عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 22-09-2019, 09:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قواعد الغلبة والندرة وتطبيقاتها الفقهية

قواعد الغلبة والندرة وتطبيقاتها الفقهية




د. عزيزة بنت مطلق بن محمد الشهري[*]



المبحث الخامس


كيفية حمل النادر في الخطاب الشرعي


عندما تكلمت عن معنى القاعدة وذكرت أن مدلولها واسع جداً ولا يليق بها أن تكون مجرد ضابط من ضوابط العرف وسوف أوضح في هذا المبحث جزءاً من مدلول القاعدة فيما يتعلق بالنصوص الشرعية وكيفية التعامل معها في مسألتين شهيرتين([226])
المسألة الأولى: كيفية حمل أقوال النبي صلى الله عليه و سلم المحتملة للتشريع وغيره. بمعنى هل تحمل أقواله على الغالب من حاله وهو الفتوى أم تحمل على معانٍ أخرى ؟.
المسألة الثانية: مدى دخول الصورة النادرة في الخطاب الشرعي.
المطلب الأول


كيفية حمل أقوال النبي صلى الله عليه و سلم المحتملة للتشريع وغيره


لقد كانت مهمة النبي صلى الله عليه و سلم الأولى والرئيسة تبليغ شريعة الله الخالدة للعالمين -وما أعظمها من مهمة!- وقد بلغها على أكمل وجه وأعظم بيان, وإليه عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم المرجعية في الفتوى بحكم أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم, ولم تكن تلك هي وظيفيته الوحيدة التي تقلدها, بل كان هو الحاكم الذي يسوس الدولة الإسلامية الفتية, والقاضي المحنك الذي يفصل بين الخصوم, فكانت له سلطة الحكم, والسياسة, والقضاء بين الخصوم, والإمامة, وعلى ذلك جاءت سنته القولية والفعلية وتقريراته على وجوه أربعة:
1ـ تصرُّف مقطوع بكونه صدر منه صلى الله عليه و سلم على وجه الإفتاء وبيان شرائع الدين للأمة مثل: بيان أحكام العبادات، كالصلاة والزكاة والصيام والحج, فهذا النوع عام في حق جميع المسلمين, يجب عليهم امتثاله دون الحاجة إلى إذن من إمام أو قاض وهو الأصل والغالب فيما صدر عن النبي صلى الله عليه و سلم من السُّنن.
2ـ تصرُّف قطع العلماء بكونه صدر منه صلى الله عليه و سلم على وجه القضاء والفصل بين الخصوم. مثل تسليم الحقوق، وفسخ الأنكحة، فهذا النوع حقٌّ للقاضي لا يؤذن فيه إلا لمن كانت له ولاية قضاءٍ بلا خلافٍ يُذكر عن أهل العلم.
3- تصرّفات صدرت منه صلى الله عليه و سلم بمقتضى الحكم والسياسة والإمامة العظمى أيضا بدون خلاف يذكر, مثل: قسمة الغنائم، وقيادة الجيوش وتوزيع أموال بيت المال في المصالح, إقامة الحدود الشرعية، وإقطاع الأراضي, وهذا النوع لم يكن أحد يستطيع التصرف فيه إلا بإذنه صلى الله عليه و سلم, فهو حقّ للحاكم لا يؤذن فيه للأفراد بلا خلافٍ يذكر كذلك بين أهل العلم.
4ـ تصرّف صدر منه صلى الله عليه و سلم ليس بصريح في إرادة واحد من الوجوه المتقدمة، فهو يحتمل أكثر من وجه, وهو ما حصل فيه الخلاف بين الفقهاء.
وهذه ثلاثة أمثلة وقع الخلاف بين العلماء في حقيقة تصرف النبي صلى الله عليه و سلم فيها:
1- حديث جابر بن عبد الله م: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِي لَهُ)([227]), فذهب مالك والشافعي وأحمد([228]): إلى أنه تصرّف بالفُتيا، فلكل أحد حق في إحياء الأرض الميتة من غير توقُّف على إذن الحاكم, إذا لم تكن مملوكة لأحد, ولم تتعلق بها مصالح الناس, ولا يرتفقون بها, خلافا لأبي حنيفة [229] الذي اشترط للإحياء إذن الإمام، فلا يحل لأحد أن يقتطع شيئا من الأراضي إلا بإذن الإمام.
2- حديث عائشة م إنَّ هند بنت عُتْبة قالتْ: "يَا رَسُول َاللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُل ٌشَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَايَعْلَمُ" فَقَالَ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَك ِبِالْمَعْرُوفِ)([230]), وقد اختلف العلماء في قول النبي صلى الله عليه و سلم هذا, هل كان تصرفاً بطريق الفتوى فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به, أم هو قضاء منه فلا يجوز لأحد أن يأخذ حقه أو جنسه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض؟, فذهب أبو حنيفة إلى أنه فتوى, ومشهور مذهب مالك والشافعي وأحمد أنه قضاء, فللقاضي أن يقضي مع غيبة المدعى عليه([231]).
3- حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: (من قتلَ قتيلاً لهُ عليه ِبيِّنةٌ سلَبَهُ)([232]), وقد اختلف العلماء في هذا الحديث, هل كان تصرف النبي صلى الله عليه و سلم فيه بصفته إماماً للمسلمين, فلا يستحقُّ القاتل السَّلب إلا بإذن الإمام إن رأى أن المصلحةً تستدعيه, أم أنه فتوى نبوية للحكام يجب عليهم السير في ركابها؟, فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه سياسة يفعله الإمام إذا رأى المصلحة في ذلك, وإذا لم ينفل فليس للقاتل إلا سهمه, واشترط مالك أن يكون ذلك النفل بعد أن تضع الحرب أوزارها([233]) خلافًا للشافعي وأحمد, فعندهم كل من قتل قتيلا أعطي سلبه دون اشتراط إذن الإمام فيكون ذلك من قبيل الفُتيا النبويّة للحكّام([234]), وفي المسألة تفاصيل ليس هذا محل بسطها.
والمختار في هذا اعتبار هذه الصور تشريع وفتوى مع الأخذ في الاعتبار أنه صلى الله عليه و سلم المفتي القاضي والمفتي المنظم للدولة, فلا تفصل تصرفاته في هذه الصور عن موقعه في التبليغ عن الله -عز وجل-؛ لأن حاله صلى الله عليه و سلم هو التبليغ عن الله شرعه سواء أكان قضاء يقضيه بين الخصوم أم سياسة تنظيمية ينتهجها ما لم يدل دليل على خلاف ذلك؛ لأننا إذا جردنا تصرّفاً من تصرّفاته صلى الله عليه و سلم من اعتبار الرسالة مصدرًا ملحوظًا فيه, أمكن الالتباس في شأنه بالاختصاص؛ لأنه إذ يفعل كل ذلك يفعله بصفته الرسول الإمام الموكول إليه أمر البيان والتطبيق والقدوة, ولا يختلف موقعه في هذا من مجال إلى آخر, قال القرافي في الفروق([235]): "الغالب في تصرفه صلى الله عليه و سلم الفتيا والتبليغ, والقاعدة أن الدائر بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى", وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام([236]):" فإذا صدر منه تصرف حمل على أغلب تصرفاته وهو الفتيا ما لم يدل دليل على خلافه".
المطلب الثاني


