عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-09-2019, 10:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حديث: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه

حديث: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح


ثانيًا: اليوم الرابع من ذي الحجة:

دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، وكان بات ليلتها بذي طوى؛
قال ابن القيم: "ثم نهض صلى الله عليه وسلم إلى أن بات بذي طوى، وهي المعروفة الآن بآبار الزاهر، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه ونهض إلى مكة، فدخلها نهارًا من أعلاها من الثنية العليا التي تشرف على الجحون.... ثم سار حتى دخل المسجد وذلك ضحى"؛ انظر زاد المعاد 2/ 224.

نعود لسياق الحديث:
قال جابر رضي الله عنه: "حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: ï´؟ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ï´¾ [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت يقرأ في الركعتين: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1]، وï´؟ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ï´¾ [الكافرون: 1]، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: ï´؟ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ï´¾ [البقرة: 158]، «أبدأ بما بدأ الله به»، فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبَّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرةً، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرةً»، فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدةً في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد».

فيه عدة فوائد:
الفائدة الأولى: سنية استلام الركن عند الابتداء بالطواف، والمراد بالركن في حديث جابر هو الركن الأسود؛ لأن الركن إذا أطلق يراد به الركن الأسود، واستلامه له عدة مراتب: أفضلها أن يستلمه ويقبله فإن شق عليه، استلمه بيده وقبل يده، فإن شق عليه استلمه بشيء، وقبل هذا الشيء، فإن شق عليه أشار إليه بيده، ولا يقبل يده، وكل هذه المراتب الأربعة جاءت أحاديثها في الصحيحين، واستلام الركن سنة بإجماع العلماء، قال ابن هبيرة رحمه الله: "أجمعوا على أن استلام الحجر الأسود مسنون"؛ انظر: الإفصاح لابن هبيرة (1/ 287)، وانظر مراتب الإجماع لابن حزم ص 44.

الفائدة الثانية: مشروعية الطواف بالبيت سبعة أشواط، وهذا الطواف هو طواف القدوم للقارن كالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك المفرد، وهو طواف العمرة لمن كان متمتعًا، ويسن أن يرمل في طوافه، وفي الرمل أربع إشارات:
الإشارة الأولى: مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى والمشي في الأشواط الأربعة الباقية.

الإشارة الثانية: أن الرمل سنة في طواف القدوم وطواف العمرة، فهو مشروع لكل قادم لمكة، فنخرج أي طواف آخر كطواف الإفاضة - فإن جابر في حديث الباب لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في طواف الإفاضة - وكذلك في طواف الوداع، ونخرج من أراد أن يطوف بالبيت سبعًا تطوعًا، ونخرج المكي في طوافه؛ لأنه ليس قادمًا وإنما من أهل مكة.

الإشارة الثالثة: من فاته الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى لزحام أو نسيان ونحوه، فإنه لا يشرع له أن يقضيه في الأشواط الأربع الباقية، والقاعدة في ذلك أن السنة إذا فات محلها فإنها لا تقضى"، إلا ما ورد الدليل على قضائه إذا فات كالسنن الرواتب والوتر.

الإشارة الرابعة: الرمل يكون من الحجر الأسود إلى الحجر مرة أخرى، وهو سنة للرجال، وأما المرأة فلا يسن لها بإجماع أهل العلم؛ انظر كتاب الإجماع لابن المنذر ص (61).

الفائدة الثالثة: مشروعية صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم، ومقام إبراهيم هو حجر كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه وهو يبني الكعبة حين ارتفع بناؤها، وهذا هو القول الأظهر من عدة أقوال قيلت في مقام إبراهيم، ويشهد لهذا القول ما رواه البخاري من حديث ابن عباس في قصة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت وفيه: "فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له فقام عليه"، ويتعلق بهذا المقام بعد الطواف أربع سنن:
السنة الأولى: يسن بعد الطواف أن يمر بمقام إبراهيم ويقرأ: ï´؟ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ï´¾ [البقرة: 125]، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الباب.

السنة الثانية: صلاة الركعتين خلف المقام واختلف في هاتين الركعتين على قولين:
القول الأول: أنهما واجبتان، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، والمشهور من مذهب المالكية، ورواية في مذهب أحمد؛ انظر بدائع الصنائع (2/ 148) والمنتقى (2/ 288).

واستدلوا: بظاهر الأمر في قوله تعالى: ï´؟ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ï´¾ [البقرة: 125].

القول الثاني: أنها سنة، وهو المشهور من مذهب أحمد والأصح من مذهب الشافعي، وقول مالك في إحدى روايتيه؛ انظر المغني (5/ 232) والمجموع (8/ 14).

