عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-01-2020, 06:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية

لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية


أحمد الشحات





عندما عَلم الإمام أحمد بن مُري الحنبلي بخبر وفاة ابن تيمية-رحمه الله-، أرسل رسالةً إلى تلامذة الشيخ يُصبِّرهم فيها ويواسيهم على مصيبتهم؛ فقال لهم: والله -إن شاء الله- ليقيمنَّ اللهُ -سبحانه- لنصر هذا الكلام، ونشره وتدوينه وتَفَهُّمِه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه هي سُنَّة الله الجارية في عباده وبلاده، قال الحافظ البزَّارُ: هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق، وبهر بفنونه البصائر والأحداق، وملأ بمحاسن مؤلفاته الصُّحُف والأوراق، كبتًا ورغمًا للأعداء أهل البِدَع المضلة والأهواء.
بهذه المقطوعة المُبهِرة، وبهذا النقل المُفْعَم بالأمل أردت أن أبدأ مقدمتي عن شيخ الإسلام-رحمه الله-؛ فقد صدَقَت نبوءة الإمام الحنبلي، وانتشرت علوم ابن تيمية ورسائله في كل مكان، واطَّلع على كتبه واستفاد من كنوزها ودررها المخالفون له والمعترضون عليه قبل المُحِبِّين له العارفين بشأنه، وها هي ذي الجامعات العلمية في كل بلاد الدنيا، تكتظ بالرسائل العلمية المستفيضة عن حياة شيخ الإسلام، وعن تراثه وآرائه المتجددة؛ فشيخ الإسلام يندر أن يجود الزمان بمثله، ومع ذلك فقد مات الشيخ -رحمه الله- مسجونًا مظلومًا، ممنوعًا من دروسه وتلامذته، بل منعوا عنه كُتُبَه وأقلامه وقراطيسه!
حملة غاشمة
وإذا كانت هناك حملة غاشمة على شيخ الإسلام -رحمه الله- في حياته؛ فإن هذه الحملة لم تنقطع منذ وفاته حتى الآن؛ فالرجال العظماء بقدر ما ينالون من تقدير العقلاء والنابهين، ينالهم من أذى الحاقدين والجُهَّال والمتربصين، وهذه سنةٌ ماضيةٌ في كل الأعلام والمُجدِّدين على مدار التاريخ.
ليس حديثًا هينًا
إذًا؛ فالحديث عن ابن تيمية -رحمه الله- ليس حديثًا هينًا؛ فنحن لا نتحدث عن عَلَم من أعلام الإسلام، أو شمس من شموس الدنيا فقط، ولكننا في الحقيقة نتحدث عن شخصية علمية فريدة، وقلعة فكرية شامخة، أذهلَت الناس بتميزه وسبقه لزمانه؛ فقد قام ابن تيمية -رحمه الله- بنشر العلم، وتجديد الدين، ومُناظَرَة المُخالِفين، وتأسيس مدرسة ما زال أتباعها وتلامذتها منتشرين في شتى بقاع العالم.
جولةٌ في حياة شيخ الإسلام
نشأ تَقِيُّ الدِّين أبو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي -رحمه الله- نشأةً علميةً عميقةً؛ فأبوه وجدُّه من فقهاء الحنابلة الكبار، وجدُّه من العلماء الفطاحل الذين دَوَّنوا كُتبًا لها ثقل ومكانة بين علماء المذهب، وقد نهل أحمد ابن تيمية من علماء عصره وأفاد منهم، ولكن نتاج شيخ الإسلام ابن تيمية كان ذا صبغة خاصة، اعتمد فيها على تكوينه العقليّ والفكريّ وقريحته الذكية؛ فقد وهبه الله عقلًا ثاقبًا، وبصيرة مستنيرة، تمكّن من خلالها أن يتجاوز شيوخ عصره وعلماء زمانه، وقدَّم للبشرية منتجًا فكريًا حضاريًا رائقًا، لم ينفصل فيه عن الواقع، ولم يخاصم فيه تراث السلف، بل نجح فى المزج بينهما والتأليف بين أجزائهما؛ فقدم آراءً متجددة ونظرات واعية كانت -طوال العُقود السابقة وما زالت- حاضرة في أدبيات الحركة الإسلامية في مصر، والشام، والجزيرة العربية، والمغرب، واليمن ومراجعها.
عنايته بالعلوم كافة
وقد عُنِي الشيخ -رحمه الله- بالحديث، وتعلم الخط والحساب، وحفظ القرآن، ثم أقبل على الفقه، وقرأ أيامًا في العربية وأخذ يتأمل كتاب (سيبويه) حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا حتى سبق فيه، وأحكم أصول الفقه، كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة؛ فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصوّن تام وعفاف واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره؛ فيناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحيرون منه، وشرع في الجمع والتأليف، وبَعُد صيته في العالم كله.