مدى دخول الصورة النادرة في عموم الخطاب الشرعي


من المعروف أن اللفظ العام: "هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد"([237]) لكنه في بعض الحالات يطلق اللفظ العام، وتكون هناك بعض الأفراد النادرة، التي لا يتبادر إلى الذهن إرادتها، ولا تخطر ببال المتكلم, أو السامع, كما يوجد بعض الأفراد التي لم يقصدها المتكلم في كلامه، فهل تدخل هذه الصورة النادرة، بناء على استغراق اللفظ لجميع ما يصلح له ندر أو اشتهر، قصده، أم لم يقصده، أم لا تدخل، بناء على ندرتها وعدم قصدها ؟.
تحرير المسألة([238]):
اتفق الأصوليون على أن هذه الصورة النادرة، والصورة التي لم تقصد تدخل في العموم قطعاً إذا قامت القرينة على قصدها، وتخرج منه قطعاً، إذا قامت القرينة على عدم إرادتها, وبقي ما إذا لم تقم القرينة التي تدل على إفادة أيّ من المعنيين, وذلك كالفيل في الصورة النادرة، فإنه ذو خف، وقد تقع المسابقة به إلا أنها نادرة، فهل يدخل الفيل في عموم قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (لاَ سَبَقَ إِلاَّ في نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ)([239]), فيشمله الحكم، ويصح السبق به، بناء على عموم اللفظ وتناوله، أم لا يدخل بناء على ندرته. وبناء عليه هل تدخل البلاد البعيدة عن الحجاز في عموم وجوب الصوم بطلوع الفجر, والفطر بغروب الشمس؛حتى لو بلغ نهارها الساعة والساعتين؟!.
اختلف الأصوليون في دخول الصورة النادرة تحت العموم, على قولين:
القول الأول: إن الصورة النادرة تدخل تحت العموم، لصدق اللفظ عليها([240]), وهذا قول أكثر الأصوليين([241])، وظاهر كلام الغزالي([242]) ونصره الشنقيطي في أضواء البيان([243]) بقوله: "وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد, فحكم الظاهر أنه لا يعدل عنه، بل لا يجب العمل به إلا بدليل يصلح للتخصيص. وقد كان الصحابة y يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك.. ومما يوضح ذلك: أن الخنثى صورة نادرة جداً، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع".
القول الثاني: إن الصورة النادرة لا تدخل تحت العموم؛ لأنها لا تخطر بالبال غالباً([244]), وسنة الله في تشريعاته أن تكون على غالب الأحوال دون الخارج عن غالبها, وهذا قـول بعض الأصوليـين([245])، وظاهر كـلام الشافعي([246])، وقطـع به إمـام الحرمين([247]).
واعترض عليه: إن القول بأن الصورة النادرة لا تخطر بالبال لا يتماشى في خطاب الله تعالى، إذ لا تخفى عليه خافية. وأما إخراجها من صيغة العام في خطاب النبي صلى الله عليه و سلم مبني على أن دلالة الصيغ على موضوعاتها يتوقف على الإرادة ([248]).
وأجيب على الاعتراض: بأن كلام الله تعالى منزل على لسان العرب وأسلوبهم, إذ العرب هي المخاطبة بالقرآن وقد نزل بلغتهم وبما يعرفونه وألفاظ الشرع تحمل على عرف العرب فإذا جاء فيه لفظ عام تحته صورة نادرة وعادة العرب إذا أطلقت ذلك اللفظ لا تمر تلك الصورة ببالها فهذه الصورة ليست داخلة في مراد الله تعالى من هذا اللفظ, وإن كان عالما بها؛ لأن هذا اللفظ يطلق عند العرب ولايراد به هذه الصورة, وكذلك النبي صلى الله عليه و سلم لا يخاطب قومه بشيء لا يستحضرونه, فلا تقع مرادة بكلامه ولا مشمولة بلفظه([249]).
وقد ذكر الشافعية للمسألة -وهم أكثر من أثارها- أمثلة منها:
- مس الذكر المقطوع, هل ينتقض به الوضوء أم لا ؟
الصحيح من المذهب أنه ينقض الوضوء، بناء على دخول الصورة النادرة في عموم قوله صلى الله عليه و سلم: (من مسّ ذكره فليتوضأ)([250]), وقيل: لا ينتقض, بناء على عدم دخولها فيه([251]).
- جماع الميتة, هل يوجب الغسل أم لا ؟
الصحيح: أنه يوجبه، بناء على دخول الصورة النادرة في عموم قوله صلى الله عليه و سلم: (إذا التقى الختانان وجب الغسل)([252]), وقيل: لا يوجبه، بناء على عدم دخولها فيه([253]).
- إذا استمر المتبايعان مدة طويلة، ولم يتفرقا, فهل يبقى الخيار أم ينقطع ؟.
الصحيح: بقاء الخيار، بناء على دخول الصورة النادرة في عموم قولـه صلى الله عليه و سلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)([254]), وقيل: ينقطع بناء على عدم دخولها فيه([255]).
الترجيح:
الذي يظهر لي -والله أعلم– ترجيح القول الأول، وهو القول بأن الصورة النادرة تدخل تحت العموم؛ لشمول العام والمطلق للصور النادرة, فالعام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص من كتاب أو سنة, لشمول اللفظ لها وصدقه عليها, إذ الشرع عام لكل زمان ومكان والمسلمون مأمورون بتبليغ الشرع, وهذا ما فهمه الصحابة في مسألة الخنثى السابقة وإجماعهم على توريثه. ولكن مع القول بدخول الصورة النادرة في العموم لابد من التنبيه من أن العلماء لا يختلفون في تخصيص الصور النادرة إذا دل دليل على تخصيصها, وعليه فالخلاف إذن في أن العام مخصوص بهذه الصورة, أو عام أريد به الخصوص.

