عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 16-08-2015, 05:57 PM
! إنسان والقلم ! إنسان والقلم غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Oct 2012
مكان الإقامة: بين طيات الاوراق ، وفي الغربة أسيح
الجنس :
المشاركات: 399
افتراضي رد: أفضل مئة رواية عربية - سر الروعة فيها

عن جبرا إبراهيم جبرا
....السيرة الذاتية تعدّ إضاءة (بانورامية) تضيء الذات المبدعة من الداخل والخارج على السواء، لأن الأديب يقف على أحداث متعددة، ووجوه متنوّعة، وعلى تجارب ومعاناة وثقافات أسّست العلاقة معه، أو أثّرت في مكوّناته المعرفية، فاستمدّ منها نسع الإبداع، وعبّر عنها بالكلمة الموحية، والعبارة الدالّة التي سجّلها بقلمه الخصب، على دفاتره الخاصة، التي وصلت إلينا، لنطالع فيها وجهيه اللذين يبدوان ـ في النهاية ـ ناصعين، على الرغم مما هبّ عليهما من نسائم وعواصف.‏

ومع نزوع بعض الكتّاب العرب إلى تسجيل تجاربهم في سِيَرٍ ذاتية، فإن أصحاب هذا الجنس الأدبي يحاولون دائماً أن يوجدوا المسوّغات التي دفعتهم للبوح والاعتراف، وإنارة الماضي، "ولا يقتضي ذلك بطبيعة الحال أن يكون ما يذكرونه، هو السبب الحقيقي، والدافع الأصيل".(1).‏

ومع أن "جبرا" يلمّح في بداية "البئر المهجورة" إلى رغبة كامنة في داخله لكتابة سيرته الذاتية منذ شبابه، فإننا لا نشك في الدافع المباشر الذي سوّغ به كتابة السيرة، فهو الأديب المبدع والفنّان المتعدّد المواهب، وقد حثّته السيدة "هايدي لويد" عام 1945، "حين كان يجلس معها في ـ فلسطين ـ جلسة ودٍّ وصفاء، يتناولان القهوة "إذ قالت بشيء من الإغراء":‏
ـ حدثني عن حياتك!... يقولون إنك عشت وما زلت تعيش حياةً مبعثرة.‏
ضحكتُ عندها، وقلت:‏
ـ حياة مبعثرة؟ أنا لست بطل الأبطال، إن كنتِ لا تعلمين.‏
ـ لا.. لا.. أنا لا أعني ذلك النوع من الحياة، ولكن تجربتك الفيزيائية، النفسية، الذهنية، علاقاتك العاطفية.‏
وبلمح البصر، عاودني خليط من أحداث طفولتي، ومراهقتي وسنواتي في إنكلترا، بتداخل وتسارع عجيبين. قلت:‏
إذا كان ذلك ما تقصدين، فسأفعل، ولكن ليس الآن، لأن القصة طويلة جداً.‏

ـ إذن انتظر أن أقرأ سيرتك الذاتية يوماً ما.‏
ـ أخشى أن يطول انتظاركِ..."(2).‏
إن "جبرا" في سيرته الكاملة "يتفرّد عن كثير من السير الذاتية، ليس على الصعيد العربي فحسب بل على العالمي أيضاً،
إذ أن قليلاً من الكتاب من يفرد لطفولته كتاباً خاصاً، بل إنمعظمهم يميلون إلى تجنّب ذلك أو إهماله.. وقد جرت عادتهم إذا ركّزوا على أحداث طفولتهم أن ينظروا إليها بعين النضج الذي أدركوه مع تقدّم السن..".(3). ولم يكن "جبرا" كذلك، وإنما ترك طفولته تأخذ مجراها، وغالباً ما نظر إليها بعيني طفلٍ، وتعامل معها بعقلية البراءة..‏


لقد هيأ لنا "جبرا" بأسلوب الأديب أن نستشفّ من سيرته الآثار التي تركت بصماتها على فنّه وفكره، فسفح أمام أعيننا صور الأحلام التي دارت في مخيّلته، وفي هذا مصدرٌ هام يلقي مزيداً من الضوء على سيرته الأدبية، ونتاجه الفكري، واهتماماته المتعدّدة المتنوعة.‏

