عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 26-09-2020, 06:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي شُمولية السُّنة النبوية

شُمولية السُّنة النبوية













د. محمود بن أحمد الدوسري




الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد:



فإنَّ المتأمل في الشريعة الإسلامية عامة، وما جاء في السنة النبوية بصفة خاصة يلحظ أنها أتت بكلِّ ما يحتاجه الإنسان؛ في العبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية، والحدود والجنايات، وما يتعلق بها من ضروريات، وحاجيات، وتحسينات، وكماليات، بصورة منقطعة النظير، أذهلت العالم كافة، حيث وجدت فيها القواعد والأصول والكليات زاهية شامخة ثابتة، يُستفاد منها في كبير المسائل وصغيرها، من خلال ما يطبقه العلماء من اجتهاد في الأحكام على الوقائع والنوازل على تنوعها، مراعين في ذلك تغيُّر الأزمنة والأمكنة، والأحوال والعوائد والنيات.







والسنة النبوية قد جاءت مُعبِّرةً عن القرآن الكريم بشموله واتِّساعه لكلِّ الجوانب التي يحتاجها الإنسان في الحياة، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، كما جاءت السنة استجابةً لمستجدات الحياة وتطوُّرِها، فلا تكاد تشعر بالعَوَز أو الافتقار إلى ما يُمكِّن الإنسان من الحياة وفق المنهج الإسلامي والتشريع الرباني، رغم كون النصوص ثابتة لم تتغيَّر، واللغة واحدة لم تتبدَّل، وهذا الاستيعاب وذلك الشمول من مظاهر عظمة السنة النبوية.







معنى الشمول: الشمول: هو العموم، والاستيعاب، والإحاطة بأمرٍ ما، وعلى هذا الأساس جاءت السنة النبوية بشمولها لجميع المصالح الدنيوية والأخروية، والفردية والجماعية، فهي لا تعرف الدنيا بدون الآخرة، ولا الآخرة بدون الدنيا، فهي تسلك مسلك الموازنة بين هذا كلِّه؛ لأنها وُضِعَت لمصالح العباد، وواضعها هو خالقهم وربُّهم: ﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، فهو أعلم بأحوالهم ومصالحهم.







وهذه "الرسالة الخاتمة" اتسعت جوانب الشمول الإسلامي، وامتدت طولاً وعرضاً وعمقاً حتى استوعبت جميع الأفراد والأمم، وقررت كلَّ طيِّب من المبادئ والنُّظم، وتوجهت بالخطاب الأعلى لكل الأزمنة والأمكنة، مع غاية التبيان في الخطاب، وقوة الحجة، وصحة الدليل والبرهان[1].








أدلة شمول السنة النبوية: من أدلة شمول السنة النبوية ما يلي:



1- عن سَلْمَانَ رضي الله عنه قال: قِيلَ له: (قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حتى الْخِرَاءَةَ، فقال: أَجَلْ)[2].








2- وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (ما بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ إِلاَّ وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ)[3].








3- وقال أبو ذَرٍّ رضي الله عنه: (لقد تَرَكَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَتَقَلَّبُ فِي السَّمَاءِ طَائِرٌ إِلاَّ ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْماً)[4].








4- وفي رواية: (تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائِرٌ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ عِنْدَنَا مِنْهُ عِلْمٌ[5])[6].








5- من أقوى الأدلة على شمول السنة واتِّساعها هو المواكبة والتواؤم العجيب والغريب - والذي لا يمكن أن يصدر إلاَّ من نبيِّ مُوحَى إليه، ورسول معصوم - بين الحاجات الإنسانية والبشرية في التشريع وما يقتضيه التطور والعمران وبين ما جاء في السنة سواءً القولية والفعلية؛ إذ لا يُمكن أنْ تُلِحَّ الحاجةُ إلى مسألةٍ من المسائل أو قضيةٍ من القضايا ذات ارتباطٍ بالمنهج والشرع إلاَّ ولها ما يدل عليها، ويُرشِد إليها، ويقضي فيها من السنة الواضحة الظاهرة أو من خلال قواعدها العامة، ومقاصدها العظمى، والتي يستنبطها العلماء بما أُوتوا من علمٍ ومَلَكَةٍ على الاستنباط والقياس.