المبحث الخامس


الضوابط الفقهية الـتي تضبط تقديم الغالب وإلحاق النادر به


وفي هذا المبحث يطيب لي أن أتقدم بذكر ضوابط لهذه القاعدة علّها تضبط للفقيه أمره, وتمسك بزمام مسائل فقهه, وهذا المبحث يعد من الأهمية بمكان؛ لأن القاعدة كما اتضح لنا مترامية الأطراف فيها شيء من الشذوذ -أحياناً- إذا اعتبرنا العبرة للغالب على نص قاعدة المجلة بنصها المعروف: "العبرة للغالب الشائع لا للنادر" أو خلافية إذا نظرنا للنادر من زاوية الشذوذ كما ذكرها الشافعية: "النادر هل يلحق بنفسه أو بجنسه" ومن هنا كان لزاماً أن تضبط القاعدة ببعض الضوابط والقيود منها:
  1. أن تكون المسألة التي يحكم فيها بالغالب من المسائل التي يجوز فيها الحكم بالظن, أما مسائل الاعتقاد, وأصول الدين, وكليات الشريعة وأصولها فهي أمور قطعية لا مجال فيها للقول بغلبة الظن.
  2. ألا يعارض العمل بالغالب ما هو أقوى منه، فإذا حصل العلم واليقين بطل الظن والتخمين، مثل اليقين الحاصل بالتواتر, ومثل تعارض الغالب مع أصل أقوى منه كما مر بنا في مبحث تعارض الأصل والغالب.
  3. أن يتعذر اليقين التام والضبط في المسألة, فننتقل حينئذ للعمل بالغالب, أما إذا أمكن اليقين فلا مجال للعمل بما دونه, مثال يوضح هذا الضابط استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة, فلو كان الشخص مسافراً, ولا مسجد هناك, ولا مرشد, فله أن يتحرى ثم يعمل بغلبة ظنه, أما إذا كان في القرى والأمصار التي يوجد بها من ساكنيها من المسلمين من يمكنه أن يرشده, فلا مجال للتحري, بل الواجب عليه السؤال, والتأكد من اتجاه القبلة في البلد يقيناً.
  4. أن لا يوجد مع كلٍ من الأصل والغالب ما يعتضد به ويتقوى به, ويصلح أن يكون مرجحاً, فيقدم الغالب على الأصل.
  5. إذا كان الغالب حجة شرعية, يجب قبولها شرعا كالشهادة, والرواية, والأخبار فيقدم على الأصل "براءة الذمة" في الدعوى والبينات بالاتفاق.
  6. إذا كان النادر دائماً فإنه يدخل في عموم الغالب؛ لأن النادر الدائم يلحق بالغالب, وقد نبه الزركشي إلى هذا الضابط([256]).
  7. إذا كان النادر يندرج تحت اللفظ في الظاهر, لكن المعنى لا يساعده فهنا تتجاذبه آراء الفقهاء كل حسب ما يترجح له, أما إذا ساعده المعنى فيحتمل القطع بدخوله في عموم اللفظ.
  8. تقييد إلحاق النادر بالغالب على خلاف الأصل بثلاثة قيود:
القيد الأول: إذا خالف الغالب الأصل, وكان الخلاف مطردا ًفالنادر يلحق بالغالب, ويقدم على الأصل. مثال: الماء الخارج من مجرى قضاء الحاجة في الحمام؛ لاطراد العادة بالبول في الحمامات, فيحكم بنجاسته.
القيد الثاني: أن تكثر أسباب الغالب, فإذا كانت نادرة لم ينظر إليها مثاله: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث, لا يجب عليه الوضوء بالاتفاق عند الشافعية بخلاف ما يغلب على الظن نجاسته ففيه قولان عندهم.
القيد الثالث: أن لا يوجد مع الغالب أو النادر ما يقويه ويعضده, فإذا وجد مع أحدهما ما يقويه ترجح حينئذ([257]).
المبحث الخامس