إن "جبرا" الذي غدا الأديب المتميّز في منظور القرّاء والنقاد على السواء، ترك بين أيدينا حياته وفكره وإبداعاته، وقد رسمها بقلمه، ومشاعره في لوحات "بانورامية"، ثلاث، أتت على مراحل حياته، وجعلها في كتابين (البئر الأولى) و(شارع الأميرات)، وقد أمهله القدر حتى طبع الأخير الذي رأى النور قبل رحيله عن عالمنا بأسبوع واحد، وكأن فارس الإبداع لم يرحل عن الساحة الأدبية إلاَّ بعد أن ثبّت عليها راياته بيديه.‏

أولاً ـ المرحلة الفلسطينية ـ الطفولة والصبا:‏
إن أول ما تناهى إلى سمع الفتى حين وفد على الحياة، كانت ألحان النواقيس، تعزفها أجراس كنيسة المهد في "بيت لحم" المدينة المقدسة عام 1920، وما إن تفتحت عيناه على الموجودات من حوله، حتى ارتفع بالنظر إلى السماء الزرقاء، التي تحيط بقباب المدينة ومناراتها، التي باركها الله بالسيد المسيح، فكان نظره محلّقاً دائماً إلى الأعالي، وقليلاً ما ينزل إلى الأرض، وكأنه يتنبأ بأنه سيغدو في مستقبل أيامه طائراً يحلّق في الأجواء، ويحمله الأدب على أجنحة لا زوردية، تتناسب مع روعة أرض القدس، وحاراتها القديمة، التي انتقل إليها مع أسرته، ودرس في كليتها العربية، كما أنها تتواءم مع روعة فلسطين وجمالها، التي غادرها يافعاً للدراسة في بريطانيا، ولم يكن يعلم أنه لن يتمتع بالإقامة فيها طويلاً، لأنه سيهجرها بحلول نكبة عام 1948، فيطير الطائر الجميل، وهو يحمل وشيها في منمنمات وعيه ولا وعيه، ولم تستطع فاتنات الإنكليز في لندن، ولا في جامعتي "إكسترا"، و"كمبردج"، ولا شقراوات "جامعة هارفرد" الأمريكيات أن يزلزلن شيئاً من الجوى الذي ظلَّ يحمله للوطن في حلّه وترحاله، وبقي مقيماً معه حتى الرمق الأخير.‏

تعلّق الفتى منذ حداثته بالكتاب، فعشق المطالعة، وتأثّر بأفكار طه حسين وسلامة موسى من الكتّاب العرب، ثم تطلّع بأنظاره إلى آداب الأمم الأخرى وفلسفاتها، فأقبل ينهل ما وسعه من "إليوت، وفرويد، ويونغ، وسارتر، وكامو، وإيليا اهربنورغ، وشكسبير، وفوكنر، وغوته، وفلوبير، ودستويفسكي، وبايرون، وهيوم...".‏

لقد كان له مع هؤلاء وأمثالهم وقفات في استلهام فنهم الروائي، وإبداعاتهم النقدية، التي استفاد منها في النقد الذي جرّبه على شعر بدر شاكر السياب، وأدونيس بصورة خاصة، ويوسف الخال وتوفيق صايغ ورياض نجيب الريس وسواهم بصورة عامة، فكان أحد رموز الشعر الحديث بما طرحه من مصطلحات أشهرها "المنهج الموضوعي الجديد"، و"المعادل الموضوعي"، و"وحدة القصيدة العضوية"، حيث دعا للرجوع إلى التراث المشرقي، واستخدام الرموز، والانفتاح على العصر، وتجاوز الشعر التقليدي الذي مضى زمنه وانقضى، وعندما أهدى إليه أخوه ديوان "الملاح التائه"، للشاعر (علي محمود طه)، كإنتاج جديد من الشعر المعاصر، تصفّحه، فشعر بالامتعاض لأنه لم يجد فيه سوى "هراء وتنغيم أطفال، ومبتذلات القول كلها اجتمعت في تلك القصائد التي عُدّت يومها آية في التجديد والخلق"، (4).‏

وحين وضعوا بين يديه ديوان (أحمد شوقي) الذي بويع أميراً للشعراء العرب في القرن العشرين، عاودته الخيبة "كانت خيبتي بالمرارة نفسها، لتلك المنمنمات العثمانية التي ما عادت تجربة الحرب الطاحنة تتحمّلها"(5)، لأن هذا لا ينسجم مع منظور الشاعر المتفتح على الحياة.‏

