عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 28-08-2019, 04:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي اللهجات العربية: قضايا وخصائص

اللهجات العربية: قضايا وخصائص
- ثريا عبدالله خربوش

1. تقديم
نعرض في هذا المقال للخصائص السوسيو-لسانية العامة للهجات العربية، بالمقارنة مع اللغة العربية الفصيحة، من جهة، وبالنظر إلى بعضها البعض، من جهة أخرى. ثم نناقش أصول اللهجات وعوامل التلهيج وتعدده ومظاهره وأسبابه.

2. السمات السوسيو - لسانية للهجات العربية
تتسم اللهجات العربية بخصائص سوسيولسانية عامة، منها ما هو كليٌّ ينطبق على كل اللهجات، ومنها ما هو خاصٌّ قد تتميّز به لهجة دون أخرى، بحسب.أوضاعها والمجموعات التي تتكلّمها. وفيما يلي، نناقش بعضاً من هذه السمات.(1)
.1.2. التساوي المجتمعي
يُقصد بالتساوي المُجتمعي أن اللهجات العربية متساوية بالنظر إلى بعضها البعض، أي ليس منها ما هو وضيع مقارنة بغيره، كما أنها ليست "إثنية" أو"ثقافية".
صحيح أن المتكلّم العربي يُكن التقدير والاحترام لعاميات المدن الكبرى، (الدار البيضاء والرباط في المغرب، مثلا)، إلا أن هذا موقف لا يرتبط باللهجات في العواصم ومدن الاقتصاد والتجارة والثقافة في ذاتها، بل بوضع لهجات المناطق المتمدّنة وشروط استعمالها وتوظيفها المتمثلة في اتصال سكان المدن بقطاعات الإدارة والتعليم والاقتصاد والتجارة والسياسة ومراكز الثقافة والعلوم والفنون.(2) أي إن ما يُحسّن وضع اللهجات القريبة من الفصحى هو مبدأ الغلبة الذي يشترط، بالإضافة إلى اقتران اللهجة بالرقيّ والحضارة والثقافة والأدب، انتشار التعليم.(3)
ويضمن التفتح، من جهة أخرى،تواصل أبناء المجتمع وتزوجهم من بعضهم البعض، بعكس "المجموعات الاثنية" التي لا يتزوج أعضاؤها من غيرهم، وتمكّن وسائل النقل، على المستوى الثقافي، من عدم الانعزال.
. 2.2 التبعية والتاريخانية والحيوية
قبل معرفة مدى استقلالية اللهجات العربية وتاريخانيتها وحيويتها، لنعرّف بهذه السمات4)
- الاستقلالية (autonomie)، ومضمونها عدم التبعية التي تتحصّل للغة بسيرورات مثل التعيير (standarisation) والتطبيع (normalisation) والتقعيد و(codification) وحصر معايير الاستعمال "الصحيح" ووضع القواميس والأنحاء وإدراج الكلمات الجديدة والحدّ من ابتعاد اللغة عن القواعد والمعايير (normes) وصياغة المراسيم الموافقة والمؤكّدة للمعايير.
- التاريخانية (historicité)، ويُقصد بها قَرْنُ اللغة المطبَّعة/المستقلّة بأنواع طراز (prototypes) أو بوظيفة دينية. ويتمّ القَرْن بسيرورات مثل اعتماد إيديولوجية معيّنة أو تدبير حركة وطنية.
- الحيوية (vitalité) وتعدّ العنصر الذي يتوقف عليه احتفاظ النوع اللغوي على الاستقلالية والتاريخية. وترتبط حيوية اللغة بدرجة استعمال المتكلِّمين لها، وبطبيعة الوظائف التي تُؤديها؛ إذ بقدر ما يرتفع عدد المستعملين، وكلّما كانوا أشخاصا مرموقين، أسهم ذلك في ارتفاع حيوية اللغة وأكبرها ونمّاها وقوّى قابليتها للاستقلالية والتاريخانية والحيوية نفسها، والعكس صحيح، كلّما تقلّص العدد وتدنّى مستوى المتعلّمين، انحطّ النوع اللغويّ، وصار عقيماً وغير ملائم للاستقلالية والتاريخانية والحيوية، وقد تحلّ محلّه لغات مجموعات أخرى، وتصبح هي المؤثرة والفاعلة.
