عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 07-12-2020, 03:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,562
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (14)
صـ218 إلى صـ 238

فصل

هذا وجه من النظر مبني على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق .

ولمدع أن يدعي اتفاق أحكامها ، وإن اختلفت بالكلية والجزئية .

أما في المباح ; فمثل قتل كل مؤذ ، والعمل بالقراض ، والمساقاة ، وشراء العرية ، والاستراحة بعد التعب ، حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب والتداوي ، إن قيل : إنه مباح ; فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من [ ص: 217 ] فعلها ولا من تركها إثم ، ولا كراهة ، ولا ندب ، ولا وجوب ، وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا فهو كما لو فعلوه كلهم .

وأما في المندوب فكالتداوي إن قيل بالندب فيه ; لقوله عليه السلام : تداووا ، وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية ; لقوله : إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ; فإن هذه الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها ، ولا ممنوعا ، وكذلك لو فعلها دائما .

[ ص: 218 ] وأما في المكروه ; فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ ، والاستجمار بالحممة والعظم ، وغيرهما مما ينقي ; إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن ، فليس النهي عن ذلك نهي تحريم ، ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ، ولا يؤثم ، وكذلك البول في الجحر ، واختناث الأسقية في الشرب ، وأمثال ذلك كثيرة .

[ ص: 219 ] وأما في الواجب والمحرم ، فظاهر أيضا التساوي ; فإن الحدود وضعت على التساوي ، فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة ، وقاذف الواحد كقاذف الجماعة ، وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس ، في إقامة الحدود عليهم ، وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك ، وما أشبه ذلك .

وأيضا ; فقد نص الغزالي على أن الغيبة أو سماعها ، والتجسس ، وسوء الظن ، وترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأكل الشبهات ، وسب الولد والغلام ، وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة ، وإكرام السلاطين الظلمة ، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين - جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها ; لأنها غالبة في الناس على الخصوص ، كما كانت الفلتات في غيرها غالبة ; فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات ، فإذا ثبت هذا ; استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية .

ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل .

[ ص: 220 ] أما الأول ; فإن الكلي والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال ، والمكلفين ، ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس ، خف الخطب ، فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك ، داخلهم الحرج من وجوه عدة ، والشرع طالب لدفع الحرج قطعا ، فصار الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد ، فيكون الفعل إذا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا ، وهكذا العمل بالقراض ، وما ذكر معه ؛ فلا استواء إذا بين الكلي والجزئي فيه ، وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك ; لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعي ، وناهيك به ، نعم قد يسبق ذلك النظر إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي ، وأما إذا تباعد ما بينهما فالواقع ما تقدم ، ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه .

وأما ما ذكره في الواجب والمحرم فغير وارد ; فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر ، وإن اتفقت في بعض ، وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة ، وإن سلم ففي العدالة وحدها لمعارض راجح ، وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة ; فتعذرت الشهادة .
[ ص: 221 ] فصل

إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة فقد يطلب الدليل على صحتها ، والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير ، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها ، ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر ، فيدل على ذلك جمل ، منها : ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان مما لا يجرح به لو لم يداوم عليه ، وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة ، ولولا أن للمداومة تأثيرا ، لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه ، وما لم يداوم عليه من الأفعال ، لكنهم اعتبروا ذلك فدل على التفرقة ، وأن المداوم عليه أشد ، وأحرى منه إذا لم يداوم عليه ، وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية ، وهذا المسلك لمن اعتبره كاف .

- ومنها : أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق ، وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات ; إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها ، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك ، بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد كالحكم بالشهادة ، وقبول خبر الواحد مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد ، لكن الغالب الصدق ، فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات ، ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق ، ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم ، ولاطرح الظن بإطلاق ، وليس كذلك ; ، بل حكم بمقتضى ظن الصدق ؛ وإن برز [ ص: 222 ] بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن ، وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية في حكم الكلية ، وهو دليل على صحة اختلاف الفعل الواحد بحسب الكلية والجزئية ، وأن شأن الجزئية أخف .

- ومنها : ما جاء في الحذر من زلة العالم ، [ فإن زلة العالم ] في علمه أو عمله ، - إذا لم تتعد لغيره - في حكم زلة غير العالم ، فلم يزد فيها على غيره ; فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها ، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ، ولم تتعد إلى غيره ; فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول ; فصارت عند الاتباع عظيمة جدا ، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به ، ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه ; إن صالحا فصالح ، وإن طالحا فطالح ، وفيه جاء : من سن سنة حسنة أو سيئة ، و إن نفسا لا تقتل ظلما ; إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ; لأنه [ ص: 223 ] أول من سن القتل ، وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب ، وإن كانت في نفسها صغيرة ، والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها ، وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية ، وهو المطلوب .
المسألة الثالثة

المباح يطلق بإطلاقين : أحدهما : من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك .

والآخر من حيث يقال : لا حرج فيه ، وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام :

[ ص: 224 ] أحدها : أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل .

والثاني : أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك .

والثالث : أن يكون خادما لمخير فيه .