فهذا العنصر من أقوى العناصر التي تدل على شمول السنة واستيعابها، وهو عنصر محترم بلا شك، إذ يُعلي من شأن العقل ويُقَرِّر ملكة الفكر، والتي بهما ميِّز الله الإنسان على الحيوان وكرَّمه.








قال ابن القيم - رحمه الله: (فصلٌ في تغيُّر الفتوى واختلافها بحسب تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: "بناء الشَّرِيعَةُ على مَصَالِحِ الْعِبَادِ في المعاش والمعاد".








هذا فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ جِدًّا، وَقَعَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ على الشَّرِيعَةِ، أَوْجَبَ من الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَتَكْلِيفِ ما لاَ سَبِيلَ إلَيْهِ ما يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْبَاهِرَةَ التي في أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ لاَ تَأْتِي بِهِ؛ فإنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا على الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ في الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عن الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى العبث، فَلَيْسَتْ من الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فيها بِالتَّأْوِيلِ، فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بين عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بين خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ في أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عليه وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَتَمَّ دَلاَلَةً وَأَصْدَقُهَا.








وَهِيَ نُورُهُ الذي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الذي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الذي بِهِ دَوَاءُ كلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الذي مَن اسْتَقَامَ عليه فَقَدْ اسْتَقَامَ على سَوَاءِ السَّبِيلِ، فَهِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ الأَرْوَاحِ؛ فَهِيَ بها الْحَيَاةُ وَالْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ، وَكُلُّ خَيْرٍ في الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هو مُسْتَفَادٌ منها، وَحَاصِلٌ بها، وَكُلُّ نَقْصٍ في الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ من إضَاعَتِهَا، وَلَوْلاَ رُسُومٌ قد بَقِيَتْ لَخَرِبَتْ الدُّنْيَا، وَطُوِيَ الْعَالَمُ.









وَهِيَ الْعِصْمَةُ لِلنَّاسِ وَقِوَامُ الْعَالَمِ، وَبِهَا يُمْسِك اللَّهُ السماواتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، فإذا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَرَابَ الدُّنْيَا وَطَيَّ الْعَالَمِ رَفَعَ إلَيْهِ ما بقي من رُسُومِهَا، فَالشَّرِيعَةُ التي بَعَثَ اللَّهُ بها رَسُولَهُ هِيَ عَمُودُ الْعَالَمِ، وَقُطْبُ الْفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)[7].








آفاق "الشمول" في السنة النبوية:



تعددت جوانب الشمول في السنة النبوية، واتسعت آفاقه في هذه "الرسالة الخاتمة"، التي أراد الله تعالى لها أن تكون خطابه الدائم إلى يوم القيامة، وحُجَّته الممدوة في حياة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.



ويتمثل ذلك في ثلاثة جوانب:



1- الشمول الظرفي: (المكان والزمان).



2- الشمول الشخصي: (الأفراد والجماعات).



3- الشمول التشريعي: (المبادئ والأحكام).








أولاً: الشمول الظرفي: وهذا يعني: أنَّ السنة النبوية خطابٌ موجَّه لكلِّ البقاع في الأرض، ولكلِّ الأزمنة منذ بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وهي مرحلة انتهاء التكليف والاختبار في حياة الناس.








ثانياً: الشمول الشخصي: وهذا يعني: أنَّ السنة النبوية استوعبت جميع الأشخاص العقلاء البالغين في توجيه الخطاب إليهم؛ سواء كانوا أفراداً، أو كانوا جماعات؛ كالأسرة أو القبيلة، أو كانوا شعوباً وأمماً تحكمهم الأعراف والتقاليد في البوادي، أو تحكمهم حكومات في دولة منظمة ذات قوانين. إنَّ كُلَّ مَنْ يدرج على أرض الله مُخاطَب بهذه "الرسالة الخاتمة"، ومكلَّف بها في أيِّ مكان درج، وفي أيِّ زمان وُجِد. ويشهد للشمول "الظرفي" و"الشخصي" للرسالة الخاتمة ما يلي:



أ- ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (فُضِّلْتُ على الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ) وذَكَرَ منها: (وَأُرْسِلْتُ إلى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)[8].