إذا ترجمنا خصائص اللغة المتسمة بالاستقلالية والتاريخانية والحيوية في جدول نُقارن فيه بين اللهجات العربية واللغة العربية الفصحى، فإن اللهجة تبدو، حسب الرمز السّالب غير مستقلّة وغير تاريخانية وغير حيوية، والعربية الفصحى، بالعكس، كما يبدو من الرمز الموجب5)
خصائص
1 2 3 نمط النوع
- - - لهجة عربية
+ + + + عربية فصحى
اللهجات، إذن، غير مستقلة، لأنها تابعة للفصحى، وغير تاريخانية، كونها ليست لغات الدين، وهي، وإن كان عدد من يستعملها كبيرا، لأنها وسيط المتكلّمين العرب في الوظائف اليومية، وتستجيب لحاجات التداول المحلي، فإنها ليست حيوية (6)ذلك أن طبيعتها لا تؤهلّها للتطبيع، بل إن اللهجات العربية، على غرار كلّ لهجات العالم، لا يُمكن أن ترقى إلى مرتبة لغة، مهما تطوّرت.
3.2. الاستبقاء اللغويّ
الاستبقاء (maintenance) هو استمرار وإبقاء الأنواع والأشكال اللغويّة عبر مرور الزمن، وصمودها في بيئاتها، وتوارثها من جيل إلى جيل.(7) يتجسّد ذلك، على مستوى اللغة المعيار، كما يتجلّى في أشكال اللغات واللهجات غير المعيار. يتصل النوع الأوّل بالقناة اللغويّة المكتوبة (النطق والصواتة والتهجية و/أو الإملاء والنحو (الصرف والتركيب)، حيث تعمل مؤسسات الدولة من خلال الضغوط الّرسمية على حماية اللغة بتطبيعها ووضع المعايير ومنع الخطأ وتقويمه والإلزام بالوضوح في الكتابة، واعتبار قواعد النحو ومحتويات المعاجم في التركيب والتعبير.
ويتصل النوع الثاني بالأنواع السّفلى من اللغة واللهجات، أي الأنواع غير المعيرة. فإذا كان النوع يستمر ويصمد بفضل سيرورات التعيير والتطبيع والكتابة وقوانينها، فإن الثاني يستمرّ ضمن المجموعات اللغويّة المحليّة والجهيّة، إذ يُنقل من جيل إلى جيل، وإن لم يُحفظ أو يُخزّن. ويكمن الفرق في أن ضغوط النوع الأوّل صريحة، بينما ضغوط الأنواع من النمط الثاني ضمنية. يُسميj milory وl milory الضغوط التي يُمارسها الكتّاب والمؤسسات بضغوط الاستبقاء الصريح، ويُعرّفان السلوك الذي يُحافظ على الاستعمالات اللغويّة الخاصة بمجموعة معيّنة بسلوك الاستبقاء الضمني. ويُوسّطا
ن لتحديد ضمنية الاستبقاء مفهوم الشبكة المجتمعيّة.
تُقارب نظرية الشبكة المجتمعيّة أسئلة من قبيل: لماذا يستمرّ الناس في استعمال وتكلّم الأشكال الدّنيا و/أو الدونية واللغات واللهجات غير المعترف بها على الرّغم من وعيهم بأن مصلحتهم تكمن في استعمال اللغة الراقية؟
توجد في كلّ مجموعة لغويّة روابط شخصية، كلّما كانت مكثّفة ومتعدّدة، تقوّت ومكّنت الاستعمال اللغويّ من الاستمرار. وتُقاس الروابط بمعيارين اثنتين: تكثّف الشبكة ودرجة تعدّدها.
