الموضوع: قهر الحرمان
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 28-02-2020, 10:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي قهر الحرمان

قهر الحرمان
أحمد عبداللطيف النجار


آه من الحرمان ولهفي على المحرومين، فمن الصعب على النفس الإنسانية أن تواجه الحرمان من العطف والحنان من أقرب الناس إليها، ومن الصعب أيضا ان تقهر ذلك الحرمان وتقاومه فلا تستسلم له استسلام العاجزين، والأكثر صعوبة أن ترد الإساءة بالإحسان!
صاحبي عبدالغفار عاش كثيرًا من ويلات الحرمان لكنه لم يستسلم له، جاءني ذات ليلة باسمًا، قرير العين مرتاح الضمير يقول:
نشأت في أسرة مفككة لانفصال الأبوين وسرعان ما فقدت حنان أمي التي كنت أعيش في كنفها بعيدًا عن أبي، والتي لقيت ربها بعد عناء طويل مع المرض الذي أصابها بسبب جحود أبي لنا وتقتيره علينا، وفي المقابل يعيش حياة مترفة مع زوجته الثانية وابنه المدلل منها، هكذا وجدت نفسي وأنا صغير السن بلا عائل ولا راع ولا سند، فاضطررت إلى استعطاف أبي كي يضمني إلى بيته وأسرته أعيش مع زوجته وأبنائه، وضمني أبي بالفعل إلى اسرته كارهًا، ووجدتني أعيش في بيت أبي مواطنًا من الدرجة العاشرة، بل كانت منزلتي أقل من منزلة الخدم وشعرت بالقهر والهوان وعشت في عزلة تامة وسط أهلي، وتحملت أقداري راضيًا بقضاء الله وقدره لكي استطيع مواصلة تعليمي، وسألت نفسي ذات ليلة هل كنت أتوقع من زوجة الأب أن تكون أما حقيقية لي أو أن تكون لي منزلة الابن المدلل لديها؟!، وكانت الإجابة على تساؤلي معروفة، بالطبع لا!
إذن يجب علي أن أنسجم مع أقداري التي فرضت علي ولأحاول أن أتكيف مع عالمي الذي أعيش فيه حتى تهون علي مرارة الحياة، وهكذا تحملت ظروفي وتعايشت مع هؤلاء الغرباء مقابل لقمة العيش، وبحثت حولي عن أصدقاء من أبناء الجيران وزملاء الدراسة، ووضعت همي في دراستي بالحيلة، فقد كنت أتحايل لأجد الوقت الكافي لمذاكرة دروسي وأداء واجبات الخادم المنزلية دون أي تقصير، وتحاشيت بقدر الإمكان أن أعطي زوجة أبي أي سبب للشكوى مني أو الزعم بأنني لا أقوم بما هو مطلوب من أعمال الخدمة المنزلية بكل أشكالها، ووفقني المولى عز وجل إلى النجاح في الدراسة بلا أي تعثر ولا دروس خصوصية، وكنت حريصا على أن أعمل أي عمل إضافي خارج المنزل في اجازة صيف السنة الأولى الإعدادية وأدخر ما أتقاضاه من أجر لأنفق منه على دراستي ومصروفي الشخصي في العام الدراسي التالي، وكلما نجحت في امتحان آخر السنة شعرت أنني اقتربت خطوة نحو الخلاص، وكلما تفوقت في دراستي ازداد سوء معاملة زوجة أبي لي وحقدها عليّ خاصة كلما رسب أحد أبنائها أو تعثر!
حتى إنها فقدت السيطرة على نفسها ذات مرة قبل امتحان الإعدادية وثارت ثورة عارمة عليّ ومزقت كل كتبي المدرسية وألقتها في المجاري بدعوى تقصيري في واجباتي كخادم للأسرة!
