الموضوع: عتاب القلم
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-04-2019, 01:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي عتاب القلم

عتاب القلم

سالم بن عميران











علام الهجر أيها الصديق؟! هل تجحد فضلي ومنزلتي؟ ألم تقرأ قول الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم:1)؟! كفى بي شرفا وفخرا أنه أقسم بي في كتابه الكريم، وسماني بسورة في كتابه؛ بل ذكرني في أول آيات أنزلت على نبيه " صلى الله عليه وسلم" وهو في الغار، وقال عني الأدباء إنني أحد اللسانين، وإنني أبقى أثرا واللسان أكثر هذرا (1).


قلت له مترفقا: مهلا أيها الرفيق الكريم، إنني لم أنكر فضلك، ولم أجحد منزلتك؛ ولكنني رغبت عن صحبتك ومرافقتك لما سودته من صحائف تسوء الصديق المحب!


تبرم وجهه، وبدت عليه ملامح الحيرة والاستهجان وقال:



وما الذي لا يروق لك في صحائفي؟! ألم أخبرك بأحداث الليل والنهار، وأصلك بالأهل والخلان؟! أرشدني أيها الصديق زادك الله علما وفضلا!


قلت له: بوركت من رفيق كريم؛ فإنه قد شد انتباهي يوما غلاف كتاب جميل فاقتنيته، ولما قرأته تألمت مما فيه من التعدي على القيم والأخلاق والأسس التي قام عليها بنيان الإسلام، وقلت: بئس قلما تخلى عن قيمه الأصيلة وأخلاقه النبيلة!


ثم أخذت صحيفة أعجبني جمال رونقها وحسن قشابتها؛ فلما طالعتها، ساءني كثيرا تشويه لغتي الفصحى بألفاظ عامية أو دخيلة وأساليب لا قواعد لها ولا أسس؛ فأصابني هم شديد من إذلال للغة العربية، وقلت: سحقا لقلم تخلى عن لغته الفصحى التي نزل بها القرآن العظيم، وتكلم بها رسوله الكريم، ودون بها العلماء مصنفاتهم على مر العصور.


ثم جئت إلى الشبكة (الإنترنت)؛ لعلي أجد ما يطفئ غلتي ويروي عطشي، فتصفحت بعضا مما يكتب في المنتديات والمواقع؛ فأصابني سوء هضم من كلام لا يقرأ لفظه ولا يستساغ معناه حتى خفش بصري (2)، وصدأ عقلي من سطوة التشويه والتحريف في قواعد اللغة!


فيممت وجهي نحو الشارع ولسان حالي يقول:



قوم إذا جالستهم


صدئت بقربهم العقول


لا يُفْهِموني قولهم


ويدق عنهم ما أقول


وفي الشارع ثار قلبي حزنا وألما مما رأيت؛ حيث استبدلت ألفاظ أعجمية بالألفاظ العربية على واجهات بعض المحال والفنادق (مول، سوبر ماركت، سنتر، فون...)، وقلت: بئس لأقلام تخلت عن لغة الضاد واغتالتها في عقر دارها وهي لا تشعر!


فأبت عيناي إلا أن تقرأ كل جميل وفصيح! واعتكفت على قراءة كتب الأدب العربي من شعر ونثر ولسان حالي يقول:


رأيت العز في أدب وعلم


وفي الجهل المذلة والهوان


وما حسن الرجال لهم بحسن


إذا لم يسعد الحسن البيان


كفى بالمرء عيبا أن تراه


له وجه وليس له لسان


نظرت إلى رفيقي وقد نكس من الخجل رأسه وصعد من صريره أنفاسه (3) وقلت له: ما بالك أيها الرفيق؟!


فأخذته الحمية وقال غاضبا:



ألا قاتل الله تلك الأقلام التي تمشي في أيدي الجهال الأغمار ولم تعلم أنها كجواد تمشي تحت حمار، ولو أنه لا يتطاول إليها إلا أهلها لبان الفاضل من الناقص (4)، ولم تلتزم بأصول وقواعد الكتابة!


قلت: أدام الله عزك وفضلك أيها الرفيق الكريم، ولكن أرجو منك أن تحدثني عن شيء من أصول الكتابة وآدابها؟


هز رفيقي بالإيجاب رأسه وقال:



اعلم -رعاك الله- أن الكتابة ركن من أركان الشرف والمنزلة؛ قد صرف إليها العلماء والأدباء همتهم؛ لكشفها عن أسرار العقول وخواطرها؛ وفي ذلك يقول البحتري: «الأقلام مطايا الفطن». وقال أبودلف العجلي: «القلم صائغ الكلام يفرغ ما جمعه الفكر ويصوغ ما يسبكه اللب». وقال سهل بن هارون: «القلم أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره وأبان آثاره، ولولا الكتابة يا صديقي العزيز لما رفرفت العقول في بساتين المعرفة وقطفت منها أزهار الفوائد والحكم، فبالقلم تزف بنات العقول إلى خدور الكتب، ويقال عقول الرجال تحت أسنة أقلامهم وبنوء الأقلام يصوب غيث الحكمة». وقال جعفر بن يحيى: «لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم» (5).


واعلم أيها الصديق أن من أهم أصول الكتابة وآدابها إتقان علوم الآلة التي تقي اللسان من الخطأ، كالنحو والصرف والإملاء وحفظ شيء من كلام العرب مما تحصل به الملكة، وأخذ قسط من علوم الشريعة، فإنه من جهل شيئا عاداه؛ فليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء وإنما يخشى على من كان غير ثابت القدم في علوم الكتاب والسنة.


وينبغي عليك أيها الصديق أن تتحلى بالأمانة والنزاهة فيما تنقل وتكتب، وأن تحترز من المعائب والتكلف والتكرار مما يخل بفهم المعنى المراد ويوجب صعوبته.


وهنا هذه قاعدة عظيمة يجب أن تعيها أيها الصديق قبل الكتابة وهي: أن تكتب ما يراد لا ما تريد(6)؛ فلا تتجاوز الحدود وتنقض الثوابت والأسس وتخرج عن المألوف الذي يقوم عليه المجتمع المسلم!


وبالجملة أيها الصديق العزيز الكلام يطول حول أصول الكتابة وآدابها، وتذكر دائما قبل أن تكتب قول الشاعر:


ولا تكتب بكفك غير شيء


يسرك في القيامة أن تراه


قلت: بارك الله فيك من رفيق نصوح، وأعدك بأنني سألتزم بتلك النصائح والإرشادات فيما أكتب؛ ليحيا جيل قوي معتز بلغته وإسلامه.




الهوامش



1- انظر: الجاحظ، البيان والتبيين، بيروت، دار صعب، الطبعة الأولى، 1968م، ج1، ص57.


2 - «الخفش»: صغر العينين وضعف البصر. ويقال: إنه فساد في العين يضيق له الجفن من غير وجع ولا قرح، ينظر: فقه اللغة، لأبي منصور الثعالبي، ج1، ص366.


3- «الصرير»: صوت القلم، ينظر: فقه اللغة، لأبي منصور الثعالبي، ج1، ص787.


4- ينظر: ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، بيروت، المكتبة العصرية، 1995م، ج1، ص339.


5- ينظر: المرجع السابق، ج2، ص475.


6 - ينظر: المرجع السابق: ج2، ص115.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.43 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.95%)]