لقد تبصّر "جبرا" في الصورة الشعرية الأوروبية، مع قلّة من أترابه، لكنه وجد نفسه ـ معهم ـ منبوذاً من قبل شعراء العمود، كما يقول "جبرا": لقد أصبحنا يومئذٍ ـ وإن كنا قلّة غريبة لم يعترف بنا أحد بعد ـ جزءاً من عصريات (الجمال) السطحي فيه ـ شيئاً مذموماً أقرب إلى (جمال) الزهور الشمعية المصطنعة، التي لن يقبلها ذوق لا يجد متعته إلاَّ في توتّر التجربة، وزخم الحسّ والعنف والمأساة"،
(6).‏

على الرغم من أن "جبرا" جسّد في رواياته العالم البرجوازي، وأجواءه وطقوسه، وعلاقات أفراده...
إلاَّ أنه في نشأته لم يكن كذلك، فحياة الأسرة في مرحلة طفولته التي رسمها في سيرته الذاتية "البئر الأولى"، رصدت حياته حتى الثالثة عشرة، ولما كان العنوان علامةً بارزةً في تحديد النصّ، والكشف عن مجموعة الدلالات المركزية المنبثقة منه؛ فإن "جبرا" قد عمد إلى الإيحاء والترميز، نظراً لما للبئر من موقع حسّاس في النفس، ينمّ عن معايير معيّنة في اختياره لتركيب وصفي، جمالي ودلالي معاً، يوحي بالانخفاض والعوز والعمق والسجن والرطوبة والدونية والتحتية والرهبة، وقد كان يؤكّد على هذه الدلالة كلما استعاد في طفولته شيئاً من خوفٍ أو حزنٍ، فحين هزَّ زلزالٌ فلسطين، وصفه الأديب الكبير بعيّني طفلٍ صغيرٍ، في رواية "البحث عن وليد مسعود": شهدت الزلزال وأنا طفل في السادسة، لقد خضّ الأرض كما لو خضّتها ريح غريبة رهيبة، كنت جالساً على الأرض مع غيري من الأطفال في المدرسة الصغيرة، فحسبت الريح الهادرة هزّت البنيان القديم هزّاً عنيفاً، ولمّا انطلق الصبية مذعورين إلى الخارج، انطلقت معهم، ورأيت الحجارة تتساقط كتلاً من أعلى المبنى العتيق المقابل، وتتكوّم أمام عيني في ركام أبيض مريع، واتجهتْ أبصارنا من الخرابة التي نحن فيها نحو كنيسة المهد نستنجد الله لإنقاذنا، وسمعت بعض الكبار يقولون: "إن كان هذا يوم القيامة، فهل يستهدفنا الله تحت الأنقاض، ليقيمنا من تحتها مرة أخرى!". وفضلا ًعن ذلك، فإن العنوان يرمز إلى الذاكرة التي اختزنت في "بئرها" ما يمدّها بنسغ الإبداع وقد "تجمّعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات

. أولى الأفراح والأحزان والمخاوف التي جعلت تنهمر على الطفل، فأخذ إدراكه يتزايد، ووعيه يتصاعد"(. وهذا ما جعل "من الذاكرة (البئر) أو المخبأ الذي يحفظ فيه تجاربه الأولى. تجارب الطفولة التي هي أكثر من حصيلة ذكريات خاصة، فهو يدرك أن الأصول الحقيقية للأشياء تعود إلى التجارب الأولى من حياة المرء"، (9). وأكّد على ذلك مراراً مركّزاً على لفظ "البئر" ومدلولها: "طفولتي ما زالت هي ينبوعي الأغزر. إنها البئر والعين التي تمدّني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من بنت الخيال، وأرجو أنها ستستمر في منع الجفاف والعطش".(10).‏

ولقد رأى في (البئر) ما يرمز إلى حياة الناس الواقعية، والدينية: أما الواقعية فهي مستمدّة من حياة الناس في عشرينيات القرن الماضي، حيث كانت البيوت لا تُسكن إذا لم تكن في بئرٌ: "هل توجد بئرٌ في حوش الدار؟ هل هي عميقة؟ وفي حالةٍ جيدة؟ هل ماؤها طيب؟ أم أنها لم تنزح من طينتها منذ سنين؟".(11).‏

