عرض مشاركة واحدة
  #181  
قديم 05-04-2008, 08:16 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الإشارات القرآنية إلى الطبائع البشرية

د/ السيد إبراهيم الجميلي
كاتب ومفكر إسلامي وطبيب استشاري
توطئة وتمهيد:
إن الإنسان مخلوق الله تعالى الذي خلقه فسواه فعدله، فكان هذا تكريماً للإنسان على مخلوقات الله الأخرى، وحسبه من هذا التكريم الإنعام عليه بالعقل والفكر، وتشريفه بالتكليف الإلهي.
إن الإنسان في أصل جوهره الذي عليه مدار ذاته وكيانه ووجوده يدور حول طبعه وسليقته من ناحية، ومن ناحية أخرى يدور حول ذاته الحرة الواعية المستبصرة بما أضاف أو أضيف إليها من مكسوبات البيئة والظروف المخامرة، والأحوال الملابسة...
ويكون هناك إحدى حالتين:
الأولى يسيطر فيها الطبع الموروث بالسليقة في الأغلب الأعم، وهو ما تنطوي عليه الفطرة المفطور عليها، وإما أن تسيطر الظروف على الطبع فتعمد إلى تعديله وتخصيص حركته ونزعاته وسلوكياته...
وفي دولاب الحياة توجد كل أصول الطباع، خصالها وخصائصها وتفريعاتها، سواء كانت أصولاً محضة ( لم يلحقها تغير أو تبديل أو تحوير وتخصيص ) أم غير ذلك مما أعتورها وكاتفها ـ درجة ما من التعديل والتحوير.. وهذا الطرز والأنماط فاشية بين بني البشر، ظاهرة كل الظهور، واضحة كل الوضوح للعيان، لا تخفي على الأريب والخبير الممارس.
والكلام على الإشارات القرآنية للطبائع البشرية كلام كثير يحتاج بيانه وتفصيله إلى سفر جامع، لكن نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض هذه الطبائع، ونحرر تحليل بعض المواقف الظاهرة السافرة والخيوط التي تصل بينها وبين عوالم الأسرار المطوية في السرائر، والتي قد تكون محجوبة مستورة ولكنها تقف وراء كل حركات الإنسان وسكناته، فنفسر أسلوبه في الحياة ومنهاج عمله، وتبرر مسلك عقيدته، وما يتأدى إليه من قول وفعل.
الطبائع الثمانية
هناك تقسيمات قديمة للطبائع عزا القدماء إليها كل شيء، لعل أقدمها الطبائع الأربعة: الناري، ويدل على الحرارة، والهوائي، يدل على الرطوبة، والمائي، للبرودة، والأرضي ( الترابي )، لليبوسة.
كما أن القدماء اتفقوا على الأخلاط والأمزجة الأربعة، وهي:
  • <LI dir=rtl>الصفراوي (choleretic).
    <LI dir=rtl>والبلغمي (phlegmonus).
    <LI dir=rtl>والدموي (consanguious) (consanguinargy).
  • والسوداوي ( الميلانخوليا ): (melancholic).
ثم أخذ العلم في التطور وتوالت البحوث والدراسات التي قطعت أشواطاً بعيدة من النظرية والتطبيق، لكن في النهاية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلاديين المدرسة الفرنسية في علم الطباع التي طوّرت هذا العلم وانتقلت به من حيز الفروض النظرية البحتة والتصورات النمطية الخيالية المحضة إلى الدراسات التطبيقية والتحليلات العملية، على عينات إحصائية مختارة من مختلفة طبقات وشرائح المجتمع، ورصد النتائج وتدوين الملاحظات المنتهي إليها في دقة بالغة.
كانت هذه طفرة بارزة يرجع الفضل فيها إلى العلامة والفيلسوف الفرنسي رينيه لوسين (rene lesenene) ( أستاذ علم النفس والفلسفة بجامعة السربون والمتوفي سنة خمس وخمسين وتسع مئة وألف للميلاد ).
وكان رافقه وعاضده في بحوثه جيرترود هيمانس (gertrude heymans) ( عالم النفس الهولندي ) وصديقه الدكتور فيرزما (wirsma) (وهو طبيب اختصاصي في الأمراض العقلية ).
ولقد انتهت الدراسات لهذه المدرسة إلى أن طبائع البشر ثمانية طباع: العصبي، والعاطفي، والغضبي، والجموح، والدموي، واللمفاوي، والهلامي، ثم الخامل.