توصف الشبكة بالتكاثف حين يكون كل واحد من أعضائها يعرف الآخر، وتُوصف درجة تعدّدها بقوّة الروابط (لا بعددها) ويكون ذلك بحسب الصفات التي تجمع بين أعضاء الشبكة. ففي الوقت الذي يُحدّد فيه الكثافة بمدى معرفة الفرد أ للفرد ب وج ود وه في المجموعة، والعكس، تظهر قوّة الروابط تبعا للصفات التي تربط بين أ ب وج ود ه:أ هو قريب أم صديق أم زميل أم جار؟
وهكذا يصير كل فرد مقيّد داخل مجموعته، بحيث يحتسب فوائد وخسائر استعماله اللغوي (نطق صوت، مثلا، أو توظيف معجم معيّن). فقد يستعمل الأشكال الدارجة مع أسرته أو أصدقائه، تقديرا وتعاطفا، وقد يستعمل اللغة المعيار الرّفيعة طلبا لتحسين وضعه اللغوي، أو تعبيرا عن مستواه الثقافي والمجتمعيّ.
1.3.2. ظواهر لهجية مُستبقاة
مازالت كثير من الظواهر اللهجيّة القديمة مستعملة في اللهجات الحديثة، أي إنها بقيّت واستمرّت رغم عدم تدوينها. نعت النحاة واللغويّون القدماء هذه الاستعمالات "بالرديئة" و"الخبيثة" و"البعيدة" و"الضعيفة" و"الفاسدة" وغير ذلك من الصّفات الواصمة.(8)
كانت تلك الاستعمالات لغات مجموعات لغويّة تجمعها روابط التعارف والتقارب وأهداف التضامن والتكتل "التميُّز الهُوي"ّ. ولا شك أن تبني المتكلّمين القدماء للاستعمالات الموصومة كان بسبب عدم التمكّن من الأشكال الرفيعة، شأن عدد كبير من المستعملين اليوم ممّن لم يتعلّموا اللغة العربية المعيار.
من الظواهر اللهجية المشهورة في الدرس القديم المستمرّة إلى الآن، فيما، أكدته الدراسات الحديثة (9)
- الاستنطاء، ينتشر في العراق، وعلى لسان أعراب صحاري مصر: يكون بتحويل عين أعطى السّاكنة نوناً، إذا جاورت الطاء؛
- التلتلة، تستمر في اللهجات العربية الحديثة في أمثلة من قبيل ِيِسمع، ِيِقرا: تتم بكسر حرف المضارعة (إِعلم، تِعلم، ِيِعلم)؛
-الشنشنة، يُسمع في عامية حضرموت في عليش عوض عليك: تتمثل في جعل الكاف شيناً؛
-الطمطمانية، مازالت في بعض لهجات اليمن، واللهجة المصرية ، حيث يقول المصريون امبارح: تتجلّى في إبدال لام التعريف ميما؛
- الجعجعة، يقول أهل صعيد مصر في لأ لع، وينطق السودانيون سأل سعل: ُتلفظ الهمزة عيناً مبالغة في تحقيق الهمز؛
-الترخيم و/أو القطعة، يذكره رمضان عبد التواب في اللهجة العربية المصرية في مسلخي في مساء الخير، وهو منتشر في اللهجة العربية المغربية، كما نعلم، إذ نقول: مسلخي: قطعٌ للهمزة من اللفظ الأول، والراء من اللفظ الثاني، ودمجٌ للفظين؛
- الكسكسة و/أو الكشكشة، تشيع في الجزيرة العربية وجنوب العراق والكويت والبحرين ومحافظة القرى الشرقية في مصر، ففي الجزيرة، مثلا، يُقال تسيف حالك في كيف حالك، وفي مصر تْشَلَب في كلب: تتجسّد في الصوت المزدوج تس وتش، الذي تستبدل فيه الكاف سيناً أو شيناً، وتلحق التاء بهما.