تحملت كل تلك القسوة واستعرت كتب زملائي في المدرسة واحدًا بعد الآخر لكي استعد لدخول الامتحان، ونجحت بحمد الله والتحقت بالمدرسة الثانوية وواصلت الكفاح والتحمل والصبر حتى بلغت الثانوية العامة وبدأت امتحانها فلم تحتمل زوجة أبي أكثر من ذلك، وبدأت تتصيد لي الأخطاء وأصرت على طردي من البيت لكي أعجز عن مواصلة الامتحان، والله يا أخي بكيت يومها بالدموع الغزيرة لأبي ولها كي ترحمني وتتركني أؤدي بقية الامتحان وطلب مني أبي أن استرضيها وأن أقبل قدميها حتى رضيت في النهاية وتركتني! وظهرت نتيجة الامتحان ونجحت بفضل الله وفعلت المستحيل كي يوافق أبي على أن ألتحق بالجامعة، ولم يستطع أبي الوقوف في طريقي خاصة أنني أعمل في الصيف ولا أكلفه أي مصاريف فوق طاقته، وواصلت العمل أثناء دراستي الجامعية حتى تخرجت وحصلت على شهادتي الجامعية، وساعدني بعض الأشخاص الطيبين على العمل فعملت وبذلت كل طاقتي في عملي وأنا أشعر بأنني أخيرًا قد تحررت من ذل العبودية والخدمة في بيت زوجة أبي، ومضت أيام عمري بخيرها وشرها وتقدمت في عملي حتى وصلت إلى مركز مرموق، ورغم كل ما حدث لم أقطع صلتي بأسرة أبي ولا بإخوتي منه، لكني فقط أتعجب لفشلهم جميعًا في استكمال دراستهم العالية رغم كل ما توفر لهم من رعاية وتدليل وامكانات!
وفجأة رحلت زوجي أبي عن الحياة (سامحها الله) وابتعد أبي عن أبنائه منها وشغل بدنياه الخاصة، وتفرق الأبناء في شتى البلاد يسعون وراء الرزق في مدن بعيدة، ولكني والحمد لله لم أشعر تجاه أحدهم بالشماتة أو بالحقد لأنني أراهم ضحايا تدليل الأبوين وجهلهما وبعدهما عن روح الدين الإسلامي الرحيم، بينما كنت أنا ضحية القسوة وعدم العدل، لكل ذلك لم أقطع رحمي بأحد منهم ولم أتردد في مساعدة من يحتاج منهم للمساعدة.
-آه يا صديقي على الحرمان ولهفي على المحرومين وما أكثرهم في ديار الإسلام العظيم دين المحبة والتسامح والرحمة، لقد قاسى حبيبي رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أشد مما قاسيت، لكنه توكل على خالقه بفطرته السليمة النقية وواجه الحياة يتيمًا وحيدًا ترعاه عناية الله، تمامًا كما فعلت أنت واقتديت به فاعتدت التفكير العقلاني الواقعي منذ الصغر، منذ أرغمت نفسك على قبول واقعك المؤلم في بيت أبيك والرضا به، وقد فسرت أنت نفسك ذلك بالحوار الداخلي تفسيرًا عقلانيًا بأنه من غير المنتظر أن تكون زوجة أبيك أما حقيقية لك وأن تكون لديها الابن المدلل! مع أنه هناك الكثيرات من زوجات الآباء المحترمات الرحيمات اللاتي يرعين حدود ربهن في معاملة أبناء أزواجهن خاصة إذا كانوا يتامى مثلك، وأنا أعرف منهن شخصيًا الكثيرات، لكن بكل أسف لكل قاعدة شواذ، على كل حال كان تفكيرك العقلاني خير عون لك على احتمال أوضاعك القاسية ومحاولة النجاة منها باجتهادك في دراستك واتخاذ الأصدقاء المخلصين خارج دائرة الأهل.
في الواقع كانت فلسفة صاحبي عبدالغفار رائعة في انتقامه ممن ظلموه بنجاحه في دراسته واستقلاله بنفسه بالعمل ثم بصلة رحمه لإخوانه الذين لا ذنب لهم جنوه غير انهم أبناء زوجة أب قاسية القلب، فأنت بذلك يا عزيزي طبقت بغير وعي منك وأنت حدث صغير أحدث ما ينصح به علماء النفس والتربية لمن يواجهون ظروفًا حياتية ظالمة تهدد بتعثرهم وحرمانهم من فرصهم العادلة في حياة كريمة، فخير وسيلة للانتقام ممن ظلمونا وأساءوا إلينا هي أن نتحدى ظروفنا ونستمد من عنت الآخرين معنا قوة حقيقية لتحقيق نجاحنا الشخصي في الحياة، والأعجب من ذلك أن من ينتقمون لأنفسهم بالنجاح ممن حاولوا زرع الفشل في طريقهم يجدون أنفسهم غالبًا بعد أن يصلوا إلى بر الأمان أكثر استعدادًا للتسامح مع من ظلموهم، وتفسير ذلك هو أنهم ربما يكونوا قد اعتادوا خلال رحلة الكفاح ألا يتوقفوا أمام صغائر الأمور وأحقاد النفس البشرية وألا يستسلموا للمشاعر السلبية العاجزة، إنهم يفضلون استخدام طاقتهم النفسية والروحية فيما يحقق لهم ولغيرهم الخير والسلام، تلك هي النفوس النورانية الشفافة المملوءة بنور الإيمان والحب والخير لكل البشر.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.32%)]