واستدلوا: بعموم حديث طلحة بن عبيدالله، وفيه سؤال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الفرائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع"؛ متفق عليه.

ووجه الدلالة أن ما عدا هذه الصلوات الخمس ليس بواجب ومنه ركعتا الطواف.

وهناك قول ثالث أنهما بحسب الطواف إن كان واجبًا فواجبتان وإلا فهما سنة، والأحوط للمسلم ألا يتركهما؛ انظر شرح مسلم للنووي المرجع السابق.

السنة الثالثة: أن تكون الركعتان خلف المقام، فإن تيسر له الاقتراب من المقام فيكون خلفه، يجعل المقام بينه وبين الكعبة فهو أفضل، وإن لم يتيسر صلى خلف المقام ولو بعيدًا، وإن لم يتيسر له لزحام ونحوه، أجزأه أن يصلي في أي مكان بالمسجد.

السنة الرابعة: يسن أن يقرأ في الركعة الأولى: ï´؟ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ï´¾ [الكافرون: 1]، وفي الثانية: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1]، ففي حديث الباب قال جابر: "يقرأ في الركعتين: ï´؟ قل هو الله أحد ï´¾ وï´؟ قل يا أيها الكافرون ï´¾، وفي رواية النسائي: ï´؟ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ï´¾، وï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾.

الفائدة الرابعة: يسن إن تيسر له بعد صلاة الركعتين أن يرجع لركن الحجر الأسود، فيستلمه ثم يذهب إلى الصفا، وظاهر الحديث أنه لا يسن تقبيل الحجر ولا الإشارة إليه لعدم الدليل، وإنما استلام باليد إن تيسر.

الفائدة الخامسة: قول جابر رضي الله عنه: (ثم خرج من الباب إلى الصفا)، وهذا حينما كان المسجد الحرام قديمًا له أبواب دون المسعى يخرج منها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الصفا من باب الصفا؛ كما في رواية الطبراني رحمه الله "ثم خرج من باب الصفا"، وأما اليوم فيتجه إلى المسعى من جهة الصفا ليسعى، ودل حديث جابر على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل على الصفا عدة أمور هي كما يلي مرتبة في الإشارات التالية:
الأولى: يسن على الصحيح إذا صعد الصفا أن يقرأ كما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع: ï´؟ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ï´¾ [البقرة: 158]، فيبدأ بالصفا؛ لأن هذا هو صنيع النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في فعله وقوله في مواطن العبادات التأسي، خلافًا لمن قال لا يسن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال ذلك تعليمًا لأصحابه.
والصفا: جمع مفرده صفاة وهي الصخرة الصلبة الملساء، والمراد هنا أسفل الجبل المعروف في أول المسعى.

والمروة: هي الحجر الأبيض البراق الذي يقدح منه النار، والمراد هنا أسفل الجبل المعروف في نهاية المسعى.

ï´؟ من شعائر الله ï´¾: أي من أماكن عبادته المأمور بها في الحج والعمرة.

ثم قال: «أبدأ بما بدأ الله به»، وبدأ بالصفا وفي رواية النسائي، (ابدؤوا) بصيغة الأمر، والله تعالى ذكر الصفا أولًا في الآية السابقة: "ولكن رواية النسائي شاذة تفرد بها الثوري وسليمان بن بلال رحمهم الله جميعا عن بقية الثقات؛ انظر إرواء الغليل 4/ 317.

الثانية: يرقى الصفا ويستقبل البيت وإن تيسر له رؤيته، فهذا من السنة لقول جابر رضي الله عنه: "حتى رأى البيت فاستقبل القبلة"، وكانت رؤية البيت في الزمن السابق متيسرة، أما اليوم بعد البنيان ربما لا يجد إلا موضعًا يسيرًا يراه منه، فإن تيسر فهو أفضل وإن لم يتيسر، فيكتفي باستقباله.

الثالثة: الذكر الذي يقال في هذا الموضع يتلخص فيما يلي:
1- يرفع يديه لثبوت ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم وفيه: "فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلًا عليه، حتى نظر إلى البيت، فجعل يحمد الله ويدعوه بما شاء أن يدعو"، فدل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أمرين لم يردا في حديث جابر رضي الله عنه: رفع اليدين وحمد الله تعالى.

2- يوحد الله ويكبره كما في حديث جابر رضي الله عنه في الباب، وجاء هذا التوحيد بلفظ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، فتبيَّن مما تقدم أنه يجمع بين التحميد والتكبير والتوحيد لثبوت ذلك كله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قال مثلًا: "الحمد لله والله أكبر، ولا إله إلا الله"، وجاء بالتوحيد السابق لجمع بينها ويفعل ذلك ثلاث مرات.