وعن كل طبع من هذه الطباع استخلصت البحوث العلمية لهذه المدرسة كثيراً من الدقائق واللطائف التي تفسر لنا كثيراً من الرغبات والمنازع التي تتحكم في التوجه وتبرر لنا غوامض الشخصية، وتميط اللثام عن عديد من السلوكيات الغامضة.
* الإشارات القرآنية:
إن الإشارات القرآنية الواردة في الكتاب العزيز إنما تعطينا صورة دقيقة للملامح والسمات والقسمات التي ينضوي تحتها الطبع، فهي إما تصرح بالطبع تصريحاً، أو تشير إليه تلميحاً، أو تقرر أخص خصائصه بلمحات ضمنية أو غير مباشرة.
وهنا يأتي دور الخبير المتمرس بطول المران على قراءة ما وراء الظواهر والمحسوسات، من خلال تقويم الإشارات واللمحات، وترجمة مدلولاتها بغير افتئات على النصوص، أو تزيد لا موجب له بحال من الأحوال.
لكننا بادي الرأي ـ قبل الولوج إلى جواهر المسائل ـ نرى وجوب الإشارة والتنبيه والتنويه عن عدة ملاحظات وتحفظات وهي:
أولاً: الغضب من أقبح الطبائع البشرية على مختلف مستوياتها، لكنه إذا كان منسوباً لله تعالى فإنه قمة العدل والقسط، لكونه منزهاً عن عوارض السلبية التي تعتور البشر، ولأنه بريء من الظلم والفساد ( حاشاه ذلك )، ومع هذا فإن رحمته سبحانه وتعالى سبق تغضبه. من ثم، فإنه في الصفات المشتركة بين الخالق والمخلوق تكون المشاركة لفظية فحسب، فإنه جل شأنه ( ليس كمثله شيء ).
ثانياً : الأنبياء كلهم مبشرون بالجنة لكونهم مخلصين مختارين، والغصب عندهم ليس بنقيصة تقدح في عصمتهم، وسلامتهم، وكمال إيمانهم. ولكن ورد في كل الأحوال على سبيل ضرب الأمثال والتعريض بالأمم، وهم مختلفون عن السواد البشري، فهم جميعاً معفو عنهم، مغفور لهم، وما ورد عنهم من المواقف والأحوال إنما كان استقصاءً وسبراً لأغوار النفس البشرية، مع إلهامهم المسارعة بالتوبة والإنابة، ورسم لهم سبحانه طريق الإعذار والإنذار وتدارك الأمر قبل فوات الأوان، وهذا مفاده تعليم المكلفين كيف يتصرفون... والأنبياء جميعاً قدوة حسنة، أعذارهم ممهودة وأخطاؤهم مغفورة، وطباعهم مرضية...
ثالثاً: كل كافر مغضوب عليه، وكل مغضوب عليه من الله تعالى هالك لا محالة، كذا كل مرضي عنه من الله ناج.
قال تعالى: )قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) ([سورة طه](1).
وقال: )وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) ([سورة الأعراف].(2)
)وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ..... (154 ) ([سورة الأعراف ].(3)
كان موسى عليه السلام على درجة رهيبة من الغضب والثورة لانحراف قومه عن عبادة الله تعالى وتوحيده، وقد ثارت ثائرته وهجم على أخيه هارون أخذاً بلحيته ورأسه في ثورة عارمة، ظاناً أنه قصر في زجر قومه وحاد عن طريق الحق بالسكوت عن ضلالهم(4)
)وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ......(5)قوة عارضة وفحولة مدهشة حال اختلاجه وانفعاله الذي انفلت بسبب الغيرة الشديدة على دين الله )قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (6)توضح الآيات في أجلى وأبين بيان وأدق تصوير كل ملابسات وخصائص الغضب في الطبع الغضبي.
وهذه الخصيصة من هذا الطبع (furious temperment) ممدوحة عند موسى، لأن مردها ومرجعها إلى القوة في أمر الله والغيرة على دينه، وهذا موجب قوي يحفز إليها ويحض عليها.
لكن الطبع الغضبي بين السواد الأكبر من أفناء الناس طبع ممقوت لكثرة مثاليه وجم عوراته، وما انطوى عليه من نقائص تتمثل في القوة الشديدة والصرامة العنيفة، والعناد، والاندفاع، والحمق وعدم التروي، والتهور العشوائي غير المحسوب، محروم من الحلم والأناة والرفق.
والغضبي معنىٌّ بالرد الفوري سريع الاستجابة مهما كانت الآثار والتداعيات والمردودات.
إن عقل الغضبي فولازي صلب، لا يعرف المرونة، وإن كان لا يعدم المروءة، شديد الصلادة والتحجر. ولئن كان الطبع الغضبي مولعاً بالموضوعية، فهو منهوم بالفعل، يلتذ بتفعيل طموحاته، إلا أنه ضيق الأفق مع طيبة القلب ورهافة الشعور.