ب- ما جاء عن جَابِر بنِ عبدِ اللَّهِ – رضي الله عنه؛ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي) وذَكَرَ منها: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)[9].







ج- وفي رواية: (كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ)[10]. وشمول "الرسالة الخاتمة" تؤكِّده آيات القرآن الكريم، ومِن أَجْمَع وأصرَح الآيات في ذلك:



أ- قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]؛ فهذا تقرير إلهي حاسم في شمول الرسالة الخاتمة، وأنها موجَّهة للناس جميعاً؛ بدليل التأكيد بلفظ: ﴿ جَمِيعًالرفع أيِّ احتمال أو التباس بأن المراد بالناس بعضهم أو معظمهم أو أهل زمان مخصوص منهم، فأفاد ذلك أن المراد هو جميع العقلاء الذين يصلحون لهذا الخطاب الإلهي التكليفي الشامل.








ب- وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ﴾ [سبأ: 28]. وكلمة: ﴿ كَافَّةً ﴾ تشمل جميع الناس؛ الأحمر والأسود، والعربي والعجمي، فهي جامعةٌ لهم، تكُفُّهم عن الخروج منها، وتُلزِمهم بها[11].







ج- قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. قال الرازي - رحمه الله: (لفظ العَالَمين يتناول جميع المخلوقات، فدلَّت الآية على أنَّه رسولٌ للخَلْقِ عامَّةً إلى يوم القيامة)[12].







ويلاحظ: أن هذه الآيات الكريمة كلَّها مكية نزلت في عهد الضَّعف قبل التمكين، وقبل وجود أيِّ قدرة للجماعة المُسلمة الأُولى على تحقيق هذه القضية، وإنما سبقت في العهد المكي للتأسيس الاعتقادي، وللتأصيل الديني في ذاته، وقد وضَعَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موضِع التطبيق العملي بعد ذلك بسنوات، حين أقام الدولة في المدينة النبوية، ومهَّد الأمور من إبرام صلح الحديبية مع مشركي مكة، والذي كان فتحاً مبيناً؛ كسر الله به حميَّة المشركين في الجزيرة كلِّها، وأزال به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مصدر المؤامرات اليهودية في خيبر، وحينئذٍ أمِنَت الطُّرق فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كُتُبَه إلى ملوك الفرس والروم ومصر وغيرها؛ تحقيقاً وتطبيقاً لمبدأ عالمية الإسلام وعالمية الرسالة الخاتمة، أو شمول الأشخاص أفراداً وجماعات[13].








ثالثاً: الشمول التشريعي: وهو يعمُّ كلَّ ما يحتاجه الناس في شؤون حياتهم؛ إيماناً وأخلاقاً وعبادات ومعاملات، وهناك من الأحاديث الكثيرة المتكاثرة قررت وأكدت هذا الشمول التشريعي الجامع؛ والأصل في هذا "الشمول التشريعي" كثرة شُعب الإيمان، المُنبثق من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمَانُ[14] بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً؛ فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ من الإِيمَانِ)[15].








وعن هذا "الشمول التشريعي" في السنة النبوية يقول ابن حجر - رحمه الله: (إنَّ هذه الشُّعب تتفرَّع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن: فأعمال القلب فيها المعتقدات والنيات: وتشتمل على "أربع وعشرين خصلة": الإيمان بالله، ويدخل فيه: الإيمان بذاته وصفاته، وتوحيده، بأنه ليس كمثله شيء... والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه: المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه: الصلاة عليه، واتِّباع سُنَّته.








والإخلاص، ويدخل فيه: تَرْك الرياء، والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكل، والرحمة. والتواضع، ويدخل فيه: توقير الكبير، ورحمة الصغير، وترك الكِبْر، والعُجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب.