3- يدعو بين كل ذكر وذكر، فبعدما يحمد ويكبر ويوحد، يدعو ثم يحمد ويكبر ويوحد، ثم يدعو ثم يحمد ويكبر ويوحد، ثم ينزل إلى جهة المروة، فيكون الذكر ثلاث مرات والدعاء مرتين بما شاء لقوله: "ثم دعا بين ذلك"، وهذا هو أول مواطن الدعاء في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم تضمنت ست وقفات للدعاء: على الصفا والمروة، وفي عرفة، وفي مزدلفة، وعند الجمرة الأولى، وعند الجمرة الثانية؛ انظر زاد المعاد 2/ 287.

والمقصود بالأحزاب في الذكر السابق هم الطوائف التي تجمعت على النبي صلى الله عليه وسلم أيام الخندق، فتحزبوا عليه وهم: قريش، وغطفان، ويهود قريظة، والنضير وغيرهم، فهزمهم الله تعالى وكسرهم بلا قتال من الناس؛ قال تعالى في سورة الأحزاب: ï´؟ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ï´¾ [الأحزاب: 25].

الإشارة الرابعة: نزول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المروة ماشيًا حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي سعى، وهذا هو المشروع في حق من سعى، فإذا جاوز بطن الوادي مشى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الموضع الذي سعى فيه النبي صلى الله عليه وسلم سعيًا شديدًا، عليه اليوم علمان أخضران وهو في الأصل مهبط الواد في الزمن السابق، وأما بقية أرض المسعى، فقد كانت غير مستوية سابقًا، والحكمة من السعي: هو سعي أم إسماعيل، كانت تمشي بين الصفا والمروة، فإذا وصلت الوادي أسرعت في مشيها؛ لأن المكان الذي فيه ولدها يغيب عنها إذا هبطت وهي قلقة عليه، فمن السنة أن يسعى كلما أتى بطن الوادي في ذهابه وإيابه في السبعة أشواط كلها.

الإشارة الخامسة: قول جابر: "ففعل على المروة كما فعل على الصفا"، فيه دلالة على أنه يفعل على المروة كما فعل على الصفا من استقبال للقبلة، ورفع لليدين، والذكر ثلاثًا يدعو بينهما مرتين، وأما أثناء السعي فيقول ما شاء من ذكر ودعاء وقراءة قرآن، ويكون آخر طوافه في المروة.

الفائدة السادسة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين ليس معهم هدي أن يحلوا ويجعلوا نسكهم عمرة، وفي ذلك ثلاث إشارات:
الأولى: فيه جواز تحويل النسك من إفراد إلى تمتع، وذلك لمن لم يكن معه هدي.
الثانية: قول النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة بن جعشم حينما سأله سراقة: "ألعامنا هذا أم لأبد؟"، فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدةً في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد»".

اختلف في معنى ذلك على عدة أقوال:
قيل: معناه جواز فعل العمرة في أشهر الحج إلى أبد الأبد؛ أي: إلى يوم القيامة.
وقيل: معناه جواز القران وإدخال العمرة في الحج إلى يوم القيامة.

وقيل: معناه جواز فسخ الحج إلى عمرة إلى يوم القيامة، وأن هذا ليس خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة.

وكل الأقوال الثلاثة يحتملها اللفظ وربما تكون كلها مرادة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب جوابًا شاملًا، وأقرب هذه الأقوال القول الثالث؛ لأن السؤال كان عن فسخ العمرة إلى الحج؛ قال ابن حجر رحمه الله: "سياق السؤال يقوي هذا التأويل؛ انظر الفتح "كتاب العمرة" باب "عمرة التنعيم" حديث (1785).

الإشارة الثالثة: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث شبك أصابعه؛ ليكون أبلغ في توصيل الجواب.
نعود لسياق الحديث:
قال جابر رضي الله عنه: "وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل، ولبست ثيابًا صبيغًا، واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشًا على فاطمة للذي صنعت، مستفتيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟»، قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: «فإن معي الهدي فلا تحل»؛ قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليٌّ من اليمن والذي أتى به النبي مائةً، قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي ومن كان معه هدي".
فيه عدة فوائد:
الفائدة الأولى: فيه طاعة الصحابة رضوان الله عليهم الذين ليس معهم هدي للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قصروا وأحلوا وجعلوها عمرة، كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيمن حل فاطمة رضي الله عنه بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وزوج علي رضي الله عنه؛ حيث لبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت امتثالًا لأمر أبيها صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الثانية: الحديث فيه حرص علي رضي الله عنه على التثبت في الحكم الشرعي وإنكاره على أهله فيما يظنه خطأً؛ حيث ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم محرشًا؛ أي: مذيعًا لفعل زوجته فاطمة من التحلل بعدما أنكر عليها، وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أقر النبي صلى الله عليه وسلم فعل فاطمة رضي الله عنها وقال: "صدقت صدقت".