والغضبي يشبه العصبي في انفعالاته، لكن العصبي الطبع (temperment) (neurotic character يتميز عادة بقعود الهمة، وضعف القدرة على تحقيق المرادات بالعمل الشاق، فهو يشعر بالوهن، ويستطيع التضحية بالعمل والفعل حتى لا يرهق بدنه.
وبينما نرى الغضبي مشهوراً بالحيوية والنشاط والهمة، نرى العصبي ملولاً ثرثاراً، وهو يفتقر إلى الموضوعية، كذوب، يهمل الأعمال والواجبات المفروضة عليه، وهو سهل الاقتناع، وسهل الاستسلام، والسيطرة عليه ممكنة ميسرة من أسهل الطرق.
ونرى من مشهد موسى أن قوته بلغت حداً فائقاً، فهو في عنفوان غضبه ألقى الألواح، وفعل ما فعل بأخيه هارون، وفي لحظة خاطفة بعد أن استشفع أخوه بأمه وقدم أعذاره بأن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه تساير ( سكت ) الغضب عن موسى، وهدأت نفسه بعد أن قدر ظروف أخيه وأيقن من أعذاره، فأخذ الألواح...
ويصور المشهد: ضعف هارون الشديد باعترافه )استضعفوني (و )كادوا يقتلونني (، وهذا تصريح واضح بقلة حيلته، وضعفه وهوان شأنه عند قومه الذين كانوا يهابون موسى عليه السلام بدليل أنه مجرد أن غاب عنهم انحرفوا إلى عبادة العجل... من ثم كانت مهابة الطبغ الغضبي مدعاة للتوقير، والإجلال لأن القوم يعرفون بأن حدة الغضب وشدة الانفعال عند موسى من ألزم خصائص طبعه.
وقوة الانفعال عند الغضبي غير قوته عند الطبع الجموح (bolty temperment type)، حيث إن الغضبي لا يتحكم في نفسه ولا تصرفاته حال الانفعال.
أما الجموح: فإن انفعاله فيه درجة القوة الغضبية، لكنه محسوب تحت السيطرة، ولذلك، فإن الغضبي يتحكم فيه الطبع ويسيطر عليه سيطرة تامة كاملة، أما الجموح فإنه يسيطر على طبعه ويتلافى سلبيات الغضبي بالتروي والإثارة وحساب الآثار والتداعيات بمنتهى الدقة.
أما طبع هارون فهو الطبع العاطفي الوديع شديد الانفعالية، قليل الفعالية أو نادرها، حيث يميل إلى الوداعة والسلامة..
والنمط العاطفي يؤثر السكينة ويكره الصراع ولو أتى أسباب النصر فيه... إن الصدام رهان خاسرة، ومجازفة تهولة، وخرق لا موجب له، ولا مبرر للتورط فيه من العاطفي الذي ينشد السلامة، ويركن إلى الدعة مهما كان في ذلك تفويت لفرص يرجوها ويتشوق إليها... ثم يستغفر موسى عليه السلام لنفسه ولأخيه وهذا بعد أن برئت ذمة أخيه من التقصير والتهاون المقصود.
هناك موقف آخر لموسى عليه السلام عندما استغاث به الإسرائيلي فيصراعه مع القبطي: )فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) ([سورة القصص]....
وكزه: لكزه(7) وموسى في ثورته الغضبية لم يقصد قتل القبطي، فهو قتل خطأ إذن... وقد فطن موسى لأول وهلة أن الشيطان هو الذي هيج غضبه وزج به إلى هذا الفعل القاتل... فاستغفر ربه فغفر له: )قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) ([سورة القصص].
وهذا مفاده: أن المسارعة إلى التوبة من السنن المحمودة، مع الإقرار بالخطأ والاعتراف به(8).
لكن بعد هذه التوبة المقبولة والعذر الممهود والإنابة، يحاول الطبع السيطرة على الشخصية مرة أخرى بالتوسيل والتغرير: ).... فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) ([القصص]...
لم يزل موسى متأثراً متألماً لما حدث بالأمس من قتله القبطي خطأ عن غير عمد، فما أن استصرخه الإسرائيلي، الذي كان استنصره بالأمس، حتى قال له موسى منفعلاً:)إنك لغوي مبين (.