آية في الذكاء
قال عنه الذهبي -رحمه الله-: كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسُنَّة والاختلاف، بحرًا في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا وشجاعةً وسخاءً وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وكثرة تصانيف، وقرأ وحصَّل وبدَّع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة، وتقدم في علم التفسير والأصول وعلوم الإسلام جميعها أصولها وفروعها ودِقِّها وجُلِّها؛ فإن ذُكِر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عُد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطَق وخرسوا وسرَد وأبلسوا واستغنَى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون؛ فهو فردهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فَلَّهُم وهَتَك أستارهم وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن تصفه كَلِمي وينبه على شأوه قَلَمي؛ فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومِحَنه وتنقلاته، يحْتَمل أن تُوضَع فِي مجلدين؛ فالله -تعالى- يغفر له ويسكنه أعلى جنته؛ فإنه كان رَبَّانِيَّ الأُمَّة وفريد الزمان، وحامل لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، رأسًا في العلم يبالغ في أمر قيامه بالحق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد ولا لحظتها من فقيه.
معارك ابن تيمية العلمية والفكرية
كانت لابن تيمية -رحمه الله- صولات علمية مع الطوائف والفرق التي انتشرت في عصره؛ فقد تصدَّى لهذه الفرق بجرأة وشجاعة وعلم وفهم، لم يُرَ أحدٌ مثله منذ قرون عديدة، وإنما تمَكَّن ابن تيمية من نواصي هذه العلوم؛ لأنه فهمها ووعاها كما لم يفهمها أصحابُها؛ فعرف مقالاتهم ومؤلفاتهم؛ ففندها وسبر أغوارها وعرضها على الكتاب والسُنَّة، منتقدًا أصولها وفروعها، متفحصًا لكلِّياتها وجزئياتها؛ فنازَلَهم وناظَرَهم بلسانِهم ومنطِقِهم، وألزَمَهم -بقوة الدليل الصحيح وقوة العقل السليم- بما وقعوا فيه من مخالفة المنقول والمعقول.
اجتمعت فيه شروط الاجتهاد
قال الشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني في حق ابن تيمية -رحمه الله-: كان إذا سئل عن فن من العلم، ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم بألا يعرفه أحد مثله، وكانت الفقهاء من سائر الطوائف، إذا جالَسوه، استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، قال: ولا يُعرف أنه ناظَر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم، سواء كان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاقَ فيه أهلَه، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
مُعارَضة أهل البدع
قال الحافظ البزَّارُ: وأما ما خَصَّه الله -تعالى- به من مُعارَضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، وما ألَّفه في ذلك من دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم، وانتحالهم وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شُبَهِهم الشيطانية، ومُعَارَضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية بما منحه الله -تعالى- من البصائر الرحمانية، والدلائل النقلية، والتوضيحات العقلية، حتى انكشف قناع الحق وبان -بما جمعه في ذلك وألَّفه- الكذب من الصدق؛ حتى لو أن أصحابها أحياء ووُفِّقوا لغير الشقاء، لأذعنوا له بالتصديق، ودخلوا في الدين العتيق؛ ولقد وجب على كل من وقف عليها، وفهم ما لديها أن يحمد الله -تعالى- على حسن توفيق هذا الإمام، لنصر الحق بالبراهين الواضحة العظام.
كفاءة عالية
هذه المعارك العلمية التي أثبت فيها ابن تيمية كفاءةً عاليةً وقدرةً فائقةً، جعلت له خصوماتٍ متعددةٍ، وعداواتٍ متكاثرةٍ، قامت في الأساس على الحَسَد والبغض؛ فأدَّت بهم إلى أن يؤذوه بالضرب أو بالسجن، بل أفتى بعضهم بكفره واستحلال دمه، ولقد صدق العلامة السُبكي الشافعي -رحمه الله-؛ حيث قال لبعض من ذكر له الكلام في ابن تيمية: والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل، أو صاحب هوى؛ فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به، وقد خرج ابن تيمية من كل هذه المناظرات مُكرمًا مرفوع الرأس، مشهودًا له بالكفاءة والعدالة والنزاهة؛ لأنه لم يكن يسعى لمنصبٍ ولا لجاهٍ ولا لمكانةٍ، بل كان مخلصًا متجردًا -نحسبه كذلك- مدافعًا عن الحق في كل ميدان، وفي كل مجال.
العالم المُنَظِّر
فهو العالم المُنَظِّر، والفقيه المتمَكِّن، والمفتي المتبَصِّر، والمُناظِر الذي لا يُشق له غبار، والمؤلِّف الذى خَطَّ ببنانه المؤلفات الماتعة والمصنفات البديعة، وهو المجاهد الذي أشهر سيفه في سبيل الله؛ فقاتل التتار وأظهر في ذلك شجاعة باسلة، وهو السياسيُّ المُحنك الذي فاوَض ملك التتار وراسل ملوك النصارى، وقبل كل ذلك تجده رَجُل العامة، يدرس في المسجد ويؤم المصلين، ويجيب السائلين، ويجلس مع تلامذته وأتباعه يتفقدهم ويتودد لهم.
