عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 24-09-2021, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظاهرة المنصفات في الشعر العربي القديم

والأبيات كلها مدح في خصمه، وإعجاب بشجاعته، ولها قصة طريفة[18] وردت في ديوان دريد. إذن فالقصة والأبيات ذات موقف معين، ألزمت دريدا بالإنصاف، وذكر مناقب عدوه من إظهار شجاعته، وشدة بأسه. لكن السؤال هنا هل شعر دريد كله فيه إنصاف كما هو موجود في الأبيات السابقة؟ لا نستطيع أن نجزم بأن شعره عار من الإنصاف، فقوله في قصيدة رثى بها أخاه (الطويل):
فَمَا رِمْتُ حَتّى خَرّقتني رِمَاحُهُمْ
وَغُودِرْتُ أكْبُو في القَنَا المُتَقَصِّدِ[19]



ينم عن شاعر منصف لم يترك لخصمه ميزة إلا ذكرها، وألقى عليها الضوء، كاشفا عن ميزاته. وله في نفس القصيدة التي رثى بها أخاه معنى يغاير الإنصاف وهو قوله[20](الطويل):
وَمَا أَنَا إِلا مِنْ غَزِيّةَ إنْ غَوَتْ
غويتُ وإنْ ترْشُدْ غَزِيةُ أرشدِ



والمعنى أنه تابع لقبيلته في حالتي الهداية والضلال فإن بغتْ بغى معها، وإن اهتدتْ اهتدى معها أيضا، فأمره راجع إلى قبيلته في العدل والظلم، في الحق والباطل. ومثل هذا المعنى كثير في القصيدة الجاهلية ولدى معظم شعرائها.

إذن، لم يكن الدافع إلى الإنصاف دافعا جماعيا نابعا من توجه جماعي؛ بل اتسم الإنصاف في الجاهلية بالتوجه الفردي، وبناء على الموقف الذي يوضع فيه الشاعر. والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحتاج إلى بيان، حتى مع عنترة بن شداد الذي عرف عنه الفتك وشدة البطش بأعدائه؛ فعنترة له أبيات تعد نموذجا للإنصاف، فقد نسب إلى خصمه صفات وخصالا تماثل ما نسبه إلى قبيلته من عبس، ولم يترك شيمة من شيم الرجال الصناديد إلا ونسبها لخصمه، فقال[21](الطويل):
فلم أرَ حيّاً صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا
وَلا كَافَحُوا مِثلَ الذينَ نُكَافِحُ

إِذا شِئتُ لاقاني كَميٌّ مُدَجَّجٌ
عَلى أَعوَجِيّ بِالطِعانِ مُسامِحُ

وأقبل صفّانا وفي عارضيهما
جنيّ تُرى فيه البروق اللوامحُ

إِذا أَقْبَلُوا في السَّابِغاتِ حَسِبتَهُم
سُيولاً إذَا جَاشَتْ بِهِنَّ الأبَاطحُ

كأنَّ القَنَا الخطِّيَّ فِينَا وفيهمُ
شَوَاطنُ بئرٍ هَيَّجَتْهَا المَوَاتِحُ

وثَمَّ فَرَقْنَا بالرّمَاحِ ولمْ يَكُنْ
هُنَالِكَ في جَمْعِ الفَرِيقَينِ رَامِحُ

وَدُرْنَا كَمَا دَارَتْ عَلَى قُطْبِهَا الرَّحَى
وَدَارَتْ عَلَى هَام الرِّجَالِ الصَّفَائحُ





ثانيا: عصر صدر الإسلام
ينطلق الشعراء المنصفون في عصر صدر الإسلام والعصور التي تلته من مفهوم الإسلام لإنصاف الخصم؛ فضلا عن إرثه السابق في العصر الجاهلي، فقد كان الإسلام مصدرا مهما لهؤلاء الشعراء. وموضوع حقوق الخصم أثناء الخصومة تلخصه الآية القرآنية الكريمة ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَï´¾ [22] وهذه الآية الكريمة توضح أن منهج القرآن الكريم هو منهج العدل والإنصاف حتى مع أعدائه من الذين كفروا بنعمة الله، ويدعو إلى الإنصاف والعدل لأن هذا المنهج هو أقرب للتقوى، وأكثر خشية الله.


والمتأمل لأسلوب القرآن الكريم مع أعدائه غير المسلمين يتضح له في جلاء أن القرآن الكريم احترم خصومه، ولم يبخس حقوقهم، وأظهر كل ميزة كانت لهم، ولم يصغر من فضيلة فيهم، "فما من عدو فردا أو جماعة تحدث عنه القرآن، وله ميزة أو موقف حسن إلا أبرزه القرآن واضحا، كما تحدث عن ملكة سبأ والملأ من قومها، وبعد أن أكد ضلالهم الديني في عبادتهم الشمس، إذا هو يبرز مزايا هذه الملكة في سياستها والتزامها الشورى في ذلك الماضي السحيق، ثم سداد رأيها وحسن استنتاجها من أحداث التاريخ، وكذلك حسن موقف الملأ من قومها واستطاعتهم الجمع بين الحرص على مصلحة شعبهم والطاعة لولية أمرهم"[23] والأمثلة على إنصاف الخصم في أثناء الخصومة في القرآن الكريم كثيرة كما وضحها في جلاء صاحب كتاب "إنصاف الخصم في القرآن".


وكانت حياته-صلى الله عليه وسلم-مثالا للإنصاف في كل جوانب الحياة، وليست في الحروب فقط،، بل شمل إنصافه مع الله ثم مع زوجاته وأصحابه وأهل بيته، ومع المسلمين جميعا وغير المسلمين أيضا، فقد لقي رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم-نفرٌ من المسلمين يهنئونه بما فتح الله عليه في بدر فقال لهم سلمة بن سلامة: ما الذي تهنئوننا به ؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة، فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أي ابن أخي. أولئك الملأ. قال ابن هشام الملأ الأشراف والرؤساء[24]. فلم تمنع الخصومةُ رسولَ-الله صلى الله عليه وسلم-من الاعتراف بحقهم في السيادة والشرف.


وأما عن الشعر المنصف في عصر صدر الإسلام فقد سكتت كتب الأدب القديم عن معظم هذا الشعر، وانفردت به كتب التاريخ، والمغازي، والسير، والفتوح، حيث تكشف حروب المسلمين مع خصومهم عن صفة جديرة بالاحترام والتقدير، وهذه الصفة هي إنصاف الخصوم وإظهار كل ميزة كانوا يمتازون بها، ولم تبخل قرائحهم بطمس معالم هذه الصفة النبيلة، استنادا إلى فهمهم لكتاب الله العظيم، وسنة نبيهم الكريم، وتتجلى هذه الصفة في شعر الحروب التي خاضها المسلمون ضد الكفار، أو الحروب التي خاضها المسلمون ضد الفرس والروم في شعر الفتوح الإسلامية، ولا أود أن أسترسل في أسباب هذه الحروب ودوافعها، وإنما يهمنا ملامح الإنصاف في شعر المسلمين، وغير المسلمين من شعراء هذه الحقبة الزمنية. وأثر ذلك على سلوكهم. ففي غزوة بدر يقول حسَّانُ بن ثابت-رضي الله عنه-(الوافر):
غداةَ كأنَّ جَمْعَهُمُ حِرَاءٌ
بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنحَ الغُرُوبِ

فلاقَينَاهمُ مِنَّا بجَمْعٍ
كأُسْدِ الغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.85%)]