عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 14-08-2022, 07:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,316
الدولة : Egypt
افتراضي القصص العربي القديم شبه وردود

القصص العربي القديم شبه وردود


د. إبراهيم عوض





تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين (30)


وبعد أن فرَغنا من موضوع القصص العربي القديم، واتَّضحت قضيته تمامًا، أحب أن أعود مرة أخرى - ولكن بالتفصيل - إلى النظر في شُبَه من يعترضون على وجوده؛ وذلك لأهمية الموضوع، وقد سبق - في ردنا على من يقولون: إن شكل القصة الغربية يختلف عنه في القصص العربي القديم - أن أوضحنا أن هذا الاعتراض ليس بشيء؛ لأن الفن القصصي تتغيَّر أشكاله مع الزمن، والقصص الغربي نفسه في بدايته يختلف عن الآن من هذه الناحية اختلافًا شديدًا، وليس هذا بمسوغ عند أحد للقول بأن الغرب لم يكن يعرف القصة من قبلُ، بل إن الشعر العربي نفسه قد تغير الآن تغيرًا هائلاً عن الشعر الذي كان يَنظمه العرب القدماء، فهل يصح الزعم بأن العرب لم يعرفوا الشعر في الماضي؟ إن هذا مثل ذاك، بل إن عددًا كبيرًا مما تركه العرب من قصص ليصمد لِمَحك الشكل الفني الحديث، رغم أن هذا ليس بشرطٍ أبدًا، فلكل زمان ولكل مكان دولة ورجال، وكثير من النُّقاد العرب الكبار في عصرنا، قد أثبتوا هذا وأطالوا القول فيه، والمهم أن يتألف العمل القصصي من أحداث تقع في زمان ومكان معيَّنين، وشخصيات وحوار وسردٍ، وموضوع تدور عليه القصة، وشكل فني مُحكم يتكون من بداية وعُقدة ونهاية، أما التفصيلات، فتختلف من زمن إلى زمن، ومن أُمة إلى أمة، تبعًا للتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والثقافية والذوقية، وما إلى ذلك، وما يعجبنا اليوم ربما لا يعجب أبناءنا وأحفادنا غدًا، مثلما لا يعجبنا بعض ما خلَّفه لنا أسلافنا، وهل تجري الحياة على وتيرة واحدة؟

إن هذا لهو المستحيل بعينه، فلماذا يَشِذ الفن القصصي عن هذه السُّنة، وتكون القصة الغربية في العصر الحديث هي "القصة" بـ"أل" الماهية، وما سواها ليس بقصة؟ وإذا كان الأوربيون في غمرة غرورهم وتصوُّرهم الأحمق أنهم مركز الكون، وأن ذوقهم هو المعيار الذي ينبغي أن يأخذ به العالم أجمع، فما عُذر بعضنا في ترديد هذا السُّخف الذي يراد به أوَّل ما يراد، الفتُّ في عَضُدنا، وتوهين عزائمنا، وإشعارنا بالقلة والنقص إزاءهم؟ وإذا كنا قد ترجمنا ولا نزال نُترجم الأعمال القصصية التي يبدعها الغربيون، فقد ترجموا هم بدورهم كثيرًا من الأعمال القصصية التي أبدعها أجدادنا، وتأثَّروا بها مثلما تأثَّرنا نحن بهم، ترجموها إلى اللغات الأوربية المختلفة، وكثيرًا ما ترجموا هذا العمل أو ذاك إلى اللغة الواحدة عدة مرات، وهي سُنة كونية لا تختلف أبدًا: كل أمة تأخذ من غيرها وتُعطيها، وليردِّد الغربيون ما يشاؤون في تمجيد أنفسهم وتفخيمها، فكل إنسان حُر في أن يقول عن نفسه ما يريد، لكن العبرة بالمستمع، الذي ينبغي أن يكون عاقلاً، فلا يصدق كل ما يَقرع أُذنه من كلام، حتى لو كان كلامًا مذقًا تافهًا لا يقبله العقل، ويتناقض مع معطيات الحياة.

كذلك قد يحتج الذين ينفون عن العرب القدامى معرفتهم بالفن القصصي، بأن "ألف ليلة وليلة" والسِّيَر الشعبية مثلاً تقوم على حوادث مُغرقة في الخيال، لا علاقة لها بالواقع اليومي، إلا أن هذا احتجاج خاطئ، ففي كثير من قصص "ألف ليلة وليلة"، تصوير حي للواقع العربي والإسلامي في الفترة التاريخية التي تدور فيها، أما الجانب المغرق في الخيالات والغرائب، فها هي ذي الواقعية السحرية تُعيده لنا اليوم من جديد، وكثير من القصاصين والنُّقاد يتحدثون عنها حديث المبهور، فهل نستطيع القول بأن الروايات التي يكتبها قصاصو أمريكا الجنوبية ومن يتَّبعون سُنتهم - وكثير ما هم - على أساس من هذه الواقعية السحرية، لا تَمُت بصلة إلى فن القصة؟

وهناك أيضًا من يحاولون التهوين من شأن "المقامة"، بدعوى أن كُتَّابها كانوا يتغيَّون استعراض عضلاتهم اللغوية فحسب، وهذه - في واقع الأمر - دعوى منكرة؛ لأن المقامات ليست براعةً لغوية فقط، بل في كثير جدًّا مما ترَك الهمداني والحريري مثلاً الحكاية الشائقة والتصوير العجيب، والحوار الخلاَّب، والعُقدة المحكمة، فإذا أضفْنا إلى ذلك كله الأسلوب اللغوي المزخرف الذي كان يستخدمه كاتب المقامة، أدركنا إلى أي مدًى كان المقامي مُتقنًا لفنه، ممسكًا بخيوطه بغاية الإحكام، وأين هذا من بعض كتاب القصة الحاليين عندنا، ممن يعانون من فقر المعجم، وركاكة الأسلوب، والجهل بقواعد النحو والصرف؟!

صحيح أن الذوق الأدبي قد تغيَّر الآن، بيد أن هذا لا ينبغي أن يَدفعنا إلى الافتئات على ذلك الفن وأصحابه، الذين كانوا في إبداعهم أبناء عصرهم الأوفياء.


وأختم تلك النقطة بالإشارة إلى ما أوضَحته قبلاً من أن أغلبية كتاب القصة ونُقَّادها في بدايات العصر الحديث بمصر على سبيل المثال، لم يكونوا يرون فيها فنًّا جديدًا، بل مجرد امتداد لفن قديم عرَفه العرب من قبلُ، ومن يطلب تفصيلاً أكثر من ذلك، يستطع الرجوع إلى الباب الأول من كتابي: "نقد القصة في مصر: 1888 - 1980م" في الفصل المسمى: "القصة المصرية والتراث القصصي العربي".





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 17.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.34 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (3.46%)]