عرض مشاركة واحدة
  #1253  
قديم 02-12-2013, 06:17 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي رد: موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشو

يتبــــــــع الموضوع السابق


في إنفاق العفو.. عافية الدنيا، وسعادة الآخرة


العفو من المال العيني
- يمتلك الناس نوعاً هامًّا من أنواع المال، يتمثل في أدوات الإنتاج الداخلة في العملية الإنتاجية، كما يتمثل في الأدوات التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، وهو بصدد إشباع حاجته، مثل السلع الاستهلاكية المعمرة، ودواب الركوب، ومنزل السكني إلخ.
- هذا النوع من المال يمثل جانباً كبيراً من حجم الأموال في المجتمع، وكثيراً ما يقتنى بحدٍ يربو على الحاجة الشخصية لمن يقتنيه. بل ربما يقتنى بعضه، ولا يستخدم إلا أياما محدودة، فهو لهذا يمثل مكمناً ضخما من مكامن "العفو" عند المسلمين. والإسلام..قرآنا وسنة يقيم وزنا كبيرا لهذا النوع من العفو، ويعمل على دفع المسلمين إلى تبين حجمه لديهم، وتقديمه إلى من هو في حاجة إليه. فتجدد منافعه، ولا تتبدد طاقته، بل قد يتولد عنه دخل ما لدي المنتفع الجديد به، ويعني ذلك زيادة الإنتاج من نفس أدوات الإنتاج، وزيادة المنافع من أدوات الاستعمال اليومي وبالتالي زيادة حجم الإنتاج القومي من نفس الإمكانيات المملوكة للمجتمع.
- لقد رغب الإسلام في بذل "العفو" من أدوات الإنتاج والاستهلاك، حتي جعل منع هذا "العفو" علامة وصفة من صفات المكذبين بالدين، فقال سبحانه وتعالى: "أرأيت الذي يُكذّب بالدِّين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المِسكين فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يُراءون ويمنعون الماعون" [سورة الماعون]. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الماعون ما يتعاطاه الناس بينهم. وروي عنه أيضاً: أنه القدر، والفأس، والدلو، ونحوها، وهما قريبان، وجاء في تفسير الجلالين: الماعون كالإبرة، والفأس، والقدر والقصعة(49). ويقول ابن العربي: إن الماعون من أعان يعين، والعون: الإمداد بالقوة، والآلة، والأسباب الميسرة للأمر. ولما كان الماعون من العون، كان كل ما ذكره العلماء في تفسيره عوناً (50). وجاء في المعجم الوسيط: "الماعون اسم جامع لمنافع البيت كالقدر والفأس والقصعة، ونحو ذلك مما جرت العادة بإعارته"(51).
- وقد حفلت السنة المطهرة بالحث على الكثير من تطبيقات هذا التكليف، ومن ذلك: حث النبي صلى الله عليه وسلم الجار على عدم منع جاره إن أراد أن يعتمد على جداره بخشبة، فقال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره(52). كما حث عليه الصلاة والسلام المسلم أن يعير أخاه حيواناً ذا لبن، ينتفع بلبنه سنة، ثم يرده فقال: "أربعون خصلة، أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة(53)". كما قرر صلوات الله وسلامه عليه، أن أفضل الصدقات يتمثل في تقديم منافع الأدوات، وعوامل الإنتاج فقال: "أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله، ومنيحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله"(54). فهذه الإرشادات، والأوامر، والتقريرات تتناول تقديم أدوات إنتاج، أو أدوات استعمال معيشي، كمصدر/ خدمة إنتاجية يحصل منه متلقيه على ما يسد حاجته، ومصدراً للنماء، ومنفعة وتوفيراً للسكنى الخ. وعندما يجعلها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقات، فإنما ذلك لأثرها الإنتاجي، وعائدها المباشر على الدخل الفردي، والقومي، وجعلها أفضل الصدقات، يمثل دعوة قوية من الشريعة الإسلامية، لجعل هذا السلوك متأصلاً في النفس المسلمة، تبغي به الجنة، كما يترتب علىه أن يكون له كبير الأثر على تمويل التنمية.
