عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-07-2020, 07:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي القراءة الحداثية للنصّ القرآني : دراسة نظرية حول المفهوم والنشأة والسمات والأهداف

القراءة الحداثية للنصّ القرآني : دراسة نظرية حول المفهوم والنشأة والسمات والأهداف



د. فاطمة الزهراء الناصري *

مقدمة [1]:

لقد أصبح مفهوم الحداثة من المفاهيم الهُلامية التي يصعب الإمساك بأطرافها، فاستعمل هذا المصطلح مِن طرف مَن شاء كيفما شاء؛ لذلك نجده أحيانًا متسربلًا بالخير والإصلاح والتطوّر والنهوض، ونجده تارة أخرى رمزًا للتقليد والتبعية والقعود عن اللحاق بالرّكب الحضاري، كما تم الخلط بينه وبين مجموعة من المفاهيم تقترب منه أو تبتعد كثيرًا أو قليلًا، ويزداد الأمر حساسية وتعقيدًا عندما يتم ربط الحداثة بالنصّ القرآني كنصٍّ مقدَّسٍ، من أجْلِ الخروج بقراءة تبعث الحياة في النصّ وتربطه بالواقع.
فما هو المفهوم الصحيح لهذا المصطلح ذي الشجون؟ وكيف نفرّق بينه وبين ما يتداخل معه من المفاهيم؟ وما مدى مشروعية وجدوَى ما يسمَّى بالقراءة الحداثية للنصّ القرآني؟ وهل يمكن اعتبارها إضافة علمية للدّرس القرآني الحديث والمعاصر؟ هذا أهم ما سيتم تناوله في هذه المداخلة، وذلك من خلال المحاور الآتية:
المحور الأول: الحداثة وما بعد الحداثة[2]؛ المفهوم والنشأة والانتقادات:

1- مفهوم الحداثة:

لا يخلو إيجاد تعريف جامع مانع للحداثة من صعوبات، ليس لعدم وجود قصد للتعريف، ولكن لكثرة هذه التعاريف واختلاف مقاصدها؛ إذ أغلبها لا يَعْدو أن يكون وصفًا لجانب أو أكثر من جوانب هذا المفهوم، والتي يعتبرها عليّ حرب بمثابة: «جهد يمارسه الفكر على نفسه لا يتوقف، وبناء متواصل للذات في علاقتها بذاتها، وانفتاح أقصى على الكون، وخلق مستمر للعالم»[3]، ويرى نايف العجلوني أنها: «حركة تفكيكية تستمد معناها وقُوَى دفعها من رفض أو نفي ما حدث قَبْلًا»[4]، ومن المفارقات أن نجد بعض الحداثيين أنفسهم يتنكّرون لمصطلح الحداثة كحَسن حنفي الذي قال إنه يُفضِّل مصطلح (الاجتهاد) بدل (الحداثة)؛ لأن «لفظ الحداثة لفظ غربي يكثر استعماله في هذه الآونة حتى يبين المثقّف العربي أنه مطلع على آخر موضات العصر، وأنا لا أحبّذ هذا اللفظ (الحداثة)… لدينا الاجتهاد، وهو اللفظ الذي أُفضِّله»[5].
بسبب هذا الاختلاف في النظر إلى مصطلح الحداثة عند المفكّرين المسلمين، كان من اللازم أن نستمد مفهومها من الفلاسفة الغربيين أنفسهم، فالحداثة عند سلوتر ديجك هي: «حركة ذاتية تولد نفسها بشكلٍ ذاتي، والتقدّم هو حركة لأصل الحركة، إنها حركة تستهدف زيادة القدرة على التحرك»[6]، وهي عند هنري لوفيفر: «عبادة الجديد من أجل الجديد»[7]، ويقول آلان تورين: «أنا أُعرِّف الحداثة اليوم بأنها الدفاع عن الذات بقدر ما هي عقلنة»[8]، وفي تعريف أكثر شمولية قال جيف فاونتاين إنها: «سلسلة من التحوّلات في المجتمع المعاصر قائمة على أساس التمدّن والتصنيع والعلم والتكنولوجيا، والتي أصبحت أساسًا لفكرة الشكّ الديني وعدم الاعتقاد بصحة الكتب المقدسة»[9].
من خلال هذه التعاريف مجتمعة يمكننا تلخيص الركائز التي تقوم عليها الحداثة في العناصر الآتية:
1- الحركة الدائمة التي همُّها توليد الحركة.
2- تقديس الجديد من حيث هو جديد لا لاعتبارٍ آخر، ذلك أنه في فلسفة الحداثة تسقط كلّ معايير التفضيل، ويبقى الزمن وحده معيارًا لذلك، فيكون الشيء أفضل من غيره لا لأمر ذاتي فيه، بل لمجرد كونه اللاحق زمنيًّا، قال جمال سلطان في هذا الصدد: «هل هذه الخاصيّة الزمانيّة تعطيها قيمة مطلقة فضلًا عن القداسة؟! بحيث يصبح هذا النتاج مثلًا يُحْتَذَى… ومعيارًا يُقاس عليه غيره من النتاجات الإنسانية الأخرى»[10].
3- الاهتمام بالحاضر والرفض التام للماضي.
4- التمركز حول الذّات.
5- تمجيد العقل والسعي نحو العقلنة.
6- التمدّن والتصنيع والتكنولوجيا.
7- الشكّ في صحة الكتب المقدسة وفي كلّ ما هو ديني.
8- الانفتاح الكامل على الكون.
وقد اصطبغت القراءات الحداثية للنصّ القرآني بأغلب هذه المواصفات وقامت على أهم هذه الركائز؛ لذلك فهي تحاول قطع الصلة بالتراث التفسيري، وتُغلِّب العقل على ما سواه من الأصول للنظر في القرآن الكريم، كما أنها تستبعد مفهوم القداسة في التعامل مع نصوص الوحي؛ لذلك يرى عبد المجيد الشرفي أن إحاطة القرآن بالقداسة يجعلنا لا نهتدي إلى دلالاته العميقة، قال: «مهما كان التوجّه فإن معظم التفاسير حاولت أن تُوجِد معنًى للقرآن في إطار القداسة، فلم نوفق إلى بلوغ منطقه العام»[11].
2- نشأة الحداثة:

لقد رأى الفيلسوفان: (شارل بودلير، ودونرفال) أن سنة 1850 هي البداية الرسمية لظهور مصطلح (الحداثة)، لكن لا بد من الإشارة إلى اختلاف المفكرين حول بداية نشأتها[12] كحركة فكرية ومجتمعية، بعد أن طرحوا سؤالًا كالآتي: إذا كانت الكلمة اللاتينية (الحديث) Modernus قد ظهرت في القرن الخامس للميلاد، والكلمة الفرنسية (حداثة) Modernitéقد ظهرت بعد ذلك بحوالي عشرة قرون، فمتى ظهرت الحداثة تعبيرًا عن رؤية خاصّة للوجود والفكر والمجتمع؟ ألْحقَ (ريتشارد روتي) الحداثة بفكر ديكارت[13]، وربطها الفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس) بـ(عصر الأنوار)[14]، وحدَّد الناقد الأدبي الأمريكي (فريدريك جمسون) تاريخ ميلادها في النصف الأول من القرن العشرين، فالحداثة كمشروع ثقافي هي من صناعة المجتمعات الأوربية، وهي وليدتها الشرعية[15].
من خلال معرفة نشأة الحداثة سنقف على الجذور التاريخية للقراءة الحداثية للنصّ القرآني، ومن ثمة أيضًا يلحّ علينا السؤال عن إمكانية استنساخ هذه التجربة الأوربية إلى العالم الإسلامي، وإسقاط فلسفاتها[16] على الوحي.
3- انتقاد الحداثة:

كثير من الأقلام العربية والغربية كذلك تتحدث عن أزمة ومأزق الحداثة[17] وتهافتها، وفي ذات الوقت هناك من المفكرين من ينظِّر لها ويدعو إليها، بل إنّ العقود الأخيرة تشهد تنافسًا كبيرًا حول تمثل الفكر الحداثي وأسلمته! مع العلم أنّ الحداثة ليست عِلمًا بحتًا وليست منهجًا للبحث يتَّسم بالحياد، وإنما هي فلسفة ومجموعة من الأيديولوجيات؛ لهذا وُلِدَت فلسفة جديدة تسمى: «ما بعد الحداثة» Post Modernity، أجهضت المشروع[18] الحداثي وسفَّهته.
ومن أهم الانتقادات الموجهة للحداثة ما يأتي:
«1- العقل الذي قامت عليه خَلَقَ ثقافة أُحادية الجانب، تقوم على الثنائيات القاتلة بين العقل واللاعقل، وبين النظام واللانظام…
2- الإنسان الذي قدَّسته وأحلَّته في الوجود بديلًا عن الإله، وأعطته حقّ التحكم في الوجود… لم يأخذ بعين الاعتبار أثر تصرفه على الإنسان والطبيعة معًا.
3- العلم الذي يعتبر مرجعية مقدّسة بالنسبة للحداثة لكونه أداة الـوصول إلى الحـقيقة،… ترى ما بعد الحداثة أنـه ليس إلا أسطورة»[19].
وذلك لعدة عوامل:
«أ- عدم خلق المساواة المرجوَّة منه بين الدول المتقدمة والنامية، بل العكس.
ب- عدم تمكُّن التكنولوجيا من حفظ الوقت وتقليل الجهد والضغط، بل العكس.
ت- لم يُسْهِم العلم في فهم العالم كما كان مرجوًّا منه.
ث- استفاد القطاع الخاص من التطور على حساب أرواح الكثيرين، منهم العلماء.
ج- يقدّم العلماء أحيانًا مصالحهم على حساب الفوائد المتوخّاة من البحث العلمي.
ح- التقدّم كما تراه الحداثة هو مرحلة حتمية سوف تصل إليه كلُّ حضارة سارت على خطاها، وهو ما اتخذه الغربيون ذريعة لسلوك مختلف السُّبل المشروعة منها وغير المشروعة لتحقيق التقدّم»[20].
ثم إنّ تقليدَ الحداثة أمرٌ غير ممكن؛ «لأن هذه الأخيرة عبارة عن إمكانات متعددة، وليست -كما رسخ في الأذهان- إمكانًا واحدًا، وينهض دليلًا على ذلك أنّ المشهد الحداثي الغربي ليس بالتجانس المظنون، بل فيه من التنوّع ما يجوز معه الكلام عن حداثات كثيرة… فهناك باعتبار الأقطار (حداثة فرنسية) و(حداثة ألمانية) و(حداثة إنجليزية)[21]، غير أنّ هناك من لا يسلِّم بهذا ويعتبر الحداثة فوق الزمن «لأنها ليست قرينة للجِدَة أو المعاصرة، فهي ليست تاريخية وحسب؛ لأنه إذا كان الجديد والمعاصر يشير إلى الزمن، وكان من ثم توصيفًا تاريخيًّا، فإنّ الحداثة تشير إلى حساسية وأسلوبٍ ما، فهي إذن تعبير عن القيمي، ومعنى ذلك أنّ الحداثة لا يمكن أن تنتهي ولا أن يتجاوزها الزمن، الحداثة قيمة لا تاريخية»[22].
هذا التضارب في طبيعة العلاقة بين الحداثة والتاريخ يعود -كما ذكر الدكتور طه عبد الرحمن- إلى اختلافٍ أساسٍ بين التعاريف التي وضعت للحداثة؛ إذ «عرَّفها البعض بكونها حقبة تاريخية متواصلة ابتدأت في أقطار الغرب… وعرفها آخرون بصفات طبعت بقوة عطاء هذه الحقبة، مع اختلافهم في التعبير عن هذه الصفات وعن أسبابها ونتائجها»[23]، والواقع أنها خليط من الفلسفات طبعت القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وفي سياق الحديث عن الانتقادات الموجهة للحداثة لن تفوتنا الإشارة إلى النقد اللاذع للفيلسوف الألماني فريديريك نتشه، الذي حاول هدم المبادئ والأسس الكبرى التي تقوم عليها الحداثة؛ كمبدأ (العقلانية) ومبدأ (الفردانية) ومبدأ (الحرية)[24].
4- انتقاد ما بعد الحداثة أو الحداثة البعدية:

بعد أن فقدَ الغرب ثقته في الحداثة ظهرت مدارس فلسفية[25] لكلّ واحدة منها موقف من الحداثة المأزومة، ورؤية مختلفة للطريقة التي يجب بها معاملتها، والأسلوب الذي يمكن به تجاوز هذا المأزق، ولأن المقام لا يسمح بإيراد هذه التفاصيل سنقف عند تعريف «ما بعد الحداثة»، وكيف لم تَسْلَم هي أيضًا من انتقادات أعمق من التي وُجِّهَت للحداثة! لنَخلُص إلى أنّ الغرب الآن يعيش حالة من الفراغ والتوقّف الفكري والفوضى المعرفية والعبث والاحتضار الروحي، ذلك أن «ما بعد الحداثة» كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: «تعني في واقع الأمر النهاية: نهاية التاريخ، ونهاية الإنسانية، ونهاية السببية، ونهاية المحاكاة، ونهاية الميتافيزيقا، ونهاية التفسير»[26].
وفي محاولات لتصوير ما بعد الحداثة يرى أحمد حجازي أنها «حركة نشأت في أحشاء الحداثة ذاتها لنقدها أو للتواصل معها والبحث عن البديل»[27]، وقال ديفيد هارفي: «هي الوضع الذي وجد العالم به نفسه بعد تحطّم مشروع الأنوار»[28]، أما ديك هبدايج فقد اعتبرها «حالة من فقدان المركزية ومن التشعب والتشتت، نُساق فيها من مكان إلى مكان»[29]، وفي محاولة تعريفية أكثر وضوحًا وتفصيلًا قال عبد الوهاب المسيري: «مصطلح (ما بعد الحداثة)، مصطلح نفي سلبي، وهو ترجمة لمصطلح (post-modernisme)، وأحيانًا يطلق على مصطلح ما بعد الحداثة تعبير (ما بعد البنيوية)، باعتبار أنّ فلسفات ما بعد الحداثة قد ظهرت بعد ظهور وسقوط (الفلسفة البنيوية)، ويكاد مصطلح ما بعد الحداثة يترادف ومصطلح (التفكيكية)، وللتمييز بينهما نقول: إن (ما بعد الحداثة) هي الرؤية الفلسفية العامة، أما (التفكيكية) فهي بالمعنى العام أحد ملامح وأهداف هذه الفلسفة، فهي تقوم بتفكيك الإنسان كما أنها منهج لقراءة النصوص يستند إلى هذه الفلسفة»[30].
أما خصائص ما بعد الحداثة فسيظهر أهمها من خلال الانتقادات اللاذعة الموجهة إليها، والتي يمكن إجمالها في الآتي:
1- ما بعد الحداثة مناقضة لنفسها، بإطلاق القول: إنه ليس هناك حقيقة، وهذا في حدّ ذاته حقيقة يطلب من كلّ الناس التسليم بها.
2- سَعْيُ ما بعد الحداثة لإثبات عدم مصداقية العقل، مبنيّ على قواعد عقلية، فكيف يطعنون في العقل وموضوعيته بوسائل وحجج عقلية؟!
3- تضخيمهم من أثر الثقافة على الفرد وزعمهم أن الفرد مسجون داخل ثقافته.
4- عجز العلم عن اكتشاف وتفسير بعض الظواهر لا يبرّر الطعن في قدرة العلم على سَبْر واكتشاف كثير من الظواهر الطبيعية، فهذا العجز يدحض الحداثة في إعلاء العقل وجَعْلهِ مطلقًا، ولكنه لا يقوَى على أن يكون حُجة على إلغاء قيمته والتشكيك في جميع أحكامه.
5- ما بعد الحداثة تحاول إبعاد هيمنة إيديولوجية محدّدة لكنها في الواقع تعرض على العالم هيمنتها هي كإيديولوجية وفلسفة[31].
فإذا كانت (الحداثة) -كما يقول أنصارها- حركة مستمرة تنتقد نفسها باستمرار، وأنها مشروع غير مكتمل، فإن علاقة (ما بعد الحداثة) بالحداثة هي الاستمرار -كما تقول المدرسة الألمانية- لا القطيعة -حسب المدرسة الفرنسية-؛ لذلك اختار محمد سبيلا اسم (الحداثة البعدية) عِوَضَ (ما بعد الحداثة)، قال: «هذه الأخيرة -يقصد الحداثة البعدية- ليست إلا الحداثة في مرحلتها الثانية، أي الحداثة وقد وسّعت مكتسباتها ورسّختها، وسعت مفهومها للعقل ليشمل اللاعقل، ووسعت مفهومها عن القدرات الإنسانية لتشمل المتخيّل، والوهم والعقيدة والأسطورة، وهي الملَكات التي كانت الحداثة الظافرة، المزهوة بعقلانيتها قد استبعدتها»[32]؛ لهذا فمجهود بعض الحداثيين العرب لتصنيف أنفسهم في مرحلة (ما بعد الحداثة)[33]، والقول بتجاوزها يأخذ طابعًا تمويهيًّا؛ لأن (ما بعد الحداثة) ليس إلا امتدادًا وتطويرًا لأسس الحداثة، أما الغرب اليوم فيعيش (ما وراء الحداثة البعدية)، الذي يتَّسم بالرجوع إلى الدِّين، وهو «السعي للوصول إلى محور روحاني ومعنوي، قد تم ضياعه في دنيا العلمانية»[34].
وهنا تلحُّ علينا الأسئلة الآتية: إذا كان هذا حال الحداثة وحال ما بعدها، فماذا تعني مناداة مَن ينادي بتبنِّيها في الفكر العربي الإسلامي، بل وإسقاط فلسفاتها في التعامل مع النصوص المقدسة على القرآن الكريم؟! وهل من الضروري دخول نفس الجُحور[35] التي ارتادها الفكر الغربي، حتى إذا لسَعَتْه (الحداثة) وجب أن تلسعَنا، وعندما تلدغه (الحداثة البعدية) نمدُّ عقولنا لتلدغها؟! إنّ الحداثة مجموعة من الفلسفات، وأسلمتها تعني أسلمة هذه الفلسفات، فهل هذا ممكن؟!
والقراءات الحداثية للقرآن الكريم لا تميِّز بين مرحلة (الحداثة) وبين (ما بعد الحداثة)؛ إذ تجد الواحد منهم مثلًا بنيويًّا وتفكيكيًّا في الوقت ذاته.
5- بين الحداثة والإسلام:

هناك من يقارن بين الحداثة والإسلام فيعتبر أن كلّ واحد منهما نظام ونسق مختلف كليًّا عن الآخر، قال نادر كاظم: «إنّ الحداثة لا تقبل أن تنحصر في مجال ضيِّق كما انتهت إليه فلسفة اليونان، ولا الإسلام كذلك يقبل أن ينحصر في مجال ضيّق كما انتهت إليه مسيحية الغرب،… فالمسعَى الأول؛ تحديث الإسلام، يقدِّم الحداثة على حساب الإسلام، والمسعَى الثاني؛ أسلمة الحداثة، يغلِّب الإسلام على الحداثة وهذا يعني أنّ كلّ مساعي الدمج بين النظامين لن يُكتب لها النجاح، إلا بمحو الطابع الكلي عن النظام المستوعب»[36]، إلا أنه لا بدَّ من التحفّظ على مثل هذه المقارنات؛ ذلك أنّ التناقض إنما يكون بين ما له نفس الموضوع والمرتبة، ولا يخفى أنّ الحداثة لا ترقى إلى مستوى الإسلام من حيث هو دين وتصوّر متكامل عن الكون؛ ولهذا لا معنى لما يتحدث عنه بعض المفكرين من «تصالح الإمكان الإسلامي مع الإمكان الحداثي»[37].
المحور الثاني: القراءة الحداثية للقرآن الكريم؛ المفهوم والسمات والأهداف:

1- مفهوم القراءة الحداثية للنصّ القرآني:

