عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 14-10-2020, 06:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي الوضوح و الغموض في الأدب الإسلامي

الوضوح و الغموض في الأدب الإسلامي


د. محمد سليمان صعنون







ظاهرة الوضوح والغموض ظاهرة قديمة جديدة، ترتبط بمرجعيات نقدية كثيرة، لعل أهمها الزمان والمكان، فما كان بالأمس غموضاً قد يُرى في زمان ومكان آخرين غير ذلك, أما في البُعْد الخاص للظاهرة، فهناك ثقافات متنوعة ومختلفة في آنٍ واحد، فقد يرى شخصٌ غموضاً في إبداع ما، ويراه آخر تفوقاً وسمواً.

ومن هنا دفعتني هذه الآراء لأبين شيئاً عن هذه الرُّؤَى النقدية، ولاسيما أن كثيراً من النقاد اليوم يرمون الأدب الإسلامي بالمباشرة والوضوح الممجوج، الذي يعود بالأدب إلى عصر الجمود.

وفي هذا السياق يجب أن يُنظر إلى الغموض في الأدب الإسلامي من خلال الهدف الرئيس الذي يَنشده هذا النموذج الأدبي؛ وهو نشر الفضيلة بجميع صورها، وتشجيع صاحبها، وبث كلماته في الوجود؛ لتكسب السعادة والرضا للبشرية، وبهذا؛ لا نركض خلف الوضوح الفاضح - كما يظن بعض الأدباء والنقاد المهاجمون لفكرة الأدب الإسلامي - وإنما نرنو إلى الغموض الشفّاف، الذي يحتاج إلى شيء من إعمال الفكر.

وبذلك لا نقع في أدبنا تحت مظلة من قال في أدبهم الجاحظ: "ما كان سهلاً، ومعناه مكشوفاً بيّناً؛ فهو من جملة الرديء المردود"، ولا نجلس في دروب غلوِّ أبي تمام في غموضه؛ كما قال المَرْزُبانِيُّ في "موشَّحه": "إن كان هذا شعراً؛ فإن ما قالته العرب باطل"!! وأسوق على ذلك مثلاً من قصيدة للشاعر العشماوي يقول فيها:




أَبَى الْمَجْدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِعَاقِلِ إِذَا زَمْجَرَتْ فِي الأَرْضِ رِيْحُ النَّوَازِلِ
وَأَقْسَمَتِ الْعَلْيَاءُ أَنَّ بُلُوغَهَا مُحَالٌ عَلَى أَحْلاَمِ كُلِّ مُخَاتِلِ
وَأَقْسَمَ ثَغْرُ الشَّمْسِ أَنَّ ضِيَاءَهَا يَضِيْقُ بِذِكْرِ الْوَاهِنِ الْمُتَخَاذِلِ
وَأَلْقَى عَلَيْنَا الْفَجْرُ خُطْبَةَ نَاصِحٍ يَرَى مَا يُعَانِي كَوْنُنَا مِن قَلاَقِلِ
أَلاَ أَيُّهَا الفَجْرُ الْمُحَذِّرُ، إِنَّنَا سَمِعْنَا، وَأَحْسَسْنَا بِضَرْبِ الْمَعَاوِلِ
لَكِنَّنَا فِي غَفْلَةِ الْعَصْرِ، لَمْ نَزَلْ نَعِيشُ بِحسِّ الْمُعْرِضِ الْمُتَشَاغِلِ


إن نظرةً متأملةً قصيرةً تكشف حجب هذا النص، ولا يحتاج إلى غيرها، فالشاعر نجح في إيصال رسالته، لكنه لم يَغفلْ عن الأدوات الفنية في النص؛ فالمجد يأبى، والعلياء والثغر يُقْسِمان، والفجر يخطب، إن هذا القدر من الصور الشعرية يثير المتلقي، ويبعث الحياة في النص عند كل وقفة، ولا نَغْفُل عن استعماله للفعل الماضي، الذي جاء في مطلع أبيات النص غالباً: "أَبَى، زَمْجَرتْ، أَقْسَم، أَقْسَمَت، أَلْقَى، سمعنا، أحسسنا"، والفعل المضارع الذي ورد ضمن النص: "يكون، يضيق، يرى، يعاني، لم نزل، نعيش"، وكيف أن هذه المناوبة بين الفعلين تُظهر الاضطراب المتمثل في واقع اليوم؟!

أما من حيث التوازي الشعريّ؛ فإن الشاعر كان موفَّقاً في اختيار حرف اللام لقافيته؛ لما فيه من ثقلٍ ينسجم مع النَّصَب الذي يجب أن يُبذل من أجل قطف ثمار المجد، هذا من جهة، ويتَّسق مع حالة الركود التي يعيشها أبناء الأمة من جهة أخرى؛ ولتأكيد ذلك؛ لننظر في الكلمات التي ختم بها الشاعر أبياته: "النوازل، مخاتل، المتخاذل، قلاقل، المعاول، المتشاغل". وهذه إشارات يسيرة تحتاج إلى وقوف مع النص كاملاً، لبيان القدرة الفنية على تقديم المعاني بطرق جديدة.





وبعد: فلابد أن يكون للغموض حضورٌ في الأعمال الإبداعية، على أن يكون على درجة من الوعي من قِبَل المبدع؛ يحرك به متلقِّيه، ويوجِّهه إلى التبصُّر في المعاني؛ كي لا يصرفه عنها إلى دوائر الغموض الْمُبْهِم، وإلى التحليل والتوقعات التي - في كثير من الأحيان - لا يفهمها كاتبها ولا مبدع النص نفسه؛ كما هي الحال في بعض المذاهب النقدية الحديثة؛ كالرمزية والسريالية!!.




ومن هنا: فثمة تناغم بين المعنى المقدَّم في الأدب الإسلامي، والأسلوب الذي غُلِّف به، والوضوح في هذا النمط الأدبي وضوحٌ محبَّب، ينسجم مع الرؤية العربية للأدب منذ فجره الأول؛ حيث إنه ليس وضوحاً مكشوفاً كما يدَّعي بعضهم، بل هو وضوح قريب من الروح العربية، التي تتعشَّق الشعر تعشُّقها الحياة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 17.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 16.54 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (3.62%)]