عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 22-11-2022, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,952
الدولة : Egypt
افتراضي الفن القصصي في العصر الجاهلي

الفن القصصي في العصر الجاهلي


د. إبراهيم عوض






وننتقل إلى القصص النثري الجاهلي، وهأنذا أورد بعضًا من نماذجه المبثوثة في كتب الأدب المختلفة، ونبدأ بكتاب "أخبار النساء" لابن الجوزي الذي نقرأ فيه القصة التالية، وهي قصة من قصص العشق والمؤامرات، تتمتع بمستوى فني راقٍ؛ ففيها العقدة، وفيها التشويق، وفيها الرسم المتقن للشخصيات، وفيها الحوار المحكم الموجز المُنبي عن طبيعة المتحدثين، وفيها النهاية التي تجمع بين المفاجأة وعدم مصادمة منطق الحياة في نفس الآن، وهي ترينا أن الطبيعة البشرية، مهما يكن من علو نفس صاحبها، لا تسلم عادة من بعض العيوب التي قد تكون عيوبًا مخيفة، كما هو الحال في أمر النعمان بن المنذر، كما تقوم العقدة فيها على المكر وأخذ الآخرين بالحيلة الخفية الدقيقة التي تخدع المحتال عليه وتوهمه أنها تبغي مصلحته، ليكتشف في النهاية، بعد أن تقع الفأس في الرأس، أنه كان ضحية حيلة مزعجة حِيكَتْ بمهارة شديدة فلم يتبين له ساعتها وجه الحق فيها، ولا ينبغي أن يفوتنا هنا النص على اختلاط النثر والشعر في القصة، وإن اقتصر العنصر الشعري هنا على بيت واحد في النهاية، ولنلاحظ كيف رويت القصة كما كانت تُروى الأحاديث النبوية والأخبار التاريخية وكثير من حكايات العرب وأقوالهم، وذلك باتباع أسلوب العنعنة؛ إذ بدأت على النحو التالي: "حكى الهيثم بن عدي عن الكلبي قال: كان مُلك النعمان بن المنذر أربعين سنة لم يُر منه في مُلكه سقطة غير هذه؛ وذلك أنه ركب يومًا فنظر إلى امرأة خارجة من الكنيسة فأعجبه جمالها وحسبها وهيئتها، فقال: عليَّ بعدي بن زيد، وكان كاتبه وخاصته، فقال له: يا عدي، قد رأيت امرأة لئن لم أظفر بها إنه هو الموت، فلا بد في أن تتلطف في الجمع بيني وبينها، قال: ومن هي؟ قال: قد سألت عنها فقيل لي: امرأة حكم بن عوف، رجلٌ من أشراف أهل الحيرة، قال: فهل أعلمت بذلك أحدًا؟ قال: لا، قال: فاكتمه، فإذا أصبحت فجُدْ بكل كرامة لنزيلك، يريد حكم بن عوف، فلما أذن للناس بدأ به وأكرمه وأجلسه معه على سريره، فأعجب الناس حاله وتحدثوا به، فلما أمسى فأذن للناس بدأ به فأكرمه وأجلسه معه وكساه وجمله، ففعل به ذلك أيامًا، ثم قال له عدي: أيها الملك، عندك عشر نسوة، فطلق أقلهن عنك منزلة ثم قل له: فليتزوجها، ففعل، فلما دخل عليه قال له: يا حكم، إني قد طلقت فلانة لك فتزوجها، فقال حكم لعدي: ما صنع الملك بأحد ما صنع بي، ولا أدري بمَ أكافئه، فقال له عدي: طلق امرأتك كما طلَّق امرأته، ففعل، وحظي عدي بها عند الملك، وعلم الرجل أنه مكر به في امرأته، وفيها يقول بعض أهل الحيرة:

ما في البرِيَّةِ مِن أنثى تعادلها ♦♦♦ إلا التي أخَذ النعمانُ مِن حكَمِ"