- إن "العفو" من أدوات الإنتاج، والاستعمال، قد يتمثل اليوم في أداة قديمة استبدل بها مالكها أداة جديدة، لكنها لما تزل على قدر من الصلاحية، فهي لديه "عفو" بجوار الأداة الجديدة. فيمكن تنظيم صالات عرض ـ عن طريق المؤسسات الخيرية وغيرهاـ بذلك النوع من "العفو"، وتقديمه إلى من يسد له حاجة. هذا التنظيم يمكن أن يمارس في السلع المعمرة - إنتاجية واستهلاكية - مثل السيارات والثلاجات، والغسالات، والثياب، وبخاصة ثياب المناسبات، وآلات الطباعة والنسخ، وأثاث المنازل والمكاتب، وأجهزة التلفاز، وكتب العلم، وأدوات الحرف المختلفة، إلى غير ذلك مما لا يقع تحت الحصر. والعفو في هذه الأشياء، يتمثل في عينها بالقياس إلى ما يملكه صاحبها من أدوات أفضل منها، وهو يقوم بتمليك هذه الأدوات لمن سيحصل عليها(55).
- كذلك قد يتمثل "العفو" اليوم في غرفة بالمنزل تفيض عن حاجة الأسرة فترة من الزمن، ويمكن تقديمها لمن تسد لديه حاجة من طلبة العلم، ويمكن إنشاء مكاتب ملحقة بالمؤسسات التعليمية، تتلقى رغبات أصحاب هذا النوع من "العفو"، مقرونة بمواصفات من يمكن استضافته لدى الأسرة بما يحقق مصلحة الطرفين، ويتفق وأحكام الشريعة بهذا الخصوص، وتقوم هذه المكاتب بترشيح من ترى للحصول على هذا "العفو" كي يلتقي بصاحب المنزل، ليرى رأيه. وبهذا يمكن الاستفادة من جانب كبير من "العفو"، الموجود في دور السكنى، وبه تسد حاجة الكثيرين من طلاب العلم وطالباته، الذين لا يملكون قدرة على توفير المسكن من خلال السوق، وأثر ذلك في التغلب على مشكلة الإسكان في البلاد التي تعاني منها، أثر بارز، و"العفو" هنا يقدم في شكله التقليدي، أي تمليك المنفعة مع بقاء العين مملوكة لصاحبها (56).
- كذلك قد يتمثل "العفو" اليوم في مكان فائض، بسيارة الشخص، يمكن تقديمه لمن هو في حاجة إليه، من زملاء العمل، أو سكان الحي، ويمكن للنقابة التي تجمعهم أن تنظم ذلك في الحالة الأولى، كما يمكن لإدارة مسجد الحي، أن تنظم ذلك في الحالة الثانية. وبهذا يمكن سد جانب كبير من الطلب على وسائل الانتقال. وتنظيم ذلك عن طريق النقابة أو المسجد، أمر يسير. كما قد يتمثل في قطعة أرض لا يحتاج إليها مالكها، ولا يجد من يزارعه عليها، أو يؤجرها له، فهي في هذه الحالة فضل، عليه أن يقدمها لمن يحتاج إليها، ليقوم بزراعتها، ويبذل جهده عليها، مبتغياً من فضل الله تعالى. وحث النبي صلى الله عليه وسلم على تقديم هذا النوع من أدوات الإنتاج. كما أمر عمر بن عبد العزيز عماله، بأن يقدموا الأرض التي لا تجد من يزرعها بمقابل، إلى من يستفيد منها بدون مقابل، يقول: انظر ما قبلكم من أرض الصافية فأعطوها بالمزارعة بالنصف، فإن لم تزرع فأعطوها بالثلث، فإن لم تزرع فأعطوها حتى تبلغ العشر، فإن لم يزرعها أحد (أي بمقابل) فامنحها(57). ويمكن تنظيم هذا العمل على مستوى القرية، فتوجد جهة تتولى تنظيم منح الأرض لعام أو لأكثر، لمن يحتاج إليها، وخاصة من الملاك الذين لا يعملون بالزراعة، وتمثل ممتلكاتهم من الأرض الزراعية فضلاً لديهم(58).