أما المدلول الديني فقد استمدّه من التراثين: الإسلامي، الذي ورد في "سورة يوسف"، في القرآن كريم، والمسيحي، في قصة الملك البابلي "دانيال"، "حيث يتحوّل البئر في كل من القصتين إلى نقطة تحوّل نحو السمو والرفعة، بدلاً من أن تكون النقطة التي تنتهي عندها الحياة". (12).‏

إن مؤشرات المرحلة الأولى تنمّ عن حالة الفقر و الحلم التي وسمت حياة الطفل، وقد تغلغلت منمنماتها في ثنايا رواياته، وحظيت بيت لحم ـ مهد الطفولة، ومرتع الصبا ـ بنصيب وافر من استذكاراته التي شهدت تشكيل أولى التجارب والرؤى والأصوات، فاختزن‏ الصبي منها ما "يمرّ به كل يوم، يعاينه، أو يتلذّذ به". (13).‏

ارتبطت مدينة المهد في وعي الصغير بـ(المسيحية) رمز المحبة والسلام، كما ارتبطت بـ"الفقر والعوز"، فكان يرى الملاكين الصغار لا يجدون فيها ما يرغّبهم في العيش، فيندفعون نحو شاطئ البحر، ينتظرون السفن التي تحملهم، وبأيديهم مناديل الوداع، ميمّمين شطر المهجر الأمريكي. شأنهم في ذلك شأن إخوانهم، من ذلك الرعيل المهاجر، من أبناء بلاد الشام:‏

"كان أثر الهجرة بادياً بوضوح، في مطلع العشرينيات في خلوّ الكثير من البيوت والمباني من أصحابها، وفي حالة الإهمال أو التداعي التي تعاني منها مئات المنازل والكروم المحيطة بالبلدة، غير أن مركز "بيت لحم"، كحاضنة لمهد المسيح أعطاها تميّزاً من نوع فريد، وهيأت لعددٍ كبير من أهلها مورداً سياحياً من الصناعات اليدوية المقرونة بمقدسات المسيحيين والمسلمين، فكانت تستورد كمياتٍ كبيرة من الأصداف الخام لتحويلها... إلى مسابح وصلبان ومصغّرات لكنيسة المهد، وقبة الصخرة، إضافة إلى العلب، والأطر النفيسة، التي كانت ترصّع بالصدف، ويقبل على شرائها الزوّار الأجانب".(14).‏

تمثل "بيت لحم" الطبيعة الأولى البكر في مخيّلة "جبرا" فتظلّ ترافقه طوال حياته، لأنها طفولته، التي يسترسل في وصفها، ويرسمها في الربيع، فيستلهم عشياتها، وتتحول سماؤها إلى فضاءات جميلة تغطيها أسراب السنونو التي تفد "في العشيات تعبر الفضاءات اللازوردية، وقد وفدت من جديد إلى الأرض التي تحبّها... عشيات الربيع في بيت لحم. أينما كنا نلعب أو نغني. نروي الحكايات، كانت تصخب بجحافل السنونو، وتعبث وتلهو وتدور وتشفّ عن أسطح البيوت، ثم تعلو السماوات الرحاب، نتابعها وهي تغير وتنعطف وتستدير، ثم تغيّر وجهة طيرانها... وتملأ الأجواء فرحاً وبهجة، نتلقّى فعلها في أنفسنا دون ما وعي، فيشتدّ صخبنا، ونمعن في الركض والقفز ونرفع أصواتنا في الغناء والصياح.."(15).‏

ولا تمثِّل "بيت لحم" في الذاكرة مكان الطفولة، ومهد المشاعر الدينية فحسب، وإنما غدت مع أختها الكبرى "القدس" الوطن الصغير "فلسطين" تتبوأ في فن الروائي مكان القلب الذي يمدّ السرد الروائي بالنبض، ويضخّ إلى باقي أجزاء الجسد الدم الموّار، الذي يساعد على الحياة والأمل "أما القدس فهي من أكثر المدن حضوراً في رواياتي، ولا تكاد تخلو رواية من ذكر هذه المدينة"(16
). إذ تلحّ عليه ذكراها بمرارة بعد ما غادرها إلى بغداد، بُعيد النكبة، حيث وجد نفسه منفياً محاصراً، وهو في ميعة الصبا. لذلك لم تثر بغداد لديه ـ في البداية ـ ماكان يرسمه القلب لها من سحرية المدن الشهرزادية: "في ذلك اليوم الأول من تشرين الأول عام 1948، حين وصلت إلى بغداد، لم يكن السبب أنني رأيت لندن وباريس والقاهرة ودمشق، لقد نسيت أسفاري وماعدت أستطيع أن أذكر ملامح أي مدينة في العالم سوى مدينة واحدة أذكرها... أذكرها طيلة الوقت، تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها. تحت أشجارها المجرّحة، وسقوفها المهدّمة، وقدآتي إلى بغداد، وعيناي ما زالتا تتشبثان بها ـ القدس ـ...".(17).‏