أما القصة التالية، وهي مأخوذة من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، فبطلها كليب بن ربيعة، وهو شيخ قبيلة مستبد لا يبالي بكرامة أحد ولا بحقوقه، بل يعامل الجميع بعسف وتعالٍ واحتقار، ولا يُعفي أحدًا من ذلك، ولو كان صِهرًا له، مما أدى في النهاية إلى أن قتله أخو زوجته واضعًا بذلك أختَه في كرب عظيم؛ إذ كانت بين نارين: نار الحزن على مقتل زوجها، ونار الخوف من انتقام أهله من أخيها، يقول أبو الفرج في ذلك:
"وكان السبب في قتل كليب بن ربيعة... أن كليبًا كان قد عز وساد في ربيعة فبغى بغيًا شديدًا، وكان هو الذي ينزلهم منازلهم ويرحلهم، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره، فبلغ من عزه وبغيه أنه اتخذ جرو كلب، فكان إذا نزل منزلًا به كلأ قذف ذلك الجرو فيه فيعوي، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو مَن آذن بحرب، فضرب به المثل في العز، فقيل: أعز من كليب وائل، وكان يحمي الصيد ويقول: صيد ناحية كذا وكذا في جواري، فلا يصيد أحد منه شيئًا، وكان لا يمر بين يديه أحد إذا جلس، ولا يحتبي أحد في مجلسه غيره، فقتله جساس بن مرة... وكان كليب بن ربيعة ليس على الأرض بَكْري ولا تغلِبي أجار رجلًا ولا بعيرًا إلا بإذنه، ولا يحمي حمى إلا بأمره، وكان إذا حمى حمى لا يُقرَب، وكان لمرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة عشرة بنين، جساس أصغرهم، وكانت أختهم عند كليب، وخالة جساس البسوس، فجاءت فنزلت على ابن أختها جساس فكانت جارة لبني مرة، ومعها ابن لها، ولهم ناقة خوارة من نعم بني سعد، ومعها فصيل، أخبرني علي بن سليمان قال: قال أبو برزة: وقد كان كليب قبل ذلك قال لصاحبته أخت جساس: هل تعلمين على الأرض عربيًّا أمنع مني ذمة؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت: نعم، أخي جساس وندمانه ابن عمه عمرو المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وزعم مقاتل أن امرأته كانت أخت جساس، فبينا هي تغسل رأس كليب وتسرحه ذات يوم إذ قال: من أعز وائل؟ فصمتت، فأعاد عليها، فلما أكثر عليها قالت: أخواي جساس وهمام! فنزع رأسه من يدها وأخذ القوس فرمى فصيل ناقة البسوس خالة جساس وجارة بني مرة فقتله، فأغمضوا على ما فيه وسكتوا على ذلك، ثم لقي كليبٌ ابن البسوس فقال: ما فعل فصيل ناقتكم؟ قال: قتلتَه وأخليتَ لنا لبن أمه، فأغمضوا على هذه أيضًا، ثم إن كليبًا أعاد على امرأته فقال: من أعز وائل؟ فقالت: أخواي، فأضمرها وأسرها في نفسه وسكت حتى مرت به إبل جساس فرأى الناقة فأنكرها، فقال: ما هذه الناقة؟ قالوا: لخالة جساس، قال: أوقد بلغ من أمر ابن السعدية أن يُجير عليَّ بغير إذني؟ ارمِ ضرعها يا غلام، قال فراس: فأخذ القوس فرمى ضرع الناقة فاختلط دمها بلبنها، وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر، فقال: احلبوا لها مكيالي لبن بمحلبها، ولا تذكروا لها من هذا شيئًا، ثم أغمضوا عليها أيضًا، قال مقاتل: حتى أصابتهم سماء، فغدا في غبها يتمطر، وركب جساس بن مرة وابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل، وقال أبو برزة: بل عمرو بن أبي ربيعة، وطعن عمرو كليبًا فحطم صلبه، وقال أبو برزة: فسكت جساس حتى ظعن ابنا وائل، فمرت بكر بن وائل على نهي يقال له: شبيث، فنفاهم كليب عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على نهي آخر يقال له: الأحص، فنفاهم عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على بطن الجريب فمنعهم إياه، فمضوا حتى نزلوا الذنائب، واتبعهم كليب وحيُّه حتى نزلوا عليه، ثم مر عليه جساس وهو واقف على غدير الذنائب فقال: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشًا! فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون، فمضى جساس ومعه ابن عمه المزدلف، وقال بعضهم: بل جساس ناداه فقال: هذا كفعلك بناقة خالتي، فقال له: أوقد ذكرتها؟ أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل بها ، فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضنيه، فلما تداءمه الموت قال: يا جساس، اسقني من الماء، قال: ما عقلت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه؟ قال أبو برزة: فعطف عليه المزدلف عمرو بن أبي ربيعة فاحتز رأسه".