وإذا كانت هذه نماذج من مظاهر لهجية تستمر داخل المجموعات اللغوية بفعل التوارث والاستحفاظ الضمني، فسنرى أشكالاً من التلهيج القديمة/الحديثة، بحيث يُمكن تصنيفها ضمن المستبقيات اللغوية العربية. لكن، قبل ذلك، لنقف عند مظاهر التلهيج.
3. تكوّن اللهجات
تتكون اللهجات بفعل مبدأ حتمية التفرّع. يتحكّم قانون التفرّع في اللغات حين تتعرّض لظروف معيّنة مثل الانتشار بالنسبة للعربية الفصحى. يترتب عن التفرّق في البلدان والمناطق المتباعدة تولّد لهجات مختلفة تختلف وتتعدد باختلاف وتعدد الألسنة والمجموعات وتقاليدها ونظمها وأعرافها وبيئاتها.(10)
أي إن ما يُكون اللهجات هو التلهيج الذي ينعكس في سيرورات الاختلاف. نقول إن لغة قد تلهّجت حين تأخذ، حسب المناطق التي تتكلّمها أشكالاً واضحة الاختلاف، أي إن التلهيج يفترض، بالضرورة، وحدة سابقة للغة. يُسمى التلهيج تطوّراً، ويُقصد به التغيير الذي يحدث على مستوى اللغة الأم الموحدّة uniforme))، يبدأ هذا التغيّر صغيراً ثمّ يكبر مع مرور الزمن.(11)
صحيح أن التطور ،مهما كبُر، لا يُلغي، الاشتراك في خصائص اللغة العامة،(12) لكنه يُوسّع الهوّة في الإنجاز والممارسة، ويُباعد بين اللهجات إلى حدّ يُعتقد معه، في النطق، على الأقل، أن الأمر يتعلّق بلغة أخرى (13)
1.3. من مظاهر التلهيج
عموماً، تعد اختلافات ظواهر الإنجاز أكثر من أن تُحصى ضمن لهجات البلد الواحد، فأحرى بين منطقة وأخرى تبعُد عنها بمائة متر، أو بين لهجات بلدان مختلفة تفصل بينها البحار، وملايين الكيلومترات.(14) ولا شك أننا نحتاج دراسات لهجية تمسح جغرافية عموم المناطق في كل بلد حتى تتيسر مقارنة خصائص التلهيج بين اللهجات، من جهة، وبين اللهجات والعربية الفصيحة، من جهة أخرى.
من مظاهر الانحراف الصوتية (المشهورة) المجسِّدَة لابتعاد العاميات عن العربية المقعّدة المشتركة، نذكر، على سبيل المثال، لا الحصر15) استبدال الحروف: نطق الذال دالا والثاء تاءاً والظاء ضاداً. و القلب: جذب/جبد. وحذف الأصوات: سافروا/سافْرُ. وتحويل الهمزة ألفاً: رأس/راس، أو واواً: أُذن/وذن، أو ياءاً: أين/فين. و والواو والياء الساكنين صوت لين في: عيْن/عينْ، مثلا، ويوْم/ يُوم. وترك السواكن في أواخر الكلمات، ومنه سقوط التنوين ونون الأفعال الخمسة والهمزة والهاء التناء المبوطة، كما يظهر، على التوالي، من: ولدٌ/ولدْ، يلعبونَ/كيْلْعبُ، هواءٌ/هْوَا، ساعة/ساعَ. وحلول الصوامت محلّ بعض: ساخن/صاخن. وتناوب الحركات بين كسرة وفتحة، مثل: عِنده/عَندُ.