ولما رأى الإسرائيلي ـ والذي هو من شيعة موسى ـ الغضب في عينيه والتهجم بادياً على جبينه وإنه على وشك الهياج والثوران، ارتعب وذعر واستولى عليه الفزع والهلع مخافة أن يفتك به موسى، فاستطار قلبه، وسارع صارخاً: ).... أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ( 19 )([القصص].
ولكن الحقيقة الثابتة في ظاهر النص القرآني أن موسى ساورته نفسه أن يبطش بالقبطي(9)، وكأنه سيطر عليه الطبع القوي الذي يحضه على الانتصار للإسرائيلي الذي هو من شيعته.
قال تعالى: )فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما.... (، فإن مدلول الآية يقطع بتوجه إرادة موسى إلى قتل القبطي، وهنا نية العمد متوفرة.
وتدل الآيات دلالة صريحة واضحة على سمة الاندفاع التي يتميز بها الطبع الغضبي، وهو الذي يسعد ويلتذ ويشعر بلذة عارمة في الفعل ذاته، وينسى ما فرط منه سلفاً، وإن كان نادماً على فوارطه وبوادره، متألماً ألماً وجيعاً عند تذكرها واسترجاعها واستدعائها من مخزون الذاكرة (10).
إن حاجة الغضبي إلى ذات الفعل أهم وأبعد من الغاية من الفعل، ومن ثم فإنه لا يحفل ولا يكترث بمردود الفعل، ولو كان منطوياً على هلكه.
ومشهور عن الغضبيين: أن ردودهم قوية صادمة صارمة عنيفة مفحمة حاسمة.
إن خطورة الغضبية غير محصورة، لأن سلبيات هذه الطبيعة تنعكس على المجتمع وعلى الناس، ولذلك قرر القرآن الكريم أن المغضوب عليه من الله هالك لا محالة ).... ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ( 81) ([سورة طه] (11)
)وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ([الأنبياء]. أي: مغاضباً لقومه، ولا يصح أن يقال: مغاضباً لربه، إذ إن بغضه وغضبه على قومه كان في سبيل الله، فكيف يكون مغاضباً لله(12)؟!.
قال تعالى: )وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( 37 ) ([الشورى].
قال ابن كثير: أي: سجيتهم العفو عن الناس، وليس الانتقام من الناس(13).
وقال الشيخ الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، لكن يشترط أن يكون الحلم غير مخل بالمروءة(14).
وقال الشافعي: من استغضب ولم يغضب فهو حمار.
(وزيد عليه: من استرضي ولم يرض فهو شيطان ).
والغضوب مبغوض عادة من الناس، لأنه غير مأنوس.
وقد ثبت من المأثورات الجليلة والمسموعات القيمة أن المنجني من غضب الله هو أن لا تغضب.
والغضبي بعيد عن نفسه، منزوي عن الناس، غير مرضي عنه عند ربه ما لم يهذب من أمره.
يقول تعالى: ).... حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ( 16 ) ([الشورى].(15)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الغضب من الشيطان ). أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن.
وورد في الصحيحين وغيرهما: ( إن رحمتي سبقت غضبي ).
وفي لفظ: ( إن رحمتي [ تغلب ] غضبي ).
وقد أخرجه الشيخان وابن ماجه(16)والعجلوني في كشف الخفاء(17)، والسخاوي في المقاصد الحسنة(18)، والترمذي في جامعه الصحيح(19)، وأحمد في المسند(20)، وورد بلفظ: ( سبقت رحمتي غضبي)(21)..
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من نار ) (22).
ولذلك أوصي وأنصح الغاضب بأن يتوضأ لتساير عنه الغضب ويذهب عنه ما يجد لأن نار الشيطان يطفؤها الماء.
وقد ورد في الجامع الصحيح: ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ) (23).
وحسب الغضب من القبح أن يقول فيه المعصوم: ( الغضب يجمع الشر كله ) (24).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب )(25).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني! قال: ( لا تغضب ) فردد مراراً، فقال: ( لا تغضب ) (26).
ومن أروع ما ذكره الخطابي ( شارح سنن أبي داود ): معنى قوله: ( لا تغضب ): أجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه(27).
لكن هناك بعض الحالات تعتري فيها الحدة خيار الناس، وهي تختلف عن القوة الغضبية، لأن الحدة عرض من عوارض النفس التي تسري عن مكنون الكبت والقهر المضغوط في أطواء الضمير، ولا يقدر البشر على مغالبته، وهذا ليس صفة طبيعية ملازمة، ولكنها حال متغيرة سرعان ما تذوي وتنمحي آثارها، فهي بنت وقتها وبنت لحظتها، ورد في الحديث: ( الحدة تعتري خيار أمتي ).(28)
قال المؤرخون وعلماء السير والتراجم: إن أبا بكر رضي الله عنه كان خيراً كله على حدة فيه، وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يخشى بوادره.