تطبيقات قواعد الغلبة والندرة


تطبيق القاعدة هو ثمرتها الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين, ويتبين في زمرتها وحدة المناط, وإن اختلفت موضوعاتها وتباينت أبوابها, وكلما ضمت القاعدة مسائل منثورة من أبواب فقهية متنوعة كلما اتسمت بالقوة والصلابة, واكتسبت الشهرة والواقعية, والتكامل في البنية, ويمكن تناول تطبيقات القاعدة في إطارين فقهيين.
المطلب الأول
تطبيقات منثورة في كتب الفقه والقواعد
هذه القاعدة لها تطبيقات كثيرة جداً في كتب الفقه الإسلامي, وتشمل معظم أبواب الفقه, العبادات, والمعاملات, والأحوال الشخصية, وفي الجنايات, وفي القضاء, وقد مر بعضاً منها في ثنايا البحث, ولكن تتميماً للفائدة, وكما جرت العادة في كتابة القواعد, سوف أسرد عدداً من الأمثلة على هذه القاعدة([258]).
1- قدر فقهاء الحنفية سن اليأس من الحيض للمرأة بخمس وخمسين سنة؛ لأن الغالب من حال النساء انقطاع الحيض عند هذا السن([259]).
  1. جواز الاستئجار على الإمامة والأذان وتعليم العلوم الشرعية, لعدم تفرغ الناس وكسل أغلبهم عن القيام بها مجانا دون مقابل, مع أنه يوجد في الأمة من يقوم بها احتساباً دون مقابل, لكنه نادر([260]).
3- إن من ملك خمساً من الإبل سنة وجب عليه الزكاة فيها, وتقدر بشاة من غالب شياه البلد([261]).
4- الغالب على عقود المسلمين الصحة, فتحمل على الصحة ما لم يدل دليل على الفساد[262].
5- يغتفر في المعاملات المالية الغرر اليسير, إذا كان الغالب فيها السلامة؛ لأن العلة من تحريم الغرر ما يترتب عليه من عدم الرضا, والخصام والنزاع بين المسلمين, فإذا كان الغرر يسيراً فاحتمال وقوع الخلاف والنزاع نادر, فيكون الحكم على الأغلب, دون الاحتمال النادر([263]).
6- الغالب في أموال المسلمين أنها حلال ومن كسب طيب, والحرام من غصب وربا ونحوهما قليل, لذلك يجوز التعامل مع المسلم في البيع والشراء دون حاجة لبحث أو سؤال عن كيف كسب تلك الأموال؛ لأن الغالب في الأموال الحل, والحرام قليل فيحكم بالأعم الأغلب.
7- الأصل أن المال الموجود بيد المسلم أنه ملكه, وأنه من كسب حلال, وهذا بناء على الغالب من حال المسلم, وقد يوجد مال حرام بيد المسلم, وقد يوجد معه ما ليس ملكا له, ولكنه نادر, فالعبرة إذن بالغالب من أحوال المسلمين فيبنى الحكم عليها([264]).
8- لو باع شخص بدراهم أو دنانير وأطلق نزل على النقد الغالب في البلد, ولو كان في البلد أكثر من نقد وجب البيان في العقد, وإذا باع ولم يبين والحال ما سبق, فإن البيع باطل([265]).
9- لو اشترى شخص شيئا في الذمة وأطلق العقد ولم يقيده بنفسه أو غيره وكان وصياً على مال يتيم, وولياً على ولده الصغير, ووكيلاً على مال غيره, فإن عقد الشراء ينصرف إليه دون غيره؛ لأن الغالب من تصرفاته التصرف لنفسه ولا ينصرف لغيره إلا بالنية([266]).
10- جوز المتأخرون من الحنفية للدائن استيفاء دينه من غير جنس حقه, مع أن المتقدمين كانوا يمنعون ذلك, لغلبة العقوق وأكل الحقوق([267]).
