عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-04-2020, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي عناية الإمام القرطبي بالتأصيل لقواعد الأصول

عناية الإمام القرطبي بالتأصيل لقواعد الأصول












الدخلاوي علال




يعتبر التأصيل من المجالات العلمية التي اهتم بها العلماء قديمًا وحديثًا؛ إذ العلوم لا تُكتسَب حجيتها ومتانتها وتأثيرها إلا من خلال هاته العملية، ولما كانت قواعد الأصول هي الأداة التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية، نظر العلماء أولًا في مصادر هاته القواعد، وفي الأصول التي بُنيت عليها؛ ليحصل الاطمئنان إلى الأحكام الشرعية المستفادة منها[1].







والذي عليه جمهور الأصوليين أن قواعد الأصول يرجع مستندها إما إلى الأدلة العقلية، أو الأدلة النقلية، أو اللغة العربية؛ وفي هذا يقول الشوكاني: "وأما استمداده: فمن ثلاثة أشياء: علم الكلام، وعلم العربية، والأحكام، أما الكلام فلتوقف الأدلة الكلية على معرفة الباري وصدق المبلغ وهو يتوقف على صدق المعجزة، وأما العربية فلأن الأدلة التي تُستفاد منها الأحكام الشرعية مأخوذة من الكتاب والسنة وهما بلسان عربي مبين؛ فتتوقف دلالتهما على معرفة الموضوعات اللغوية، وأما الأحكام فالمراد تصورها ليمكن إثباتها ونفيها"[2].







ويقول التقي السبكي: "ولما كان الفقه مستندًا إلى الكتاب والسنة ويحتاج الفقيه في أخذه منهما إلى قواعد، جُمعت تلك القواعد في علم وسمي أصول الفقه، وهي تسمية صحيحة مطابقة لتوقف الفقه عليها، وتلك القواعد منها ما لا يُعرف إلا من الشرع، ومنها ما يعرف من اللغة، فالذي لا يعرف إلا من الشرع هو إثبات كون خبر الواحد حجة، وكون الإجماع حجة، والقياس حجة، وكثير من المسائل التي تُذكر فيه، والذي يعرف من اللغة ما يُذكر فيه من دلالات الألفاظ اللغوية"[3].







فتلخص من هذا أن مصادر أصول الفقه: إما نقلية، أو عقلية، أو لغوية، ومن المصادر النقلية نصوص القرآن الكريم؛ إذ تعتبر نصوص القرآن أحد أهم المصادر التي تستنبط منها قواعد الأصول[4]؛ ولهذا اهتم جمع من المفسرين - إلى جانب اهتمامهم ببيان الآيات واستفادة الأحكام الشرعية منها - باستنباط الأدلة، واستخراج القواعد الأصولية، ويعتبر الإمام القرطبي أحد المفسرين الذين اهتموا بالتأصيل لمسائل وقواعد الأصول، ومن طالع تفسيره الجامع لأحكام القرآن يرى ذلك جليًّا وواضحًا.







ومن أمثلة ذلك ما سنعرضه عرضًا دون مناقشة أو تفصيل:



أولًا: تأصيله لقاعدة أن الأمر يدل على الوجوب ويفيد الفور عند التجرد عن القرائن: حيث استدل رحمه الله بقوله تعالى: ﴿ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة: 68] على أن صيغة الأمر عند التجرد عن القرائن تفيد الوجوب، وأنها تفيد الفور؛ حيث قال رحمه الله: "وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقول الفقهاء، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه، وعلى أن الأمر على الفور، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضًا، ويدل على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال: ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 71]، وقيل: لا، بل على التراخي؛ لأنه لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب"[5].








واحتج بقوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] بأن الأمر للوجوب؛ حيث يقول: "بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب، ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: ﴿ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]؛ فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره"[6].








ومن الآيات التي استدل بها كذلك على أن مقتضى الأمر الوجوب قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36]؛ حيث يقول: "هذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين من أن صيغة "أفعل" للوجوب في أصل وضعها؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلَّف عند سماع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علَّق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب، والله أعلم"[7].








ثانيًا: تأصيله لقاعدة أن الأمر بعد الحظر يفيد الوجوب: حيث يقول في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة: 2]: "أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورًا بالإحرام، حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة "أفعل" الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب، وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعًا، دليله قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5]، فهذه "أفعل" على الوجوب؛ لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا [الجمعة: 10]، ﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ [البقرة: 222] من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر"[8].








