عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 21-01-2021, 04:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خلق آدم بين الأصل والصورة

خلق آدم بين الأصل والصورة



سيد مبارك




وذهَب القرطبيُّ والمازريُّ - رحمها الله - على نفس التفسيرِ لمفهومِ الصورة؛ فقدْ ذكر الحافظُ ابن حجرٍ العسقلانيُّ (المتوفَّى: 852 هـ) في شرح البخاري أقوالهما، فقال:

قال القرطبي: "أعادَ بعضُهم الضميرَ على الله متمسِّكًا بما ورد في بعضِ طُرُقه: ((إنَّ الله خَلَق آدمَ على صورةِ الرَّحمن))، قال: وكأنَّ مَن رواه أورده بالمعنَى متمسكًا بما توهَّمه فغلِط في ذلك، وقدْ أنكَرَ المازريُّ ومَن تَبِعه صحةَ هذه الزِّيادة، ثم قال: وعلى تقديرِ صِحَّتها فيُحمل على ما يَليق بالباري - سبحانه وتعالى.



بل إنَّ الحافظ ابن حجر ذكَر في الفتْح في شرح الحديث ما نصُّه:

وهذه الرِّواية تؤيِّد قولَ مَن قال: إنَّ الضمير لآدم، والمعنَى أنَّ الله تعالى أوْجَده على الهيئةِ التي خَلَقَه عليها لم ينتقلْ في النشأة أحوالاً، ولا تردَّد في الأرحام أطوارًا كذريَّته، بل خلَقَه الله رجلاً كاملاً سويًّا مِن أوَّل ما نفَخ فيه الرُّوح، ثم عقَّب ذلك بقوله: ((وطُوله سِتُّون ذراعًا))، فعاد الضمير أيضًا على آدم، وقيل: معنى قوله ((على صورته))؛ أي: لم يشاركْه في خلْقِه أحد؛ إبطالاً لقول أهلِ الطبائع، وخصَّ بالذِّكْر تنبيهًا بالأعْلى على الأدنى، والله أعلم.اهـ.



قلت: وانتبه جيدًا لشَرْح الحافظ والنووي شارِح صحيح مسلم لهذه الجزئية مِن الحديث: ((خلَقَ الله آدَمَ على صورتِه طولُه سِتُّون ذِراعًا))؛ لأنَّها توضِّح بما لا يدَع مجالاً للشكِّ أنَّ الضمير عائد لآدَم الذي خَلَقه على صورته بشرًا سويًّا طولُه ستون ذراعًا، وهذا واضحٌ وضوحَ الشمس في كبد السماء.



وقال ابنُ بطَّال في شرح البخاري (71/ 3) ما نصه:

وذهَب طائفةٌ إلى الهاء كناية عنِ الله تعالى، وهذا أضعفُ الوجوه؛ لأنَّ حُكم الهاء أن ترجِع إلى أقرب المذكور، إلا أن تدلَّ دَلالةٌ على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل يكون معنَى الصورة معنَى الصفة كما يقال: عَرِّفْني صورة هذا الأمْر؛ أي: صفته، ولا صورة للأمْر على الحقيقة إلا على معنَى الصفة، ويكون تقديرُ التأويل: أنَّ الله خَلَق آدَمَ على صفتِه؛ أي خلَقه حيًّا عالمًا سمعيًا بصيرًا متكلمًا مختارًا مريدًا، فعرَفْنا بذلك إسباغَ نِعمه عليه وتشريفه بهذه الخِصال.




ونظَرْنا في الإضافات إلى الله، فوجدْناها على وجوه؛ منها: إضافة الفِعل، كما يقال: خلْق الله، وأرْض الله، وسماء الله، وإضافة المُلك فيقال: رِزْق الله، ووعيد الله، وإضافة اختصاص وتنويه بذِكْر المضاف إليه، كقولهم: الكَعْبة بيتُ الله، وكقوله: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر: 29]، ووجهٌ آخَر مِن الإضافة نحو قولهم: كلام الله، وعِلم الله، وقُدرة الله، وهى إضافةُ اختصاص مِن طريق القِيام به، وليس مِن وجهة الملك والتشريف، بل ذلك على معنَى إرادته غير متعرية منها قيامًا بها ووجودًا.