وهذه البوادر لا تعدو أن تكون لوناً من الحدة الفارطة في موقف من المواقف الحرجة، لكن سرعان ما يعود الأمر إلى حافرته.
نرجسية فرعون وبطره
وردت نرجسية فرعون واستعلاؤه وأشره وبطره في ادعائه الألوهية والربوبية وجحده للإله الحق الواحد المربوب، لا رب سواه. في قوله ـ الذي رواه عنه القرآن الكريم ـ: )ما علمت لكم من إله غيري.... (38) ((29)[سورة القصص].
وهي أشبه ما تكون ـ مع الفارق ـ بعنجهية قارون، إذ جحد فضل الله تعالى عليه عندما قال: )قال إنما أوتيته على علم عندي.... (78) ((30)[سورة القصص].
أما إبليس اللعين ـ قبحه الله ـ فهو من النمط العصبي الذي يتسم بطاقة رهيبة من الانفعالية، وهذا النمط الطباعي حاد العاطفة، أذي شديد الإيذاء، ثرثار متكلم يتحدث عن نفسه كثيراً، وهو خفيف الحركة، نزق الأفعال محب للتألق والظهور... وهو من أكثر الطباع المخلوقة تحللاً من الدين وهروباً من التكليف، وميلاً إلى اللهو والاستمتاع.
ويتميز الطبع العصبي بالتشرد النفسي، والقلق المخامر والسآمة والملل وسرعة الإياس.
والنمط اللمفاوي مناقض تماماً للنمط العصبي، من حيث إنه لا انفعالي، فعال ذو ترجيع بعيد.
وإذا كان للمفاوي من أصدق الناس، فإن العصبي من أكذب خلق الله طراً.
وكما أن العصبي ليس موضوعي النظرة، فإنه في حقيقته ذاتي، لكن اللمفاوي موضوعي لاهتمامه بالموضوع.
إن اللافعالية التي يعاني منها العصبي ويكتوي بنارها هي المسؤولة عما يدهمه ويفعل به الأفاعيل، حيث تسلمه هذه اللافعالية للفراغ والضياع والتشرد والتمزق النفسي والوجداني، من ثم نرى العصبي مولعاً بالمقامرات والمغامرات الحسية غير المأمونة، وهو كثيراً ما يتورط في الأوهام الخطيرة، وهو مهدر للقيم والأخلاقيات.
والعصبي متمرد محب للظهور، على هشاشة وعدم جلادة وثبات، وهو يفتقد إلى المثابرة، ويفتقر إلى الصلابة.
من أهم سمات وأشراط هذا الطبع السقيم الرديء: الميل إلى الابتذال والتدهور الأخلاقي، مع الولوع الشديد بالأحوال الشاذة، كالسحر والجن والشياطين، مع إدمان النظر في الغيبيات... وهو في كل أحواله مهتلك على اللجاجات الفارغة، وهو يعلم في أكثر أحواله وأطواره أنه على غير الحق وأنه بعيد كل البعد عن المضمون....
ولما كان الذكاء موجوداً في كل طبائع البشر بلا استثناء إلا أنه لا توجد قاعدة ثابتة ولا قانون معين محدد لدرجة الذكاء ومستواه عند كل من هذه الطبائع. فلو تأملنا منهج إبليس ومسلكه نجده عالماً ومثقفاً واعياً: ).... أأسجد لمن خلقت طيناً (61) ([سورة الإسراء].
)خلقتني من نار وخلقته من طين (12 ) ([سورة الأعراف].
فهو على علم دقيق بأصل الخلق والخليقة، ويعرف جيداً أصل عنصره ومادة طبيعته، وجبلته الأولى، ثم هو يعرف قدر الله تعالى وعزته: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) ([سورة: ص]. ثم يستثني من يخرج عن طاعته ويتمرد على سيطرته: )إلا عبادك منهم المخلصين (83) ([سورة ص].... ثم إنه يعلم يقيناً أن الله تعالى بيده الخلق والأمر، وإن أمره بالكاف والنون، )قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) ([سورة الأعراف].
إنه كان مؤمناً بالبعث والحساب والجزاء لكن للأسف لم ينفعه علمه ولا ذكاؤه حيث تردى إلى أسفل درك، وهوى من حالق، وأورد نفسه موارد التهلكة التي لا صدر لها، وصار خسيئاً مطروداً مغضوباً عليه من رب العالمين إلى يوم الدين.

يتبــــــــــــــــــــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.53 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]