والآن أود من القارئ أن يطالع القصة التالية التي تختلف عما مر بنا حتى الآن من قصص؛ إذ هي قصة رمزية، بعض أبطالها من الحيوان الذي يتكلم كما يتكلم الآدميون، ويشعر كما يشعر الآدميون، ويجادل كما يجادل الآدميون، وعنده الحكمة والحذر كما عند الآدميين، جاء في كتاب "الأمثال" للمفضل الضبي: "زعموا أن أخوينِ كانا فيما مضى في إبل لهما فأجدبت بلادهما، وكان قريبًا منهما وادٍ فيه حية قد حمته من كل واحد، فقال أحدهما للآخر: يا فلان، لو أني أتيت هذا الوادي المكلئ فرعيت فيه إبلي وأصلحتها، فقال له أخوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحدًا لم يهبط ذاك الوادي إلا أهلكته؟ قال: فوالله لأهبطن، فهبط ذلك الوادي فرعى إبله به زمانًا، ثم إن الحية لدغته، فقال أخوه: ما في الحياة بعد أخي خير، ولأطلبن الحية فأقتلها، أو لأتبعن أخي، فهبط ذلك الوادي فطلب الحية ليقتلها، فقالت: ألست ترى أني قتلت أخاك؟ فهل لك في الصلح فأدعك بهذا الوادي فتكون به وأعطيك ما بقيت دينارًا في كل يوم؟ قال: أفاعلة أنت؟ قالت: نعم، قال: فإني أفعل، فحلف لها وأعطاها المواثيق لا يضيرها، وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا، فكثر ماله ونمت إبله حتى كان من أحسن الناس حالًا، ثم ذكر أخاه فقال: كيف ينفعني العيش وأنا أنظر إلى قاتل أخي فلان؟ فعمد إلى فأس فأحَدَّها ثم قعد لها فمرت به فتبعها فضربها فأخطأها، ودخلت الجُحر ووقع الفأس بالجبل فوق جحرها فأثر فيه، فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار الذي كانت تعطيه، فلما رأى ذلك وتخوف شرها ندم وقال لها: هل لك في أن نتواثق ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاودك وهذا أثَر فأسك، وأنت فاجر لا تبالي العهد؟ فكان حديث الحية والفأس مثلًا مشهورًا من أمثال العرب".

ومِن هذا النص يتبين لنا أن قصص الحيوان في الأدب العربي لم ينتظر حتى يضع ابن المقفع كتابه: "كليلة ودمنة"؛ إذ ها هم أولاء الجاهليون يجعلون من الحيوانات أبطالًا لقصصهم، ويُنطقونهم بذات اللغة التي يتحدثونها، ويضفون عليها سائر الخلال البشرية كما سلف القول، وهناك قصص جاهلية أخرى عن الحيوان: منها قصة قيام الضب بالقضاء في الخصومة التي كانت بين الأرنب والثعلب، وقصة الضب والضفدع، وقصة الغراب الذي أراد أن يقلد العصفور، وقصة النعامة التي ذهبت تطلب قرنين، وقصة بِرِّ الهدهد بأمه، وقصة الرخم الحكيم، وكذلك قصة الغراب والديك، وفيها أن الديك كان نديمًا للغراب وأنهما شربا الخمر عند خمَّار ولم يعطياه شيئًا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن بعد أن رهن صديقه عند الخمار، لكنه غدر به فبقي في الحبس، وهناك أيضًا قصة الضبع والذئب، وملخصها أن الضبع وجدت تمرة فاختلسها الذئب فلطمته فتحاكما إلى الضب، فقالت: يا أبا الحسيل، قال: سميعًا دعوت، قالت: جئناك نحتكم إليك، قال: في بيته يؤتى الحكم، قالت: إني التقطت تمرة، قال: حُلوًا جنيت، قالت: إن الثعلب أخذها، قال: حظ نفسه بغى، قالت: لطمتُه، قال: أشفيت، والبادي أظلم، قالت: فلطمني، قال: حرٌّ انتصر لنفسه، قالت: اقضِ بيننا، قال: قضيت"... وغير ذلك مما يجده القارئ في "الحيوان" للجاحظ و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة و"الأذكياء" لابن الجوزي "وخزانة الأدب" للبغدادي وغيرها.



يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.87%)]