وأعمال اللسان: وتشتمل على "سبع خصال": التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه، والدعاء، والذِّكر، ويدخل فيه: الاستغفار، واجتناب اللغو. وأعمال البدن: وتشتمل على "ثمان وثلاثين خصلة" منها ما يختص بالأعيان، وهي "خمس عشرة خصلة" - وذَكَرَ منها: التَّطهُّر، والعبادات جميعاً...








ومنها ما يتعلق بالأتباع، وهي "ست خصال": التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، واجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم... ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي "سبع عشرة خصلة": القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس... وإقامة الحدود، والجهاد، وأداء الأمانة... وحُسن المعاملة: وفيه: جَمْع المال من حِلِّه، وإنفاق المال في حقه، ومنه: ترك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه "تسع وستون خصلة" ويمكن عدُّها: "تسعاً وسبعين خصلة" باعتبار أفراد ما ضُمَّ بعضُه إلى بعض مما ذُكِر، والله أعلم)[16].








ونلحظ هنا: أنَّ ابن حجر - رحمه الله - أَدخل في "شُعب الإيمان" كلَّ التكاليف التي شرعها الله سبحانه لعباده، في كل شؤون الحياة العامة والخاصة، وهذا هو معنى "الشمول" في السنة النبوية.








أربع شعب كلية جامعة: بعض العلماء المعاصرين أرجع هذا الشُّعب الكثيرة، إلى أربع شعب كلية جامعة؛ لتكون أسهل في الحفظ، وأيسر في الحصر، وأكثر في استيعاب ما تحتها من مفردات ومسائل وأحكام، وأوضح دلالة على "جوانب الشمول الإسلامي" في التشريع والتكليف، وهي على الترتيب: (شعبة الإيمان، وشعبة الأخلاق، وشعبة العبادات، وشعبة المعاملات)[17].








شبهة وردُّها: إذا كانت السنة النبوية بشمولها تصلح أن تكون منهجَ حياةٍ للإنسان، فهل بالضرورة أن تكون كذلك بالنسبة للمجتمعات والدول، بحيث تصلح أن تكون نظاماً للحُكم؟



وهذه شبهةٌ روَّج لها أدعياء التغريب في زمننا، ودعاةُ الباطل في عصرنا، إذْ أرادوا قَصْرَ السُّنة وتحجيمها وتقزيمها، ومن ثَمَّ قَصْرَ التشريع على مُجرَّد عباداتٍ فردية، ومظاهرَ شكليةٍ يُمارسها أصحابها، دون أنْ تكون لها صلةٌ بالمجموع العام المُكوِّن للمجتمع، فالمجتمعُ - بزعم هؤلاء - بحاجةٍ إلى نُظمٍ وقوانين تفتقر إليها السُّنة النبوية، وتعجز عن الوفاء بها.








والردُّ عليهم لا يحتاج منَّا إلى جُهدٍ أو مشقَّة؛ إذ الحقُّ واضحٌ جلي:



أولاً: السنة النبوية وما فيها من منهج تشريعي ونظامٍ فريد للحكم والإدارة تصلح لكلِّ زمانٍ ومكان؛ إذْ لا يُتصوَّر عقلاً أن تأتي السنة بأحكامٍ؛ من مثل دخول الخلاء والطهارة والجماع وغيرها، ثم تغفل عن بيان أحكامٍ أكثرَ خطورة وأهمية؛ من مثل العلاقات الدولية، والسياسية الشرعية، والإدارة للرعية، وغيرها من أحكامٍ وتشريعاتٍ ممتلئة بها كتبُ السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.








ثانياً: بالفعل اشتملت السنة النبوية على ما يؤكِّد شمولَها واستيعابَها لكلِّ جوانب الحياة، والتي تجعل من الإسلام دِيناً ودولة، فوَجَدْنا الحربَ الضَّروسَ، تَعرَّفَنا من خلالها على آلياتِ الحرب وضرورتِها، ومتى تكون حتميَّةً، وكيف تُدار بمهارةٍ واقتدار، بل شهد لها الأعداءُ فدَرَّسوها في أكاديمياتهم العلمية في عصر التَّقدم العلمي والتطور التكنولوجي.