تعتبر هذه المظاهر قديمة/حديثة. وإذا استثنينا القراءات القرآنية التي حُسم فيها بالتدوين،(16) فإن كل الظواهر المستمرّة في العاميات الحديثة مظاهر تلهيج. ومن ذلك، الغناء بالعامية والتخفف من الإعراب، واللحن،(17) كترك الهمز في طأطأ وأبطأ وهنّأ وتوضّأ واتّكأ وهدأ،(طاطا،ابطا، هنّا، توضّا، اتكّا) واستبداله بالواو في آسيته وآخذته،(واسيته، واخذته) وإسقاطه في إوزّ وأوقية وأعييت،(وزّ،وقيّة، عييت) وهمز غير المهموز في أخير الناس وأشر الناس، (خير ، شرّ) وتشديد المخفف كدخّان وقشّر،(دخان، قشر) وتحريك الساكن، في وعْراً، (واعر)، وإبدال الذال دلاً في مثل زمرّد،
(زمرذ)، ونطق المفتوح مكسوراً في غَيرَة (غِيرة)، والمكسور مفتوحاً في مِطرقة ومِغرفة وبِطيخ ومِنديل، (مَطرقة ومَغرفة وبَطيخ ومَنديل)،(18) وأمثلة اللحن كثيرة شائعة، كما نعرف.
إن أغلب المُلهجات تمتد في الزمن البعيد، منذ العصور الإسلامية، على الأقل، إلى الآن. بل إن الحديث العادي نفسه لغة ملهّجة. وقديما، سمى الجاحظ العامية لغة العامة ولغة النخبة لغة العلية، واليوم، نسمي العربية الفصيحة لغة المتعلّمين و العاميّة لغة غير المتعلّمين.
4. الأصول
نناقش أصول اللهجات العربية من خلال مجموعة من المجالات التي رسمت حدوداً لتواجد اللهجات العربية، ومنها، مجال النصوص (المنقوشة والمقروءة والنحوية ولغات القبائل)،(19) ثم، بعد ذلك، لغات الانتشار والفتح.
1.4. لغات النصوص والقبائل
استخلص اللغويون العرب صعوبة التعرّف على أصول اللهجات من خلال اللغة النصيّة والقبلية، على السواء، وذلك لأسباب عدّة، مثل نقص المعطيات أو غموض الظواهر أو عرضية الدرس أو عدم صحّة المعلومات.
تجلى النقص، على مستوى النصوص المنقوشة، في القلّة، بحيث لا يكفي ما وُجد منها، لا لتكوين صورة عن اللهجات العربية، ولا عن أصولها. وتجسّد الغموض في اعتباطية النسبة للقراءات القرآنية ومحدوديتها. ففي الوقت الذي يفترض تعددها تعدد اللهجات، وبالتالي تعدد الأصول، اصطدم البحث بإسناد المفسّرين الخاصيّة الواحدة إلى أكثر من قبيلة، من جهة، واقتصارهم في المعالجة على ظواهر صوتية محدودة كالقلب والإبدال والحركات. أما عرضية الدرس، فقد ظهر في علم النحو، حيث اعتبر النحاة اللهجات لغات لا يُؤخذ بها ولغات رديئة،(20) ومن هنا تسمية بعضها التسمية المشهورة: "أكلوني البراغيث".(21) وأما عدم صحّة المعلومات، فقد تجلى في افتراض تضمّن لهجة قريش أو تميم أصول الفصحى،(22) مع أن الوقائع التاريخية تؤكّد عكس ذلك لأسباب عديدة، منها، أن الوضع القرشي الديني والثقافي والسياسي والتجاري هو الذي ربط لغة قريش بالفصاحة، كما أن لهجة تميم لم تتفرّد بخصائص الفصحى دون غيرها، وإلا لما كان الشعر الجاهلي الفصيح لغة القبائل المتعددة، لا القبيلة الواحدة.(23)
2.4. اللهجات من خلال لغات الانتشار والفتوحات
حاولنا، من ناحيتنا، تكوين صورة عن أصول اللهجات من خلال لغات الانتشار والفتوحات الإسلامية. لكن، لا يتعدّى ما خرجنا به من هذا الرصد، ما يلي24):
1. تأثير لهجات القبائل الوافدة على اللغات الأصلية الفارسية، خصوصا، وتأثر اللهجات الوافدة باللغات الأصلية؛
2. مرافقة العربية "المولّدة" لعربية الإسلام طيلة تاريخها؛
3. انكماش اللهجات في عصر الانحلال؛
4. الاقتباس الكبير الذي تعرفه اللهجات من اللغات الأوربية والأنجلوساكسونية خلال عصر الانحلال التام وبداية النهضة، وهو الوضع المستمّر إلى الآن.