ثالثًا: تأصيله لقاعدة سد الذرائع: حيث استدل بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة: 104] على حجية العمل بسد الذرائع؛ فقال: "في هذه الآية دليل على التمسك بسد الذرائع وحمايتها، وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دلَّ على هذا الأصل الكتاب والسنة، والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع، أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سبٌّ بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ؛ لأنه ذريعة للسب، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108]، فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك"[9].








رابعًا: تأصيله لمسألة وقوع النسخ في الشريعة: حيث استدل بقوله تعالى: ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144] على صحة وقوع النسخ في الشريعة؛ يقول: "في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخًا ومنسوخًا، وأجمعت عليه الأمة إلا من شذَّ، وأن القبلة أول ما نسخ من القرآن"[10].








خامسًا: تأصيله لمسألة نسخ السنة بالقرآن: فكما استدل بآية وقصة تحويل القبلة على وقوع النسخ في الشريعة، استدل بها كذلك على جواز نسخ السنة بالقرآن؛ حيث يقول: "ودلَّت أيضًا على جواز نسخ السنة بالقرآن؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة، ثم نسخ ذلك بالقرآن"[11].








سادسًا: تأصيله لمسألة أن من لم يبلغه الناسخ أنه متعبد بالحكم الأول: حيث استدل بآية وقصة تحويل القبلة على أن من لم يبلغه الناسخ أنه متعبد بالحكم الأول؛ حيث يقول: "وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافًا لمن قال: إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح؛ لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة، فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة، لكن بشرط العلم به؛ لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابًا في حق من لم يبلغه"[12].








سابعًا: تأصيله لحجية الإجماع: حيث استدل بقوله تعالى:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] على حجية الإجماع؛ فقال: "وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به؛ لأنهم إذا كانوا عدولًا شهدوا على الناس، فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم، وإذ جعلت الأمة شهداء؛ فقد وجب قبول قولهم، ولا معنى لقول من قال: أُريد به جميع الأمة؛ لأنه حينئذٍ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة، وبيان هذا في كتب أصول الفقه"[13].








ثامنًا: تأصيله لقاعدة مفهوم الخطاب: حيث استدل بقوله تعالى:﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران: 75] على حجية مفهوم الخطاب؛ يقول: "ومن حفظ الكثير وأداه، فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه، فذلك في الكثير أكثر، وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب"[14].







تاسعًا: تأصيله لقاعدة حمل المطلق على المقيد: حيث يقول في قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ﴾ [المائدة: 3]، ذكر الله سبحانه وتعالى الدم ههنا مطلقًا، وقيده في الأنعام بقوله: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾ [الأنعام: 145]، وقد حمل العلماء ههنا المطلق على المقيد إجماعًا، فالدم هنا يراد به المسفوح"[15].







عاشرًا: تأصيله لحجية العمل بالمصلحة: حيث استنبط من قوله تعالى: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف: 47] أن الشريعة معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد؛ يقول رحمه الله: "هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال، فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئًا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة، ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحِمَ بها عباده، من غير وجوب عليه ولا استحقاق، هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين، وبسطه في أصول الفقه"[16].



والحمد لله رب العالمين.







[1] يقول الشوكاني: "جميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام، من حيث إثبات الأدلة للأحكام، وثبوت الأحكام بالأدلة؛ بمعنى أن: جميع مسائل هذا الفن هو الإثبات، والثبوت؛ [إرشاد الفحول للشوكاني، ج: 1، ص: 23].




[2] إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 22.




[3] الإبهاج في شرح المنهاج لتقي الدين السبكي وولده تاج الدين، ج: 1، ص: 9.




[4] تأصيل القواعد الأصولية المختلف فيها بين الحنفية والشافعية، ص: 27.




[5] الجامع لأحكام القرآن، ج: 1، ص: 350.




[6] الجامع لأحكام القرآن، ج: 12، ص: 323.




[7] الجامع لأحكام القرآن، ج: 14، ص: 188.




[8] الجامع لأحكام القرآن، ج: 6، ص: 44.




[9] الجامع، ج: 1، ص: 405، 406.




[10] الجامع، ج: 1، ص: 475.




[11] الجامع، ج: 1، ص: 475.




[12] الجامع لأحكام القرآن، ج: 1، ص: 476.




[13] الجامع، ج: 1، ص: 479.




[14] الجامع لأحكام القرآن، ج: 3، ص: 38.




[15] الجامع لأحكام القرآن، ج: 1، ص: 530.




[16] الجامع لأحكام القرآن، ج: 9، ص: 203.










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.48 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.16%)]