليه منها. والدليل على ذلك أنه كرر الحديث عن الاختيار حين انتقل إلى النحو(14) والصرف(15) وغيرهما.‏
إن كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" موسوعة في صناعة الكتابة، ينم عنوانه عن أن القلقشندي مؤمن بأن الإنسان "الأعشى" الذي لا يملك مهارات صناعة الإنشاء قادر على اكتسابها إذا استوعب ما يحتاج إليه الكاتب من مواد الكتابة، وكأن هذه المواد "صُبح" ينير للأعشى السبيل إلى إتقان الكتابة. بل إن القلقشندي أصر على أن كتابة الإنشاء صناعة، تحتاج كأية صناعة إلى مران وتربية ومعاناة. وهذا ما يجعلنا ننادي بتعديل في التربية الحديثة للإنسان العربي، بحيث يضم هذا التعديل تدريباً علمياً على ألوان الكتابة الوظيفية نُحقق بوساطته طموحنا في استعمال اللغة العربية في الحياة اليومية. ونقترح بين يدي هذا التعديل هدفاً ومهارات محددة. أما الهدف فهو تلبية حاجات الإنسان العربي المختلفة، و"تقوية الروابط الفكرية والثقافية بين الأفراد والجماعات"، (16). وزيادة ثقة العربي بلغته ونفسه. وأما المهارات التي نقترح التركيز عليها فهي:‏
ـ مهارات كتابة الرسائل الشخصية والعامة، بتحديد الحاجة الاجتماعية للرسالة، واللون الملائم لهذه الحاجة (رسالة إلى الأهل أو الصديق ـ برقية ـ دعوة عامة ـ بطاقة مناسبة.....)، والغرض من كتابة الرسالة، والأسلوب المناسب لكل لون، والعناية بالصدق في التعبير عن الآراء والمشاعر والابتعاد عن العبارات العامة.‏
ـ مهارات كتابة التقارير عن ألوان النشاط في المجتمع المحيط بالإنسان، باصطناع أسلوب المشكلات.‏
ـ مهارات كتابة الاستمارات والبيانات والطلبات واللافتات، والتركيز في أثناء التدريب على قيمة التكثيف اللغوي المصحوبة بالوضوح والتحديد.‏
وليست القضية، من قبل ومن بعد، قضية اقتراحات محددة، وإنما هي قضية التربية العربية التي لم تضع في "استراتيجيتها" تنمية مهارات الاتصال اللغوي بين أفراد المجتمع العربي، مكتفية بالتعبير الإبداعي، غافلة عن أن اللغة العربية وسيلة لتلبية الحاجات الاجتماعية، أو قُل ان "استراتيجية" التربية اللغوية العربية تحتاج إلى الانطلاق من أن اللغة العربية أداة اتصال، أي إبلاغ وإخبار، وليست غاية في حد ذاتها. ولابد لهذا الاتصال من مهارات، أهمها بالنسبة إلى الكتابة مهارات الإرسال بأركانها الأربعة: الكاتب والأفكار المراد إيصالها والرموز الكتابية والقارئ المتلقي للأفكار.‏
ولاشك في أن واقع الكتابة الوظيفية سيبقى متردياً إذا لم نعدل "استراتيجية" التربية اللغوية بغية نقل اللغة العربية إلى حقل الاستعمال لتكتسب الحيوية والسعة.‏
رابعاً: الكتابة الإبداعية بين الواقع والطموح:‏
المراد بالكتابة الإبداعية كل كتابة فنية أو منهجية قادرة على التأثير في القارئ وإقناعه بمحتواها الجديد أو النافع أو الماتع. وهي تشمل العلوم والفنون والأدب، وليست مقصورة على أجناس الأدب وما ينتجه الأدباء. كما أن لها قيداً واحداً هو الإبداع، أي خلق الجديد المفيد الماتع الذي يحرك العقل أو الوجدان أو كليهما. ولابد للكاتب المبدع من الموهبة في حقل اختصاصه. ومن امتلاك المعارف والمهارات اللغوية التي يستعملها في إنتاج النصوص الإبداعية، ومن الخطأ الشائع الاعتقاد بأن الإبداع حكر على الأجناس الأدبية (الشعر ـ المقالة ـ القصة ـ الرواية ـ المسرح). ففي الكتابة التاريخية إبداع لا يقل أهمية عن الإبداع في الكتابة العلمية والفلسفية والأدبية. والدليل على ذلك أن هناك أعضاء في مجامع اللغة العربية اختصاصيين في الطب والكيمياء والفيزياء والفلسفة، يتقنون اللغة العربية ويجيدون استعمالها في إنتاج نصوص إبداعية ومعجمية اختصاصية لا يشك أحد في مستواها وفائدتها ودقتها. وهناك ـ أيضاً ـ اتحادات عربية (كاتحاد الكتاب العرب بدمشق واتحاد كتاب المغرب.....). تضم كتاباً من اختصاصات متنوعة، ولا تقتصر على الأدباء. بل إنها ترفض أن تسمى "اتحاد الأدباء" تبعاً لإيمانها بالدلالة الواسعة للكتابة والكاتب.‏
وعلى الرغم من أن الكُتّاب قلة (أو : نخبة) في المجتمع العربي، إلا أن طموحنا يفترض أنهم مهندسو العقل والروح، وأن إنتاجهم يعبر عن رؤيا شاملة للكون والمجتمع "تنطلق من الحاضر لتفسر الماضي وتشمل المستقبل حاملة تطلعات الأمة إلى عالم أفضل"(17). ونحن نطرح هذا الافتراض، افتراض توافر الرؤيا لدى الكاتب لسببين: أولهما إيماننا بأن الكتابة لا تكون إبداعية إذا لم تتوافر فيها الرؤيا الشاملة، وثانيهما معرفتنا بالواقع التعس الذي يعيش فيه الكُتاب العرب. وهذان السببان، في رأيي، يعبران عن الواقع الذي ننطلق منه والطموح الذي نرنو إليه.‏
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.18 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]