- إن بدائل الفأس من المحراث التقليدي والآلي، وآلات البذر والحصاد، وغير ذلك من أدوات الزراعة، تمثل ميداناً رجباً لتبادل "العفو" ، ويمكن متلقيه من ممارسة الإنتاج على مستوى التقنية العصرية، الأمر الذي يرفع متوسط الإنتاجية الزراعية في المجتمع، ومن ثم يرفع مستوى الإنتاج القومي.
- لا تزال "الإبرة" كمثال تقليدي على "العفو" ، تجد تطبيقاً لها في آلات الحياكة والخياطة، ولا تزال القصعة والقدر، تجد تطبيقا لها في أدوات المطبخ التي تعددت أنواعها، وتنوعت أغراضها، لا تزال هذه وتلك ميادين رحبة لتبادل "العفو" ، بين ربات البيوت؛ وأثر هذه الأدوات على تيسير عمل المرأة في بيتها، لا ينكر.
- تقديم "العفو" من أدوات الإنتاج في الميدان الصناعي، من المصانع التي تملك تقنية متقدمة، إلى الورش الصغيرة، التي لا تملك هذه التقنية، ولا تقوى على امتلاكها، إنه أيضا يرفع متوسط الإنتاجية في القطاع الصناعي، وينعكس على مستوى وحجم الإنتاج القومي.
- إن إقامة النقابات والتنظيمات، لا يعني إهمال الطرق المباشرة لتقديم "العفو" ، فلا يزال لتبادل "العفو" بالطريق المباشر بين مالكه ومن يحتاج إليه، مجالاته الكثيرة، والتي تمثل ميداناً واسعاً من ميادين تقديم "العفو" في الأدوات، وتطبيقاتها في حياتنا، دور ملحوظ.
تنظيم الشرع للجانب القانوني لـ "العفو" من المال العيني
- إنّ تنظيم تقديم "العفو"، إلى من يحتاجه، ليس جديدا على الفكر الإسلامي، فقد قام الفقهاء - رحمهم الله تعالى - بتنظيم الجانب القانوني لهذا النوع من التعاون على البر والتقوى، وعقدوا له كتاباً أو باباً في كل مؤلف فقهي شامل، هو "كتاب العارية"، أو "باب العارية"، ويشتمل هذا الكتاب على تقنين هذا النوع من التعاون، حيث يناقش فيه أركان عملية تقديم "العفو" من الأدوات (أركان العارية)، من معير، ومستعير، ومعار، وصيغة العقد. وفي حديثهم عن المعار/ مكمن "العفو"، أي محل العارية، ناقش الفقهاء إعارة كل أنواع أدوات الإنتاج، وأدوات الاستخدام المنزلي، بمعناها الواسع، من أرض للزراعة أو البناء، ومن دواب للحمل أو العمل، ومن سفن للنقل أو الصيد، ومن دور لسكنى وأدوات للزينة، ومن أدوات للزراعة والصناعة، وثياب وكلاب صيد. وأدوات طبخ، وتحميل خشبة فوق جدار، وطروقة الفحل، وغير ذلك مما لا يقع تحت حصر، وضابطه لديهم هو: "كل ما ينتفع به مع بقاء عينه"، قال صاحب الكافي: "وتصح (أي العارية) في كل عين ينتفع بها، مع بقاء عينها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرسا فركبها، واستعار من صفوان بن أمية أدراعاً، وسئل عن حق الإبل فقال: إعادة دلوها وأطراق فحلها، فثبت إعارة ذلك بالخبر، وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه".
- وقد نظم الفقهاء كل ما يتعلق بالعارية من ضمان عينها، وبيان ما يضمن، وما لا يضمن، من النقص الذي يترتب على استخدامها، وإطلاقها، وتأقيتها، وأثر ذلك على نوعية استعمالها، وحددوا من يتحمل مؤنتها إن كانت لها مؤنة، إلى غير ذلك من أحكام العارية المبسوطة في كتب الفقه.