11- الغالب في الصغار غير البالغين عدم حسن التصرف, وقد يوجد من صغار السّن من يحسن التصرف, ويدرك حقيقة الأمور, ويميز تمييزاً صحيحا بين الحسن والأحسن فضلا عن الحسن والسيء, ومع ذلك فإن الشرع لم يصحح عقودهم بناء على الغالب من حالهم, ومن وجد منه حسن التصرف فهو نادر, فلا يلتفت إليه في بناء الأحكام الشرعية إذ الأحكام الشرعية تبنى على الغالب([268]).
12- الحكم ببلوغ من بلغ سن الخامسة عشرة؛ لأن هذا السن هو السن الشائع للبلوغ, وإن كان بعض الناس لا يبلغ إلا بعد هذه السن, لكنه نادر فلا يلتفت إليه, إذ العبرة بالغالب الشائع[269].
13– يجوز اشتراط الحصاد على العامل في عقد المزارعة, أو على صاحب الأرض, ولو كانت مؤنة الحصاد في بعض الأوقات غير معلومة؛ لأن الغالب أن الزرع يكون على العادة, وتخلف ذلك في بعض الأوقات نادر والنادر لا حكم له([270]).
14- القول قول الصانع والعامل مع يمينه, عند الاختلاف بينه وبين صاحب العين, بعد الفراغ من العمل, مع أن القول قول منكر العقد بالإجماع؛ ولكن عُدل هنا عن الأصل؛ لأن الغالب فيما يدفع لأهل الصنائع الاصطناع بمقابل, وليس الإيداع أو العمل مجانا؛ والقول بالإيداع نادر لا حكم له[271].
15- إذا أتلف شخص مالاً متقوما لغيره وجب عليه ضمانه بقيمته من نقد البلد([272]).
16- إن من لم يجد الطول في النكاح فعليه بالصوم, فإن الصيام في الغالب يكسر شهوة الفرج، وإن وجد من يزيد بالصوم شبقه لكنه نادر، وأحكام الدين تبنى على الشائع الغالب، وأما النوادر من الأحوال فلا تعتبر.
17– لا يجوز للزوج السفر بالزوجة من بلدها الذي تزوجها فيه إلا برضاها حتى وإن أعطاها الصداق المعجل كاملا؛ لأن الغالب من الأزواج الإضرار بالزوجات في العصور المتأخرة[273].
18- إذا أنكرت الزوجة تسليمها كل المعجل من صداقها, لم تسمع دعواها, مع أن الأصل معها, إذ القول قول المنكر للدعوى مع يمينه, لكن هنا القول قول الزوج؛ لأن الغالب أن المرأة لا تسلم نفسها لزوجها إلا بعد تسلمها كامل الصداق المعجل([274]).
19- إذا اختلف الزوجان في ملكية متاع المنزل, فالقول قول من يصلح له المتاع, وللزوج, فيما عدا ذلك؛ لأن الغالب أن ما يصلح للزوج فهو له, وما يصلح للزوجة فهو لها[275].
20- المرأة التي حبلت وليس لها زوج, ولم تدع شبهة, فالغالب أن حملها كان من سفاح, والاحتمال النادر أن يكون حملها بوطء شبهة أو مع إكراه, فيحكم عليها بالحد على المأثور عن الخلفاء الراشدين والأشبه بأصول الشريعة؛ لأن الأصل إلحاق الفرد النادر بالغالب, والاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها([276]).
21- الحكم بموت المفقود إذا مرت تسعون سنة من عمره؛ لأن الغالب أن الناس لا يعيشون أكثر من هذه السن, وإن كان بعض الناس يعيشون أكثر من التسعين لكنه نادر والعبرة بالغالب([277]).
22- تجب الإبل في الدية في مال الجاني في القتل العمد, أو على العاقلة في قتل الخطأ, وتكون من غالب إبل البلد([278]).
23- إن سباع البهائم الغالب فيها الناب, وقد توجد سباع بدون ناب لكنه نادر[279].