ثم نظَرْنا إلى إضافةِ الصورة إلى الله، فلم يصحَّ أن يكونَ وجه إضافتها إليه على نحوِ إضافة الصِّفة إلى الموصوف بها مِن حيثُ تقوم به؛ لاستحالةِ أن يقومَ بذاته تعالى حادثٌ، فبقِي من وجوه الإضافة المُلك والفِعل والتشريف، فأمَّا الملك والفِعل فوجهه عامٌّ، وتبطل فائدةُ التخصيص فبقِي أنَّها إضافة تشريف، وطريق ذلك أنَّ الله هو الذي ابتدأ تصويرَ آدم على غير مثالٍ سبَق، بل اخترعَه، ثم اخترع من بعده على مثالِه، فتشرَّفَتْ صُورته بالإضافةِ إليه، لا أنَّه أُريد به إثباتُ صورة لله تعالى على التحقيقِ هو بها مصور؛ لأنَّ الصورة هي التألُّف والهيئة، وذلك لا يصحُّ إلا على الأجسامِ المؤلّفة، والله تَعالَى عن ذلك.




قلت: وما ذكَرَه النووي والمناوي وابن حجر وابن بطال وغيرُهم من العلماء الأفاضل مِن أهل السُّنة - رحمهم الله - في قوله : ((إنَّ الله خلَقَ آدمَ على صورتِه))، وتأويلهم للحديثِ عن ظاهره بقولهم: إنَّ الله تعالى خلَق آدَمَ على صورته ابتداءً، وليس على صورته هو - جلَّ شأنه - هو قول ينبغي الحذر منه لما يجره هذا التأويل من الاجتهاد في غير موضعه فإن صفات الله تعالي ينبغي قبولها مع التنزيه ولم نسمع أن كان بين الصحابة والتابعين في القُرون الثلاثة الأولى خير قرون الإسلام نِزاعٌ في أنَّ الضمير عائدٌ إلى الله وإنما حدث الإشكال للحديث الذي رواه الإمام البخاري ومتنه (إن الله خلق آدم على صورته, طوله ستون ذراعاً).

مما جعل بعض علمائنا المعاصرين كالألباني - رحمه الله- يقول: هذا الحديث لا يحتاج في علمي إلى تأويل لأن الإمام البخاري رواه في صحيحه بتتمة تغني عن التأويل, وهي (إن الله خلق آدم على صورته, طوله ستون ذراعاً) فالضمير لا يعود إلى الله وإنما على آدم.
أما الحديث المذكور في بعض كتب السنن بلفظ (وإن الله خلق آدم على صورة الرحمن...) فهذا ضعيف بهذا اللفظ, لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت وهو مُدلس, وقد رواه معنعناً في كل الطرق التي وقفت عليها, وكلها تدور عليها"اهـ- نقلا عن كتاب: الشيخ الألباني ومنهجه في تقرير مسائل.


قلت: وما ذهب إليه الألباني وغيره من العلماء الذين يؤيدون حديث الصورة ممن ذكرناهم سلفاً وأنه عائد لآدم خطأ وتضعيفه لحديث (وإن الله خلق آدم على صورة الرحمن...) اجتهاد منه يحتمل الخطأ لأن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه قد صححا حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي جاء فيه «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» الذي ضعفه الألباني ولا يغيب عنا أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه من أعلام الحديث وعندهما إلمام تام بالأسانيد والعلل كما لا يخفى.

وعلى كل حال لا يستطيع أحدٌ أن يقول أن هؤلاء العلماء - رحمة الله عليهم أجمعين- من أهل السنة ممن يردون حديث الصورة لآدم يتعمدون تأويل الصفات قطعا لا, وأنما هو اجتهاد منهم حسب مافهموه من صحة أسانيد أحاديث الصورة تضعيفًا أوتصحيحًا نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.

وأرى بكل وضوح واقتناع ويقين أن الأسلم والأفضل ماذهب إليه جمهور علماء أهل السنة بأن الضمير يعود لله تعالى بلا تشبيه أوتمثيل أو تعطيل والله تعالى أعلم.

وإليك أخي القارئ ما قاله ابنُ عثيمين في إزالةِ هذه الشُّبهة، وفيه مِسك الختام؛ لأنَّه يبيِّن أصل الصورة التي خَلَق الله عليها آدَمَ، ويُبيِّن بوضوح صحةَ الرأي الذي ذهَب إليه الرأيُ الآخَر للعلماء الأفاضل، ودون تأويل للصورةِ، بل تنزيه الله عنها ونفْي المماثلة، وهو بذلك يكشف الغُمَّة، ويوفِّق بين التفسيرين بما لا يُخالِفُ عقيدةَ أهل السنة في الصِّفات – رحمه الله تعالى - والله المستعان.