ووجَدْنا فيها العلاقاتِ الدوليةَ والمراسلاتِ بين الدول، بل والسفراء والوسطاء بشكلٍّ ربما سَبَقَ فيه المسلمون غيرَهم. ووجَدْنا فيها السياسةَ وما تقتضيه من عَقْدِ صُلحٍ، أو إبرامِ عهدٍ، يُمكِّن الدولةَ من استثماره وقت الحاجة، وإقامةِ علاقاتٍ دوليةٍ، وتحييدٍ لِقُوىً ليس من المناسب الدخول معها في معاداة، ورأينا فيها التنازلاتِ تركيزاً على هدفٍ استراتيجي بعيد؛ مثل صلح الحديبية.








ووجَدْنا فيها التحالفاتِ والتكتلات، كما وجدنا فيها التَّنوُّعَ بين مكونات المجتمع، وإعطاءَ كلِّ نوعٍ حقَّه كاملاً غير منقوص في إطارِ إقرارِ مبدأ الحقوق والواجبات، بصرف النظرِ عن العقيدة أو النوع أو العِرق، كلُّ هذا وغيرُه يجعلنا مُطمئنين إلى ما لدينا من سُنةٍ عظيمةٍ، شاملةٍ لكلِّ جوانب الحياة، ومن خلالها نستطيع بالفعل أنْ نُنْشِئَ أُمَّةً، ونُقيمَ دولةً، ونصنع حضارةً نقود بها العالَم؛ تحقيقاً لرسالتنا الخالدة، وهي هدايةُ البشرية الضَّالة، وإخراجُها من ضلالِها وغيِّها إلى نورِ ربِّها تبارك وتعالى.









[1] انظر: الشمول الإسلامي.. حقائقه وآفاقه، أ. د. عبد الستار فتح الله سعيد، مجلة البيان، (عدد:265)، (رمضان 1430هـ)، (ص12)؛ المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالِم (ص46، 47).




[2] رواه مسلم، (1/223)، (ح262).



[3] رواه الطبراني في (الكبير)، (2 /155)، (ح1647). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (8 /263): (رجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (4 /416)، (ح1803).



[4] رواه أبو داود الطيالسي في (مسنده)، (ص65)، (رقم479)؛ وابن سعد في (الطبقات الكبرى)، (2 /354)؛ وأحمد في (المسند)، (5 /162)، (رقم21477)؛ والبزار في (مسنده)، (9 /341)، (رقم3897). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (8 /264): (رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة، وفي إسناد أحمد مَنْ لم يُسَمَّ)؛ وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (4 /416): (هذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات)؛ وحسنه محققو المسند، (35 /346)، (رقم21439).



[5] (عِنْدَنَا مِنْهُ): يَعْنِي: بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيَهِ وَأَخْبَارِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِبَاحَاتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ قاله أبو حاتم. انظر: (صحيح ابن حبان)، (1 /267).



[6] رواه ابن حبان في (صحيحه)، (1 /267)، (ح65)؛ وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (8 /264): (رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح)؛ وصححه الألباني في (صحيح موارد الظمآن)، (1 /119)، (رقم62).



[7] أعلام الموقعين، (3/3).



[8] رواه مسلم، (1 /371)، (ح523).



[9] رواه البخاري، (1 /168)، (ح427).



[10] رواه مسلم، (1 /370)، (ح521).



[11] انظر: تفسير القرطبي، (12 /303)؛ الكشاف، (3 /295).



[12] التفسير الكبير، (24 /40).



[13] انظر: الشمول الإسلامي.. حقائقه وآفاقه، (ص17).



[14] المراد بالإيمان هنا: الدِّين الإسلامي كله.



[15] رواه مسلم، (1 /63)، (ح35).



[16] فتح الباري، (1 /52، 53) بتصرف يسير.



[17] انظر: الشمول الإسلامي.. حقائقه وآفاقه، (ص21).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.37 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]