والرابع : أن لا يكون فيه شيء من ذلك .

فأما الأول ; فهو المباح بالجزء ، المطلوب الفعل بالكل ، وأما الثاني : فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل ، بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها ، وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني .

ومعنى هذه الجملة ; أن المباح - كما مر - يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما ، والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك ; كترك [ ص: 225 ] الدوام على التنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ; فإن ذلك هو المطلوب ، وقد يكون في طرف الفعل ; كالاستمتاع بالحلال من الطيبات ; فإن الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف - مطلوب ، من حيث هو خادم لمطلوب ، وهو أصل الضروريات بخلاف المطلوب الترك ; فإنه خادم لما يضادها ، وهو الفراغ من الاشتغال بها ، والخادم للمخير فيه [ ص: 226 ] على حكمه .

وأما الرابع : فلما كان غير خادم لشيء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء ، فصار مطلوب الترك [ أيضا ] ; لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا ، فهو إذا خادم [ لمطلوب الترك فصار مطلوب ] الترك بالكل ، والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له ; فصار مطلوب الترك أيضا .

وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق ، وإنما هو مباح بالجزء خاصة ، وأما بالكل ; فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك .

فإن قيل : أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين ؟

[ ص: 227 ] فالجواب أن لا ; لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه ، من غير اعتبار أمر خارج ، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه ، فإذا نظرت إليه في نفسه ; فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء ، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة ; فهو المسمى بالمطلوب بالكل ، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس ، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه ; فلا قصد له في أحد الأمرين ، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك ; ، وهو - من جهة ما هو وقاية للحر والبرد ، وموار للسوأة ، وجمال في النظر - مطلوب الفعل ، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ، ، ولا بهذا الوقت المعين ، فهو نظر بالكل لا بالجزء .
المسألة الرابعة

إذا قيل في المباح : إنه لا حرج فيه - وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين - ; فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك ; لوجوه : أحدها : أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة ؛ فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك ; كقوله تعالى : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] .

وقوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] .

[ ص: 228 ] وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا [ البقرة : 58 ] .

والآية الأخرى في معناها ; فهذا تخيير حقيقة .

وأيضا ; فالأمر في المطلقات - إذا كان الأمر للإباحة - يقتضي التخيير حقيقة كقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] .

فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .

كلوا من طيبات ما رزقناكم [ الأعراف : 160 ] .

وما أشبه ذلك ; فإن إطلاقه - مع أنه يكون على وجوه - واضح في التخيير في تلك الوجوه إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك .

وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا ، بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح ; كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها ; فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه ، وجاء : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها [ الجمعة : 11 ] ، وهو الطبل أو ما في معناه ، وقال تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] .

وما تقدم من قول بعض الصحابة : حدثنا يا رسول الله - حين ملوا ملة - ; فأنزل الله عز وجل : الله نزل أحسن الحديث [ الزمر : 23 ] .

وفي الحديث : كل لهو باطل .

[ ص: 229 ] وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجتمع مع التخيير في الغالب فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة ، أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال ، فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر ، وما سكت عنه فهو عفو أي مما عفي عنه ، وهذا إنما يعبر به في العادة ، [ ص: 230 ] إشعارا بأن فيه ما يعفى عنه ، أو ما هو مظنة عنه ، أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات .

وحاصل الفرق أن الواحد صريح في رفع الإثم والجناح ، وإن كان قد يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به ، إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة ، وأما الإذن فمن باب " ما لا يتم الواجب إلا به " أو من باب " الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا " ، " والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده أم لا " ، والآخر صريح في نفس التخيير ، وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل ; فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة ، وأما رفع الحرج ; فمن تلك الأبواب .

والدليل عليه أن رفع الجناح قد يكون مع الواجب ; كقوله تعالى : [ ص: 231 ] فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] .

وقد يكون مع مخالفة المندوب كقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] .

فلو كان رفع للجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك ؛ لم يصح مع الواجب ، ولا مع مخالفة المندوب ، وليس كذلك التخيير المصرح به ; فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك ، ولا مندوبا ، [ وبالعكس ] .

والثاني : أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك ، وأنهما على سواء في قصده ، ورفع الحرج مسكوت عنه ، وأما لفظ رفع الجناح ; فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف ، وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه ، فيمكن أن يكون مقصودا له ، لكن بالقصد الثاني كما في الرخص ; فإنها راجعة إلى رفع الحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر ، وبالعكس ، فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع لا حرج فيه ، فلا يؤخذ منه حكم الإباحة ; إذ قد يكون كذلك ; وقد يكون مكروها ; فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه ; فليتفقد هذا في الأدلة .

والوجه الثالث : مما يدل على أن ما لا حرج فيه غير مخير فيه على [ ص: 232 ] الإطلاق ، أن المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل ، صار خارجا عن محض اتباع الهوى ، بل اتباع الهوى فيه مقيد ، وتابع بالقصد الثاني ، فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل ، فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء ، ولما كان مطلوبا بالكل وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه ، وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات ، والقصد إليها في التكاليف ; فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه ، ولا هو مضاد له ، بل هو مؤكد له ; فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي ، فلا ضرر في اتباع الهوى هنا ؛ لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء ، وإنما اتباع الهوى فيه خادم له .