- إن التشريعات التي تنظم استخدام العارية، والمستخلصة من كتب الفقه الإسلامي، تحدد بوضوح حقوق وواجبات كل من المستعير، والمعير، قبل الشيء المستعار، بما يجعل العلاقة واضحة لا ترتب خلافاً أو نزاعاً. والشق الثاني، من تنظيم استخدام "العفو" : فيتمثل في اكتشاف الوسائل المنظمة التي تيسر على كل من صاحب "العفو"، ومن هو في حاجة إليه، تحقيق غرضه الذي يقصده.
العفو مِنَ المال النقدي
- النقود تختلف عن غيرها من الأموال في أنها لا تشبع الحاجات بذاتها، وإنما تمثل الوسيلة إلى إشباع الحاجات بالحصول على الطيّبات. فالمرء يستخدم النقود في الحصول على المعدات والآلات والأدوات، كما يستخدمها في بناء إمكانياته البدنية وصقلها، وتنميتها، والمحافظة عليها - وقد تحدثنا عن "العفو" في هذه الإمكانيات والطاقات - وهو قبل ذلك يستخدم النقود في الحصول على ما يشبع حاجات من يعول، وتجب عليه نفقتهم. فهل بعد استخدام النقود في هذه الاستخدامات، يوجد "العفو" فيها؟ أم أنه - باعتبارها وسيلة إلى الحصول على غيرها من الثروات - يظهر العفو منها في الثروات الأخرى، التي يحصل عليها الإنسان بواسطتها؟
- الإنسان قد يشتري بنقوده ما يحتاج إليه لسد حاجاته الاستهلاكية والإنتاجية ، ثم يبقى لديه قدر منها، يصلح لشراء مختلف الإمكانيات التي تسد حاجات الناس، ويكون في غير حاجة إليه في ظروفه الآنية. . فهل من حقه أن يحتفظ بهذا القدر في شكله النقدي؟ أم يجب عليه أن ينفقه في سبيل الله تعالى؟ إن إجابة هذا السؤال، تحدد لنا إن كان في المال النقدي "عفو" أم لا؟ فإذا كان من حقه أن يحتفظ به في شكله النقدي دون استخدام، لم يكن في المال النقدي "عفو". أما إن كان لا يملك الاحتفاظ به في هذا الشكل، فيكون به "عفو".
-موقف القرآن الكريم من النقد الفائض عن شراء الحاجات الإنتاجية والاستهلاكية، يقول الله تعالى: "والذين يكنزون الذَّهب والفضّة ولا يُنفقونها في سبيل الله، فبشِّرهم بعذاب أليم، يوم يُحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون" [التوبة:34،35]. لقد عرض لنا ابن العربي - رحمه الله تعالى - الأراء التي يوردها المفسرون في المعنّي بالكنز، وقد بلغت سبعة آراء، فهل هو المال المجموع مطلقاً؟ أم أنه المجموع من النقدين؟ أم هو المجموع منهما ما لم يكن حليا؟ أو هو المجموع منهما دفيناً؟ أم أنه المجموع منهما لم تؤد زكاته؟ أم أنه المجموع منهما لم تؤد منه الحقوق؟ أم أنه المجموع منهما ما لم ينفق ويهلك في ذات الله(59).
-المقرر أن المال النقدي لا يسمح بحجبه عن الحقوق المقررة فيه، فإن حدث ذلك اعتبرت النقود كنزاً، وحتى لا يقع المسلم تحت الوعيد الوارد في الكنز، فعليه أن يقوم بكل الحقوق الواجبة في المال من زكاة واستثمارات، وشتى فروض الكفاية الواجبة على الكافة، بنظامها المعروف في الإسلام. فإذا بقي مال نقدي لدى المسلم فوق الوفاء بهذه الحقوق، كان مالاً مطهر، لا يلام على الاحتفاظ به، ويترقب استخدامه فيما ينبغي أن يستخدم فيه.