الفائدة الثالثة: فيه دلالة على بذل النبي صلى الله عليه وسلم ماله في الطاعات، ومسارعته صلى الله عليه وسلم لذلك؛ حيث أهدى مائة بدنة وهي مجموع ما جاء به مع ما جاء به علي من اليمن، ولا شك أن هذا يدل على أن الأفضل ألا يقتصر الإنسان في هديه على شاة أو سبع من بدنة أو بقرة، بل السنة أن يبذل ما يستطيعه في الهدي.

الفائدة الرابعة: سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه عن نيته في تعيين النسك، وإجابة علي رضي الله عنه له بقوله: "اللهم إني أُهل بما أهلَّ به رسولك".

وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له دليل على جواز الحوالة على الإحرام بإحرام الغير بشرط أن يكون ناويًا الإحرام من قبل، وهذا فيه جواز الإحرام من غير تعيين النسك، ثم بعد ذلك يعين، وورد عند مسلم أيضًا أن أبا موسى رضي الله عنه أيضًا أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما لم يسق الهدي، أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع بخلاف علي رضي الله عنه الذي أشركه النبي صلى الله عليه وسلم في الهدي، فصار قارنًا كالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان تعليق تعيين النسك بنسك الغير لا يجوز، لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس له، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ثالثًا: اليوم السادس والسابع والثامن من ذى الحجة:
تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة اليوم الرابع يوم الأحد، وفيه قضى الطواف والسعي، ثم مكث اليوم الخامس والسادس والسابع من ذي الحجة كلها في مكة في الأبطح تحديدًا يقصر الصلاة، فلما كان اليوم الثامن يوم الخميس توجه إلى منى؛ قال ابن القيم رحمه الله: "وكان يصلي مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة: يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء والأربعاء؛ انظر زاد المعاد 2/ 232،233.

رابعًا: اليوم الثامن (يوم التروية):
يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سُمي بيوم التروية؛ لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء في منى لما بعده من الأيام؛ ليشربوا ويستعملوا الماء، وليسقوا غيرهم هناك في عرفة ومزدلفة، والنبي صلى الله عليه وسلم أقام بالأبطح هو ومن معه حتى صبح اليوم الثامن، فأحرم المتمتعون إحرام الحج قبل الزوال في الأبطح، ثم توجهوا إلى منى وكان ذلك يوم الخميس.

وهذا فيه دلالة على أن السنة للحاج أن يحرم من المكان الذي هو فيه أيًّا كان هذا المكان، وأن يحرموا قبل الزوال، قال ابن القيم رحمه الله: "فلما كان يوم الخميس ضحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم"؛ أي: من مكانهم؛ انظر زاد المعاد 2/ 133.

نعود لسياق الحديث:
قال جابر رضي الله عنه: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منًى، فأهلُّوا بالحج يوم التروية، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر".

فيه فائدتان:
الفائدة الأولى: الحديث دليل على أن السنة للحاج - سواء كان متمتعًا أو قارنًا أو مفردًا - أن يصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء من اليوم الثامن، وكذلك الفجر من اليوم التاسع في منى، فالنبي صلى الله عليه وسلم صلاها في منى يقصر الرباعية من غير جمع.


الفائدة الثانية: الحديث فيه دلالة على أن السنة أن يكون مبيت الحاج ليلة التاسع في منى، وبإجماع العلماء أن خروج الحاج إلى منى يوم التروية وصلاته في منى وبيتوته كلها سنة، إذًا يوم التروية كله سنة بالإجماع والنص، وهو حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه عند أبي داود رحمه الله، وفيه أنه لم يأت منى وإنما مباشرة وقف بعرفة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله؛ مما يدل أن يوم التروية كله سنة.


قال القرطبي رحمه الله: "استحب جميع العلماء الخروج إلى منى يوم التروية، والمبيت بها، والغدو منها إلى عرفة، ولا حرج في ترك ذلك، والخروج من مكة إلى عرفة ولا حرج"؛ انظر المفهم (3/ 331) حديث (1094).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.19 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]