وأما قسم ما لا حرج فيه ; فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم ، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة ، لكنه لقلته وعدم دوامه ، ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه ; لم يحفل به ، فدخل تحت المرفوع الحرج ; إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا ، وإن كان فتحا لبابه في الجملة ، فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي ، حتى يجتمع مع غيره من جنسه ، والاجتماع مقو ، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه ، وهو المضاد للمطلوب فعله ، وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول تحت كلي أمر ، اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون [ ص: 233 ] مخيرا فيه ; فتصريح بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى ، وأنه مضاد للشريعة ، [ والله أعلم وبه التوفيق ] .
المسألة الخامسة

إن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط ; فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر ، والدليل على ذلك أن المباح كما تقدم هو : ما خير فيه بين الفعل والترك ، بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام ، فهو إذا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ، ولا حاجي ، ولا تكميلي من حيث هو جزئي ، فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة ، وكذلك المباح الذي يقال : " لا حرج فيه " أولى أن يكون راجعا إلى الحظ ، وأيضا ; فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري أو حاجي أو تكميلي ، وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه ، فما خرج عن ذلك فهو مجرد نيل حظ ، وقضاء وطر .

فإن قيل : فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك ، وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف ؟ ، ولعل [ ص: 234 ] بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ ، كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ .

فالجواب أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد ؛ فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه ، لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض ; غير أن الحظ على ضربين :

أحدهما : داخل تحت الطلب ، فللعبد أخذه من جهة الطلب ، فلا يكون ساعيا في حظه ، وهو مع ذلك لا يفوته حظه ، لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه ، وهذا معنى كونه بريئا من الحظ ، وقد يأخذه من حيث الحظ ; إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب ، فطلبه من ذلك الوجه - صار حظه تابعا للطلب ، فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ ، وسمي باسمه ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق .

والثاني : غير داخل تحت الطلب ; فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره ; لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض ، فهو قد أخذه إذا من جهة حظه ، فلهذا يقال في المباح : إنه العمل المأذون فيه ، المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة .
المسألة السادسة

الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال ، والتروك بالمقاصد ، فإذا عريت عن المقاصد ; لم تتعلق بها ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : ما ثبت من أن الأعمال بالنيات ، وهو أصل متفق عليه في [ ص: 235 ] الجملة ، والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع ، ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال ; إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة ، أما في غير ذلك ; فالقاعدة مستمرة ، وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد ; كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات ، والجمادات ، والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ، ولا سمعا ، فكذلك ما كان مثلها .

والثاني : ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون ، والنائم ، والصبي ، والمغمى عليه ، وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها : جائز أو ممنوع أو واجب أو غير ذلك ; كما لا اعتبار بها من البهائم .

وفي القرآن وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] .

وقال : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] .

قال : قد فعلت .

[ ص: 236 ] وفي معناه روي الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وإن لم يصح سندا ; فمعناه متفق على صحته .

[ ص: 237 ] وفي الحديث أيضا : رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم ، والمغمى عليه حتى يفيق ; فجميع هؤلاء لا قصد لهم ، وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم .

والثالث : الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة ، وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق .

فإن قيل : هذا في الطلب ، وأما المباح فلا تكليف فيه ، قيل : متى صح تعلق التخيير ، صح تعلق الطلب ، وذلك يستلزم قصد المخير ، وقد فرضناه غير قاصد ، هذا خلف .

ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال ، والمجانين ، وغير ذلك ; لأن هذا من قبيل خطاب الوضع ، وكلامنا في خطاب التكليف ، ولا [ ص: 238 ] بالسكران ; لقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] ; فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه ، ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون ، وفي سواهما ، لما أدخل السكر على نفسه ; كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفية ; فعومل بنقيض المقصود ، أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة ، فصار استعماله له تسببا في تلك المفاسد ، فيؤاخذه الشرع بها ، وإن لم يقصدها كما وقعت مؤاخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما ، وكما يؤاخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب ، وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم ، ونظائر ذلك كثيرة ، فالأصل صحيح ، والاعتراض عليه غير وارد .
[ ص: 239 ] المسألة السابعة

المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الاعتبار المتقدم ، وجدته خادما للواجب ; لأنه إما مقدمة له ، أو تكميل له ، أو تذكار به ، كان من جنس الواجب أولا .

فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها ، ونوافل الصيام ، والصدقة ، والحج ، وغير ذلك مع فرائضها ، والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد ، والثوب ، والمصلى ، والسواك ، وأخذ الزينة ، وغير ذلك مع الصلاة ، وكتعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام ، وما أشبه ذلك .

فإذا كان كذلك ; فهو لاحق بقسم الواجب بالكل ، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء ، ويحتمل هذا المعنى تقريرا ، ولكن ما تقدم مغن عنه بحول الله .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.07 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.86%)]