- يكون "العفو" موجوداً في الأموال النقدية، ويؤكد ذلك نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لمن لديه مال يفيض عن كفايته من الإنفاق الاستهلاكي، والإنفاق الاستثماري، أن يبذله في وجوه النفع، مبيناً أن إمساك هذا الفائض شر، وإنفاقه خير، ولا شك أن المسلم مأمور بفعل الخير، منهي عن فعل الشر، لقد قال صلوات الله وسلامه عليه: " يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى(60)".
- أن إمساك النقود ورصدها لأداء واجبات أمر مطلوب، حتى وإن كانت الواجبات غير حالة، ما دامت متوقعة، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على إنفاق المال أن يستثني ما يرصده المسلم لدين، قال صلى الله عليه وسلم : "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً، تمضي عليه ثلاثة أيام، وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه(61)"، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني أن لا تمر عليّ ثلاث ليال وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين"(62).
ففي هذين الحديثين تقرير جواز إمساك النقود لأداء واجب، مثل له النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، ويقاس على ذلك كل نقود ترصد لواجب ما، مثل الإنفاق الاستهلاكي، والإنفاق الاستثماري المطلوب للمحافظة على الطاقة الإنتاجية، وتجنيب أقساط دورية لجمع مال يستخدم في الوفاء بحاجة استهلاكية أو إنتاجية، فمثل هذه الأموال مشغولة بالحق الذي ترصد له، فإمساكها غير ممنوع بل مطلوب.
- المال النقدي يعتبر أحد أهم مكامن "العفو" ، فإن المسلم مدعو إلى استخدام هذا العفو، أو تمكين غيره ممن هو في حاجة إليه من الانتفاع به. وتختلف طريقة تقديمه من حالة لأخرى، فهناك حالات يكفي فيها تقديم "العفو" من المال النقدي في صورة قرض، يسترد عندما ييسر الله تعالى للمقترض أداءه، وهناك حالات يجب فيها تقديم المال في صورة هبة أو صدقة، وهناك حالات يقدم فيها المال النقدي إسهاماً في مشروعات عامة، تفي بفرض من فروض الكفاية المطلوبة من المسلمين، وهناك حالات يقدم المال النقدي فيها لبناء مشروع استثماري بشكل مستقل، أو بالاشتراك مع الآخرين بصورة من صور المشاركة، إلى غير ذلك من صور إنفاق "العفو".
- للدولة والبنوك الإسلامية والمؤسسات الإقتصادية والاجتماعية والخيرية والنقابات المهنية والإتحادات الطلابية والأحزاب الساسية ولجان حقوق الإنسان دور كبير وهام ومؤثر في توجيه "العفو" وتوظيفة أفضل توظيف(63).
إجمالاً لموضوعٍ متشعبٍ.. هذه خطوط عامة علها تفي بالغرض من غير إيجاز مُخل، ولا إسهاب مُمل
- عرفت المجتمعات الإسلامية بدايةً نظام «إنفاق العفو» ومارسته طيلة أربعة عشر قرناً، وكان هذا النظام ـ ولا يزال بدرجةٍ ما ـ قاعدةً لبناء مؤسسات المجتمع في مختلف مجالات التكافل الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والصحي والخدماتي. بل لعله كان أحد "الابتكارات المؤسسية الاجتماعية" التي جسدت الشعور الفردي بالمسؤولية الجماعية، ونقلته من مستوى الاهتمام "الخاص" إلى "العام" تجاه المجتمع والدولة معاً.
- في سياق الاهتمام المتزايد بمؤسسات المجتمع المدني وفعالياته، يضحى "إنفاق العفو" من خلال مؤسساته، وإسهاماته في بناء ودعم تلك المؤسسات، أمراً ضرورياً. فضلا أنه يمكن إحياؤه، وتفعيل دوره في بناء المجتمع المسلم وفي دعم استقلاله، ونهضته، ووحدته. إن لدى جميع بلدان أمتنا إرثاً معتبراً من أموال وممتلكات عقارية ومؤسسية، ولكنّ هذا الإرث غير مرئي، وهو موضوع في دائرة الظل في أغلب الأحوال، وغير مستَغَلٍّ بالكفاءة المطلوبة لمصلحة المجتمع.