المقصود بالقراءة الحداثية تلك المدرسة التي تبنَّى أصحابُها فلسفات ومذاهب غربيّة حديثة، وحاولوا تطبيقها في تفسير القرآن الكريم، متجاوزين الأدوات العلمية التفسيرية المسطَّرة عند أهل الاختصاص في هذا العلم، ومن أبرز أسماء هذه المدرسة الذين تعاملوا مباشرة مع الآيات القرآنية: محمد أركون، ومحمد شحرور، ونصر حامد… وغيرهم.
وقد يعبَّر عن القراءة الحداثية للآيات القرآنية (بالقراءة الحديثة)[38] أو (القراءة المعاصرة)[39] أو (القراءة الجديدة)[40]، لكن الأقرب إلى مفهوم هذه القراءة بالنظر إلى مضامينها هو نسبتها إلى فلسفة الحداثة[41]؛ لأن عبارة: القراءة الحديثة أو المعاصرة أو الجديدة تفيد التحديد الزمني دون الإشارة إلى أيّة مرجعيات فلسفية، مع العلم أنه لا ينبغي إدانة كلّ تعامل مع القرآن في العصر الحديث أو المعاصر لمجرد أنه حديث أو معاصر، وإلا وقَعْنا من حيث لا نشعر في (الحداثة المعكوسة) أو (القَدامة)، بحيث يكون الزمن هو معيار القيمة، ويكون الفرق الوحيد بين فلسفتنا وفلسفة الحداثة هو أن هذه الأخيرة تقدِّس الزمن الآني بينما نقدّس الزمن الماضي، والحقيقة أن قيمة الأفكار ومعيار التفضيل بينها لا يعود إلى الزمن لا ماضيًا ولا آنيًا، وإنما يعود إلى مدى التزامها بالمنهج العلمي الموضوعي المُجمَع عليه في حقلٍ معرفي معيَّن.
فليس المقصود إذن هو رفض كلّ الاجتهادات الحديثة أو المعاصرة أو الجديدة في التعامل مع القرآن الكريم وتفسيره، وليس مبعث الحذر من هذه القراءات هو كونها جديدة غير معهودة؛ لأنه ليس كلّ جديد مردودًا متوجَّسًا منه، وإنما المقصود تلك القراءات المرتبطة بفلسفة الحداثة التي تقوم على الآنية الزمنية، وعلى إسقاط الفلسفات الغربية على النصّ القرآني مهما اختلفت طبيعتها عن طبيعته، يعني أنه من الممكن منهجيًّا وجود اجتهادات تفسيرية حديثة أو معاصرة تتجاوز الاجتهادات القديمة، مع التزامها بالمنهج العلمي المسطَّر في أصول التفسير وقواعده، كما قال الشاعر سامي البارودي:
كم غادر الشعراء من مُتردَّمِ * ولرُبَّ تالٍ بَزَّ شَأْوٍ مُقدَّمِ
ولذلك فمقولة: «ليس في الإمكان أفضل مما كان» إنما تصحّ جزئيًّا فقط في مجال علوم القرآن والتفسير، أي في أنواع من علوم القرآن: كأسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ وكلّ ما يتعلق بالاتجاه الأثري واللغوي في التفسير، بحيث يكون القرب من زمن الرسالة قيمة مضافة، على خلاف اتجاهات تفسيرية أخرى نشأت حديثًا كالاتجاه الاجتماعي، الذي سيمكِّن المسلمين من تأسيس نظريات قرآنية في النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية قادرة على مواجهة التحدي الحضاري وتجاوزه بالكشف عن الإعجاز القرآني في العلوم الإنسانية، وكذلك التفسير العلمي الذي أثبت أن الكتاب المسطور (القرآن العظيم) لا يتناقض أبدًا مع الكتاب المنظور (الكون).
كما يجب التنبّه إلى الفرق الكبير بين الحداثة والتحديث، فإذا كانت الأولى مرتبطة بالأفكار والمعتقدات والفلسفات فإنّ الثاني يرتبط بالجوانب المادية وبمظاهر الحياة المدنية؛ لذلك لا يمكن الحديث عن حداثة في الحقل الديني، ولكن يمكن الحديث عن التحديث؛ حيث استعملت الميكروفونات في خُطَب الجمعة مثلًا، واستثمرت بعض القنوات التلفزيونية كأداة دعوية في المساجد… فكلّ ما يتعلق بالجانب التقني والصناعي والمادي يسمَّى تحديثًا (modernisation) لا حداثة؛ لأنها تتعلق بنمط التفكير والوعي والهوية. قال هشام شرابي: «التحديث هو سباق التحول الاقتصادي والتكنولوجي كما جرى تاريخيًّا لأول مرة في أوربا، في حين أن الحداثة هي مجموعة العناصر والعلاقات التي يتألّف منها الكيان الحضاري المتميز، فمن حيث هي وعي تشكّل أنموذجًا ونمطًا فكريًّا تجد فيه أوربا الحديثة هويتها»[42].
وقد كان الدكتور طه عبد الرحمن أكثر احتراسًا عندما جعل الحداثة صنفَين: مبدعة، ومقلّدة[43]. لكن فريقًا آخر من المفكرين يرفض هذا المصطلح شكلًا ومضمونًا -بالنظر إلى ظروف ولادته- كزينب عبد العزيز[44]، بل إنّ البعض لم يعتبر مفـردة (الحداثة) مفردة عربية سليمة كمفردة (المعاصرة)[45]، وهذا نوع من المبالغة في الرفض؛ لأن مادة (ح – د – ث) في اللغة العربية تدلّ على الكثير من الدلالات التي يقصدها الحداثيون بهذا المصطلح[46].
فالأمر إذن يتعلق (بالحداثة) وليس (بالتحديث) ولا (بالتجديد) ولا (بالعصر الحديث)، وعبارة «القراءة الحداثية» أكثر دقّة لتصويرها واقع هذه القراءات التي تستند إلى فلسفات غربية المنشأ؛ كالتاريخية والمادية والعلمانية وغيرها.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.91%)]