تجَرُّدٍ تلامذته وواقعيتهم
ومن نعمة الله علينا أن تلامذة ابن تيمية، لم يضيعوا علوم أستاذهم، بل نقلوا لنا علومه وكتاباته وفتاويه، ودَوَّنوا كذلك سيرته والوقائع التي حدثت في حياته، ولكنَّ اللافت للنظر، أنهم نقلوا لنا تلك السيرة بتجَرُّدٍ وواقعيةٍ؛ فلم يُبالِغوا في الوصف، ولم يُكثروا في المديح، كما كان الغالب على أتباع المذاهب الفقهية؛ ولعل هذا التوازن مما تعلموه من شخصية الشيخ الإمام.
المِحَن التي تعَرَّض لها شيخ الإسلام
قال الحافظ البزَّار: كان صلى الله عليه وسلم من أعظم أهل عصره قوة، ومقامًا، وثبوتًا على الحق، وتقريرًا لتحقيق توحيد الحق، لا يصده عن ذلك لوم لائم، ولا قول قائل، ولا يرجع عنه لحجة محتج، بل كان إذا وضح له الحق يعض عليه بالنواجذ ولا يلتفت إلى مُبايِن مُعانِد؛ فاتفق غالب الناس على معاداته، وجُلُّ مَن عاداه قد تستَّروا باسم العلماء والزمرة الفاخرة، وهم أبلغ الناس في الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة، وسبب عداوتهم له أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرئاسة وإقبال الخلق، ورأوه قد رقَّاه الله إلى ذروة السنام من ذلك بما أوقع له في قلوب الخاصة والعامة من المواهب التي منحه بها، وهم عنها بمعزل؛ فنصبوا عداوته، وامتلأت قلوبهم بمحاسدته، وأرادوا ستر ذلك عن الناس حتى لا يفطن بهم؛ فعمدوا إلى اختلاق الباطل والبهتان عليه والوقوع فيه، ولاسيما عند الأمراء والحكام.
المحنة الأخيرة
وكانت حياة شيخ الإسلام مليئةً بالمِحَن والابتلاءات؛ فمحنةٌ تُسلِم إلى محنة، وفتنةٌ تأتي في أعقاب فتنة، حتى جاء موعد المحنة الأخيرة بسجنه في سجن القلعة، ثم تصاعد التضييق عليه داخل محبسه حتى توفَّاه الله وهو على هذه الحال؛ ففي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة، أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الكتب، والأوراق، والدواة، والقلم، ومُنِع من الكُتُب والمُطَالَعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة، قال البرزالي: وكانت نحو ستين مجلدًا، وأربع عشرة ربطة كراريس؛ فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لِمَا كان رد عليه الإخنائي المالكي في مسألة الزيارة، فرد عليه الشيخ تقي الدين واستجهله، وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم؛ فطلع الإخنائي إلى السلطان وشكاه؛ فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك، وكان ما كان.
مات بالقلعة محبوسًا
وبقي بسجن القلعة بضعة وعشرين شهرًا، مقبلًا على التلاوة والتهجد والعبادة حتى أتاه اليقين؛ فلم يفجأ الناس إلا نَعْيه، وما علموا بمرضه، وعاش -رحمه الله- سبعًا وستين سنة وأشهرًا، واجتمع الناس لجنازته اجتماعًا لو جمعهم سلطانٌ قاهرٌ وديوانٌ حاصرٌ لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسًا من جهة السلطان.
جنازة مهيبة

قال الحافظ البزَّارُ: ولم يُر لجنازة أحد ما رُئي لجنازته من الوقار والهيبة والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها وتوقيرهم إياها، وتفخيمهم أمر صاحبها، وثنائهم عليه بما كان عليه من العلم، والعمل، والزهادة، والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والاشتغال بالآخرة، والفقر، والإيثار، والكرم، والمروءة، والصبر، والثبات، والشجاعة، والفراسة، والإقدام والصدع بالحق والإغلاظ على أعداء الله وأعداء رسوله والمنحرفين عن دينه، والنصر لله ولرسوله ولدينه ولأهله، والتواضع لأولياء الله والتذلل لهم والإكرام والإعزاز والاحترام لجنابهم، وعدم الاكتراث بالدنيا وزخرفها ونعيمها ولَذَّاتها، وشدة الرغبة في الآخرة والمواظبة على طلبها، حتى لتسمع ذلك ونحوه من الرجال والنساء والصبيان، وكلٌّ منهم يثني عليه بما يعلمه من ذلك.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]