- إن مكامن "العفو" كثيرة، وحيثما يوجد المسلم، يوجد نوع من العفو، يمكن بذله في تحقيق النفع والخير للمجتمع وأفراده. . فليس "العفو" موجوداً عند الأغنياء أصحاب المال فقط، ولكنه موجود عند كل إنسان، غنيا كان أو فقيراً، فالغني لديه فضل ماله، يفعل به الخير، والفقير لديه فضل جهده، وقلبه، ولسانه، يفعل بها الخير، ويقدم منها "العفو".
- من الأهمية بمكان أن يكتشف المسلم ما لديه من إمكانيات وطاقات، وأن يستقر في نفسه واجب البذل والعطاء منها، تكليفاً يتجدد طلوع الشمس كل يوم. فمكامن "العفو" كثيرة، ويمكن إجمالها في ثلاثة مجالات:العفو من الجهد البشري.العفو من المال العيني.العفو من المال النقدي. وهي باتساعها وشمولها تحرك كل الأفراد، وتستنفر كل الطاقات، لتصب كلها في مجرى فعل الخير، وتتكاتف الإمكانيات المالية مع الإمكانيات البشرية - عقلية وعضلية ونفسية وروحية - من أجل الإسهام في بناء المجتمع المتكافل، الذي يمثل كل فرد فيه لبنة قوية في بناء متين، ويقف في موقعه سنداً لعمليات البناء والتعمير، يحاول قدر طاقته أن يكون مصدر عطاء ونفع للآخرين، قبل أن يكون جهة استفادة منهم.
-إن عجز المسلم عن أي فعل إيجابي يثري به الحياة، فإن له في الكف عن الشر باباً يلج منه إلى نفع المجتمع، ونفع نفسه: "..قلت يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل، قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك"(64). ومهما يبلغ به العجز، فلا ينبغي أن يعجز عن كف شره عن المجتمع والناس، والمسلم مدفوع إلى هذا السلوك من منطلق الحرص على المصلحة الشخصية، فهو مع مثاليته الواضحة، عملي ومصلحي أيضاً، فهو يبذل للمجتمع من إمكانياته المادية، والنفسية، والروحية، والعقلية، والعضلية، ليحقق منفعته في الدنيا والآخرة، منطلقاً في ذلك من عقيدته، التي تقوم على أن ما يقدمه من نفع للمجتمع والناس، إنما يعود نفعه إليه. يقرر الله سبحانه هذه الحقيقة فيقول: "وما تُنفقوا من خيرٍ فلأَنفسكم، وما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله، وما تُنفقوا من خيرٍ يُوفّ إليكم" [البقرة:272] ويقول: "مّن ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" [البقرة:245] ويقول:مَنْ عمِل صالحاً فلنفسه" [فصلت:46]، ويقول تعالي:"وَمَنْ عمل صالحاً فلأَنفسهم يمهدون" [الروم:44].
- الأهم من وجود العفو هو القدرة على استخدامه، والاستفادة منه في تمويل التنمية الاقتصادية وهكذا نعيش في تناقض، بين توفر الفائض، وعدم القدرة على استخدامه وتوجيهه لتمويل التنمية الاقتصادية، بل ربما استخدم جانب كبير من هذا الفائض في تمويل نمو المجتمعات المتقدمة، بينما تحرم منه المجتمعات التي أنتجته، وهي في أمس الحاجة إليه.