ترتّب عن ظاهرة التأثير والتأثُر بين الفارسية والعربية ما عُرِف بالعربية الهجين، أي نُطق العربية على نحو غير عربي. كان الفارسي يقول في شركائنا شركاتنان (يضيف جمع التكسير – آن إلى شركاء)، وفي تجيء تيجي، وفي المدائن مداين: لم يكن يهمز في كلامه. وتجلّى تأثُر لغة العرب الوافدين بالفارسية في استعمال الكوفيين وازار، مثلا، (بازار في الإيرانية الحديثة) في سوق، وقول المدنيين أسترنج في شطرنج.(25) وظهر تأثُر السكان الأصليين في البصرة بمن وفد عليهم من العرب في استعمال قدر وغرفة والطلع، في حين استعمل سكان الكوفة اقتداءاً بمن وفد عليهم البُرمة في القدر واستعمل أهل مكّة عُليَّة في غرفة والكافور في الطلع.
واقترن المُولّدُ بلغة العوام الدارجة المتحرّرة من الإعراب المختلفة عن لغة الكتابة في النحو (التعريف والإضافة) والتركيب (الرتبة والتطابق) والصرف (الصيغ).(26) من أمثلتها في شعر المتنبي جمع رُكبة على ركبات، واستعمال رؤيا (الحلم) في رُؤية، وقَرن أن النّاصبة بالمضارع المرفوع، وصياغة أفعل من الألوان (لأنت أسود في عيني من الظلم)، ومن ذهب أذهب (أذهب للغيظ)، وتسهيل رؤوس (روس)، وترخيم اسم العلم بحذف السين حابس (عمرو بن حاب).(26)
واشتهر عصر الانحلال بانكماش اللهجات واختلافها باختلاف الأقاليم، حيث انضمّت اللهجات إلى بعضها البعض، وأصبحت لهجة كلّ إقليم مميّزة عن لهجات الإقليم الآخر، من ناحية الصوت والتركيب والمعجم، وصار كل إقليم يُسهم في لغة الأدب الفصحى بطريقته.(27)
وأخيرا، تميزت عربية الانحلال التام، وعصر النهضة باقتباس كبير تمظهر في اقتراض اللهجات العربية الألفاظَ الغربية.(28)
والخلاصة أن العربية الهجين عكست تأثر الأجانب الفارسيين باللسان العربي وتكلّم اللغة الفارسية بطريقة، لا هي عربية، ولا هي فارسية، شأن الوضع اليوم في العامية العربية المغربية، مثلا، حيث يمسّ التهجين اللغة العربية والفرنسية في آن واحد، إذ تُصاغ الكلمات الفرنسية في قوالب غير منسجمة مع النظام الفرنسي، والعكس تُسبك المفردات العربية في أشكال تخرق القواعد العربية. وكانت العربية المُولّدة إمّا دارجة لا تلتزم الإعراب، على غرار العاميات اليوم، أو لحناً يخرق قواعد النحو، أو خصائص لهجية تمثّلت في ظواهر مثل التسهيل والترخيم. ونستنتج من عربية عصر الانحلال تشتّت اللهجات وتعدّدها واختلافها بفعل انعزال الأقاليم العربية. وشكّل الاقتباس سمة لهجات عصر الانحلال التامّ، وهي الحالة المستمرّة إلى الآن في دمج اللهجات العربية لآلاف ومئات الألفاظ الغربية.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]