24- إن الكلب المعلم إذا كان في الغالب لا يأكل من الصيد كان ما يصيده حلالاً، أما إذا كان الغالب أنه يأكل مما صاده فليس بمعلم, ولا يعتبر ما أمسكه حلالاً، وإذا كان أكله نادرًا أو عدم الأكل نادرًا, فالنادر لا يعتبر في بناء الأحكام الشرعية.
25- قال المتأخرون من الحنفية: ليس للقاضي أن يقضي بعلمه؛ لأن الغالب من القضاة فساد حالهم ([280]).
نماذج لبعض التطبيقات المعاصرة.

الأمثلة من النوازل الفقهية التي استجدت مشكلاتها في هذا العصر كثيرة منها ما كان مبناه العرف والعادة الغالبة, ومنها ما كان منشأه المصلحة الغالبة, واقتصرت على بعض النماذج التي تجلي المقصود:
1- الإفتاء في المسائل الفقهية المستجدة ينبغي أن يكون اجتهاداً جماعياً, وهذا المسلك أحرى بالصواب, وأبعد عن لوثة الخطأ, وأقنع وأرقى وأكمل, وينبغي أن يكون الإلزام برأي الأغلبية في الاجتهاد الجماعي الصادر عن مجمعية فقهية علمية معتبرة متخصصة في الإقليم إلزاما قضائيا, وعملياً, إذ الغالب أن الحق معها, أما علمياً فكل له اجتهاده, وكذلك الحال في قضايا الأمة العامة التي تتعلق بالأمة أو الدولة, وتتعلق بالسياسة والحكم والسلم والحرب, ويتحمل الإسلام تبعات الفتوى فيها, ويتلظى المسلمون بنارها إذا انحرفت عن مسارها الصحيح, وقد يترتب عليها كوارث أو حروب أو مقاطعات دولية, تدفع الأمة ثمنها.
2- إرسال الأولاد الصغار للدراسة والتربية في مدارس وجامعات البلاد الكافرة والإقامة الطويلة في تلك المحاضن مع ضعف في التربية الإسلامية, والحصانة الشرعية القويمة, فالغالب من هؤلاء التأثر بمعتقدات وأفكار وأراء ومناهج المربين لهم, مما يؤثر سلباً على معتقداتهم, وتربيتهم, وقد ينتج عنه في الغالب الاستخفاف بالدين, إن لم يصل للكفر, وإن وجد نادراً من لم تتغير هويته الإسلامية لكنه نادر, فالحكم بمنع السفر لمثلهم متعين, إذ العبرة بالغالب والنادر لا حكم له.
3- استعمال مكبرات الصوت لرفع الأذان, لما فيه من المصلحة الشرعية من إعلان الصلاة والدعوة إليها, وهذا فيه مصلحة غالبة, وقد يحصل مفسدة محتملة ونادرة من إزعاج للأطفال والنائمين من المعذورين, فلا يمنع استعمال المكبرات بدعوى نادرة؛لأن العبرة بالمصلحة الغالبة.
4- الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية التي تنعدم فيها العلامات الفلكية الظاهرة في فترات من السنة, فتقدر فيها أوقات الصلاة بالزمن بأقرب البلاد إليها, وهو أشهر الأقوال في المسألة, وفي قول بمكة المكرمة أو المدينة, وكذلك البلدان التي يكون ليلها طويلاً جداً, أو نهارها, بحيث يصوم الناس ساعتين أو ثلاث في فصل الشتاء, ويصومون معظم اليوم في فصل الصيف, من العلماء من رأى أن هؤلاء يصومون كما يصوم الناس في مكة؛إذ هي أم القرى, أو المدينة, أو أقرب البلاد المعتدلة إليهم؛لأنه قد جرت سنة الله في التكاليف أن ترد على غالب الأحوال، دون أن تتعرض لبيان حكم ما يخرج على هذا الغالب, فتلحق هذه البلاد بغيرها من البلاد المعتدلة([281]).
5- ذهب عدد من العلماء إلى جواز شراء أسهم الشركات المساهمة التي غالب أنشطتها الأصلية مباحة, ولكنها تتعامل بالربا عرضا وعند الحاجة؛ لأن كل شيء أفسده الحرام والغالب عليه الحلال فلا بأس ببيعه؛إذ الحكم للأغلب.
6- الواجب على الطبيب قبل إجرائه عملية جراحية لمريضة أن يضع نصب عينية مدى احتمالية نجاح العملية فإن كانت نسبة النجاح كبيرة في الغالب, مع احتمالية نادرة لعدم نجاحها أقدم عليها, إذ العبرة للغالب والعكس صحيح.
7- وكذلك الواجب عند صرف دواء معين للمريض فإنه ينظر لما غلبت فائدته, أما إذا كان نفع أناس محدودين, وفي المقابل أضر بالكثرة الكاثرة, فلا يجوز له صرف هذا الدواء.
8- الحكم بجواز الإجهاض وإقدام الطبيب عليه إذا كان في بقاء الحمل موت الأم في الغالب.
9- المريض إذا أفاق من البنج لا يلزمه الغسل؛ لأن الغالب أنه لا يحصل منه إنزال في حال الإغماء.
10- من شروط جواز نقل وزراعة الأعضاء من جسم إنسان حي إلى آخر أن يكون نجاح كل من عمليتي النـزع والزرع محققًا في العادة أو غالبًا.
الخاتمة والتوصيات:

من خلال هذا البحث توصلت لعدة نتائج من أبرزها:
1- إن قواعد الغلبة والندرة ذات صياغات متعددة, ولعل أضبط وأشمل صياغة لها صياغة مجلة الأحكام العدلية: "العبرة للغالب الشائع لا للنادر" وهي التي كانت محل البحث.
2- إن القاعدة تعد من القواعد الاجتهادية الاستنباطية الثابتة بالاستقراء لنصوص الشريعة.
3- نص العلماء على أن المقصود من العموميات في نصوص الشريعة الأحوال الغالبة.
4- في تقديم الأصل على الغالب أو تقديم الغالب على الأصل إذا لم يكن مع أحدهما مستند من النص الشرعي يرجع إلى قوة الغالب أو الأصل وفي هذا تختلف أفهام الفقهاء.
5- الأصل في النادر أن يلحق بالغالب, وقد يتخلف هذا الحكم لوجود معارض قوي, لكنه يظل استثناء وشذوذ من القاعدة ولا يؤثر في عمومها, بل قد يهمل الغالب والنادر معاً ويحكم في المسألة بحكم آخر مخالف لحكمهما.
6- الأصل في أقوال النبي صلى الله عليه و سلم المحتملة للتشريع وغيره حملها على التشريع؛ مع الأخذ في الاعتبار أنه صلى الله عليه و سلم المشرع والحاكم والقاضي فلا تفصل أحواله.

7- إن الصور النادرة تدخل في عموم النص الشرعي ما لم يدل دليل على تخصيصها.
8- ضرورة مراعاة الضوابط الفقهية التي تضبط تقديم الغالب وإلحاق النادر به؛ حتى لا تضطرب المسائل عند الفقيه.
9- اشتمال القاعدة على عدد كبير من التطبيقات الفقهية مما يعطيها الأهمية والواقعية.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.74 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]