-إن توجيه العفو إلى الإسهام في تحقيق التنمية الاقتصادية تقع على عاتق الكثير من المؤسسات القائمة في المجتمع، ابتداء من مؤسسة الدولة نفسها، كأهم مؤسسة في المجتمع، وانتهاء بالجمعية الخيرية، التي يكونها بعض الأفراد لأداء واجب من الواجبات الكفائية، مروراً بالكثير من المؤسسات التي يضمها المجتمع، مثل البنوك والنقابات المهنية، والأحزاب السياسية، والاتحادات الطلابية، إلى غير ذلك من مؤسسات وتنظيمات، تختلف عن بعضها البعض في مدى أهمية دور كل منها في توجيه العفو، لكن يبقى لكل مؤسسة منها دور تؤديه، ولا يغني فيه غيرها عنها.
خلاصة القول
إن قضية التنمية لها فلسفاتها وجوانبها المختلفة، لكنها في حقيقتها "عملية معرفية ثقافية حضارية"، تشمل مختلف أوجه النشاط المجتمعي، بما يحقق رفاهية الإنسان والمجتمعات، ويحفظ كرامتهم. وفي معاودة نهوض امتنا، واستعادة فاعليتها، ينبغي أن تُفهم وتتم وفق منهاج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. ووفق خصوصياتنا الإيمانية والشرعية والإجتماعية والإقتصادية الخ.
لقد أنزل الله تعالي القرآن للناس شرعة ومنهاجاً.. خطاب إلهي سليم، يحدد للناس مقاصد الدين، ويبصرهم برحلة حياتهم، وعِلة خلقهم، وسبيل قيامهم بأعباء الاستخلاف الإنساني، وكيفية تحقيقهم العبودية لله تعالي، أقتداءً برسول الله محمد صلي الله عليه وسلم، المبين عن ربه مراده ـ سبحانه تعالي ـ من الخلق، وسبل بنائهم المجتمع الإسلامي المتكافل.. المجتمع "المتعافي" الأنموذج المثير للاقتداء، المُغري بالاتباع.
فالأمة المسلمة، تمتلك قيم وطاقات روحية وعملية، وإمكانات مادية فاعلة، والتي يمكن -لو أحسن توظيفها - أن تحقق المنعة، وتـُستعاد الذات الحضارية المستلبة، وتتحقق فاعلية "الشهود"، والريادة الرسالية الحضارية، وهل عافية الدنيا الدنيا إلا تلك؟، ويبقي رجاؤنا في الله تعالي أن يتفضل علينا بسعادة الآخرة، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
يمكن التواصل مع الكاتب أ.د./ ناصر أحمد سنه على الإيميل التالي:
هوامش ومصادر
[1]- انظر: عمر عبيد حسنه في تقديمه لكتاب د. يوسف إبراهيم يوسف: "إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق، كتاب الأمة ، العدد:36، ذو القعدة 1413 هـ، مايو 1993م. مركز البحوث والمعلومات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر. وعلي الشبكة الدولية للمعلومات، Islamweb.net.[2]- انظر: المعجم الوجيز، طبعة وزارة التربية والتعليم المصرية، 1993م، ص 425. [3]- الفخر الرازي: التفسير الكبير "مفاتيح الغيب"، دار الفكر، بيروت، 1978م، ط 2، مجلد 2، ص:221 ـ222. [4]- الفخر الرازي: م.س.، مجلد4، ص:337-338. [5]- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ط 2، 1952م، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، مجلد 3، ص:61. [6]- الشوكاني: فتح القدير، دار المعرفة بيروت، د.ت.، مجلد 1، ص:222. [7]- الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، سنة 1984، ج2، ص 352. [8]- السيد محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1973، بدون رقم، ج2، ص 268. [9]- ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، دار إحياء التراث، قطر، ج2، ص 239. [10]- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط7، مجلد1، ص 231). [11]- انظر: عمر عبيد حسنه في تقديمه لكتاب: "إنفاق العفو في الإسلامي بين النظرية والتطبيق،م.س.، :ص:18-20. [12]- رواه الإمام مسلم في صحيحه، انظر الإمام النووي، رياض الصالحين، طبعة دار إحياء التراث، قطر، ط1، سنة 1986، توزيع دار الثقافة، الدوحة، حديث رقم 550. [13]- رواه الإمام مسلم في صحيحه، انظر المرجع السابق، حديث رقم 564. [14]- د. يوسف إبراهيم يوسف: "إنفاق العفو في الإسلام م.