قال ما نصُّه: "قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله خَلَق آدَمَ على صورتِه))، والصورة مماثلة للأُخرى، ولا يُعقل صورة إلاَّ مماثلة للأُخرى، ولهذا أكتُب لك رِسالة، ثم تُدخلها الآلةَ الفوتوغرافيَّة، وتُخرِج الرسالة، فيُقال:

هذه صورة هذه، ولا فَرْق بين الحروف والكلمات، فالصورةُ مطابقةٌ للصورة، والقائل: ((إنَّ الله خَلَق آدَمَ على صورتِه)) الرسولُ - عليه السلام - أعلمُ وأصدقُ وأنصحُ وأفصحُ الخلق، والجواب المجمَل أنْ نقول: لا يُمكن أنْ يُناقِض هذا الحديثُ قولَه - تعالى -: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، فإن يسَّرَ الله لك الجمْع، فاجْمَع، وإن لم يتيسَّر، فقل: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]، وعَقيدتنا أنَّ الله لا مَثيلَ له، فبهذا تَسلم أمامَ الله - عزَّ وجلَّ.

هذا كلامُ الله، وهذا كلامُ رسولِه، والكلُّ حقٌّ، ولا يُمكِن أن يُكذِّب بعضُه بعضًا؛ لأنَّه كله خبَر وليس حُكمًا كي يُنسَخ، فأقول: هذا نفيٌ للمماثلة، وهذا إثباتٌ للصورة، فقل: إنَّ الله ليس كمثله شيء، وإنَّ الله خَلَق آدَم على صورتِه، فهذا كلامُ الله، وهذا كلامُ رسوله، والكلُّ حقٌّ نؤمِن به، ونقول: كلٌّ مِن عند ربنا، ونسكُت، وهذا هو غايةُ ما تستطيع.



وأمَّا الجواب المفصَّل: فنقول: إنَّ الذي قال: ((إنَّ الله خلَق آدَم على صورتِه)) رسولُ الذي قال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، والرسول لا يُمكن أن ينطقَ بما يُكذِّب المرسِل، والذي قال: ((خَلَق آدَمَ على صورتِه)) هو الذي قال: ((إنَّ أَوَّلَ زُمرة تدخُل الجنةَ على صورةِ القَمر))، فهل أنت تعتقد أنَّ هؤلاء الذين يَدخُلونَ الجَنَّةَ على صورة القمَر مِن كلِّ وجه، أو تعتقد أنَّهم على صورة البشَر، لكن في الوضاءةِ والحُسن والجمال واستدارة الوجْه وما أشبه ذلك على صورةِ القمر لا مِن كلِّ وجه؟!

فإن قلت بالأوَّل، فمقتضاه أنَّهم دخلوا وليس لهم أعينٌ وليس لهم أنوف وليس لهم أفواه، وإنْ شِئنَا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني، زال الإشكال، وتبيَّن أنَّه لا يلزم مِن كونِ الشيء على صورة الشيء أن يكونَ مماثلاً له مِن كلِّ وجه، فإن أبَى فَهمُك وتقاصَر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلاَّ أنه مماثل.



قلنا: هناك جوابٌ آخر، وهو أنَّ الإضافة هنا مِن بابِ إضافة المخلوق إلى خالقِه، فقوله: ((على صورتِه))، مِثل قوله - عزَّ وجلَّ - في آدم: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر: 29]، ولا يُمكن أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أعْطَى آدَمَ جزءًا من رُوحه، بل المراد الرُّوح التي خَلَقها الله - عزَّ وجلَّ - لكن إضافتها إليه بخصوصِها من بابِ التشريف، كما نقول: عباد الله، يشمل الكافِرَ والمسلمَ والمؤمِن والشهيد والصِّدِّيقَ والنبيَّ، لكنَّنا لو قلنا: محمَّد عبد الله، هذه إضافةٌ خاصَّة، ليست كالعبوديَّة السابقة. اهـ.

قلت: والحاصل مِن حديثِ الصورة أنَّ الله تعالى خلَق آدم على صورتِه هو - جل شأنه - كما وضَّحْنا مِن أقوال العلماء الثِّقات، وهو الرأي الذي نؤيِّده، وهو الأسلمُ والأقوَى دليلاً وبرهانًا، وهي طريقة السلف بإمرار الصفات على مرادها بلا تأويل أو تمثيل أوتكييف أوتعطيل لها، ونعذر العلماء الأفاضلَ مِن أهل السُّنة والجماعة الذين قالوا: إنَّ الله خَلَق آدَمَ على صورتِه هو - أي آدم - مع تنزيه الله تعالى حسب فهمهم واجتهادهم في صحة أو ضعف حديث الصورة، وما ذكَرْناه هو ما نَستريح إليه، واللهُ مِن وراءِ القصد، وهو يَهدي السبيل.








[1] المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجاج (ح/ 5075).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.97 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]