إن "القدس" ظلّت مقيمةً في قلبه، مظللةً بالأمل والحاجة. فالبيت الذي سكنت فيه الأسرة في حارة
(جورة العناب) خلّده في روايته (صراخ في ليلٍ طويل)، وقد جعله مقرّ بطل روايته (أيمن) الذي وصفه بتعابير الطفولة: "عندما كنت صغيراً أسكن مع أبي وإخوتي الثلاثة، في غرفةٍ مربعةٍ ضيقةٍ لها شباكٌ صغيرٌ واحدٌ، لا زجاج له. لا أظننا كنا نتذمر كثيراً، فليس جيراننا بأحسن حالاً منا، ولا أقرباء لنا ساكنين في بيوتٍ أحسن من بيتنا، فلا داعي هناك للحسد. كنا قانعين بنصيبنا. لم يشعر أحدٌ منا عن وعيٍ بزراية حالته، وفساد الهواء الذي يتنفسه... أما الشجار فقد كان من التقاليد الراسخة، فقد كنا نتشاجر بحماسةٍ هائلةٍ، ثم نتصالح فيعود الوئام بيننا مع الكثير من المحبة والرقةِ"(18).‏

يتذكّر "جبرا" ـ
بعد أن تحسّن وضع الأسرة ـ البيت الذي أشار على أبيه ببنائه، بعد أن اختار مكانه بنفسه ـ قبيل النكبة ـ فوق جبل "القطمون" الذي يطلّ على الحيّ اليهودي، فكان كثيراً ما يقف في شرفته ويشاهد "أزواجاً من الفتيان والفتيات يصعدن إلى الباب، ويدقون الجرس.‏

كانوا يقولون إنهم ينجذبون بقنطرة المدخل، وأزهار الجارانبوم التي تكسو الدرج الحجري الأبيض، والنوافذ العالية، بأعمدتها الثلاثية ـ في الطابق الثاني ـ التي كانت حين تعكس الشمس تتصاعد كالشعلة الملتهبة فوق الوادي".(19)، وعلى الرغم من ابتعاد "جبرا" عن القدس فإنها لم تفارق ذاكرته، فلا تزال ضحكات أطفالها يتردّد صداها في سمعه. إنه يذكرها "كآدم يذكر الجنة. فالصبي إذ ينمو، تنمو المدينة في كل زاوية من زوايا نفسه... وصباه إنما هو انعكاس لمئات الطرقات والبيوت والحوانيت والأزقّة والأشجار والبقاع المزروعة التي تخضّر في الربيع، وتصفّر في الشتاء، والصخور المنتشرة في كل مكان، والتي تؤلف المدينة.. أين تنتهي الذات، ويبدأ الموضوع؟ هنا شارع بكى فيه الولد وجاع، وضحك، وعشق فتاة لا يعرف اسمها لأنها ابتسمت له من غير قصدٍ، وركض فيه. في المطر. في الظلام. مع إخوته. مع والديه. مع العشرات من أصدقائه الذين ما زال يسمع في ذهنه أصواتهم المتجاذبة. بين مباني الشارع. مثل هذا الشارع. هل يمكن أن يبقى امتداداً هندسياً موضوعياً مجرّداً؟؟".(20)
__________________





قمة آلحزن !
عندمآ تجبرُ نفسّك على ڪره شخص ..
كآنَ يعني لك آلعالم بِآگملہ ؤآلأصعب منـہ !
عِندمآـآ تتصنّع آلڪره .. و بِدآخلڪ حنيين وحب
[ گبير لہ
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.28 كيلو بايت... تم توفير 0.64 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]