س. [15]- رواه مسلم في صحيحه، وفي "رياض الصالحين" للإمام النووي حديث رقم 119. [16]- متفق عليه، وفي "رياض الصالحين" للإمام النووي حديث رقم:248. [17]- رواه الترمذي وقال حديث حسن، وفي رياض الصالحين للنووي، برقم 406. [18]-جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم 117. [19]- جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم122. [20]- جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم248. [21]- جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم122. [22]- جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم244. [23]- جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم245. [24]- جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم177. [25]-رواه مسلم ، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم 245. [26]-رواه النسائي بإسناد صحيح ، انظر رياض الصالحين حديث رقم 195. [27]- جزء من حديث متفق عليه، راجع رياض الصالحين للنووي، حديث رقم 248. [28]-عدة روايات لحديث رواه مسلم كلها عن أنس ، رضي الله عنه ، انظر رياض الصالحين ، حديث رقم: 135، رواه البخاري بلفظ:"ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً ، فباكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" صحيح البخاري ، باب ما جاء في الحرث والمزارعة. [29]-نفسه. [30]-نفسه. [31]-رواه البخاري في صحيحه م.س.حديث رقم 604. [32]- رواه البخاري في صحيحه،أنظر رياض الصالحين، م.س. حديث رقم 149. [33]-متفق عليه، انظر رياض الصالحين، حديث رقم، 150. [34]-جزء من حديث صحيح، متفق عليه، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم 117. [35]- جزء من حديث صحيح، متفق عليه، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم248. [36]- جزء من حديث صحيح، متفق عليه، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم119. [37]- جزء من حديث صحيح، متفق عليه، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم119. [38]- جزء من حديث صحيح، متفق عليه، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم244. [39]- جزء من حديث صحيح، متفق عليه، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم233. [40]- جزء من حديث صحيح، رواه البخاري، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم262. [41]- جزء من حديث صحيح، رواه أبو داود، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم272. [42]- جزء من حديث صحيح، رواه أبو داود والترمذي، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم1387. [43]- جزء من حديث صحيح، رواه مسلم، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم245. [44]- جزء من حديث صحيح، رواه أبو داود، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم1382. [45]- رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن، واللفظ لأبي داود، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم196. [46]- رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة، المرجع السابق، حديث رقم197. [47]- متفق عليه، وانظر رياض الصالحين، حديث رقم126. [48]- الشيخ رشيد رضا: تفسير المنار،م.س.، ج 2، ص:270. [49]- تفسير الجلالين، المكتب الإسلامي ، بيروت، ط 3، 1988م، ص:823. [50]-ابن العربي: أحكام القرآن،دار الفكر العربي، بيروت، د. تز، ص:1984-1985. [51]- انظر: المعجم الوجيز، م.س.، مادة "معن". [52]-متفق عليه، وفي رياض الصالحين، برقم:307. [53]-رواه البخاري ، وفي رياض الصالحين برقم138. [54]-رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وفي رياض الصالحين برقم:1304. [55]- د. يوسف إبراهيم يوسف: "إنفاق العفو في الإسلام،م. س.، ص:87. [56]-المرجع السابق،ص:87. [57]- يحي بن آدم ، الخراج، المطبعة السلفية، ط2 1384هـ ،ص:59. [58]- د. يوسف إبراهيم يوسف:م. س.ص:88-89. [59] - للمزيد راجع :ابن العربي،م.س.،ص 928. [60]-صحيح مسلم، وفي رياض الصالحين برقم:550. [61]-متفق عليه، وفي رياض الصالحين برقم 463. [62]-متفق عليه، في رياض الصالحين برقم،464. [63]- للمزيد من التفصيل راجع د. يوسف إبراهيم يوسف:م.س. ص: 103 وما بعدها. [64]- متفق عليه، وفي "رياض الصالحين" حديث رقم:117.
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.34 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]