عرض مشاركة واحدة
  #338  
قديم 19-04-2008, 05:08 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

العدوى ومشروعية الوقاية

بحث للدكتور محمود ناظم النسيمي
جاء الإسلام الحنيف ومعظم العرب يعتقدون أن الأمراض المعدية إنما تعدي بطبعها وبخاصة ذاتية فيها مستقلة عن إرادة الله تعالى . واعتقادهم في ذلك كان كاعتقادهم في كل العلاقات بين المسببات وأسبابها، بأن السبب هو علة وجود المسبب دون دخل لإرادة الله تعالى ومشيئته .
ولم تكن المعارف في ذلك الزمان واضحة حول الأمراض التي تعدي والتي لا تعدي. فقد يصدق حكمهم على مرض بالسراية إذا بنوه على كثرة المشاهدة كحكمهم على الجرب بأنه مرض معدي. وقد يحسب بعضهم أن الأمراض كلها تسري. وقد يتهم مرض غير سار بالسراية كما هو ظنهم بالبرص .
ولا عجب في اضطراب حكمهم وتفريقهم للأمراض السارية، لأن الطب في زمانهم كان بدائياً، وكان القول في منشأ معظم الأمراض قائماً على الظنون والأوهام.
بدأ اكتشاف الجراثيم في أوئل القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري) . ثم في خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والرابع الأول من القرن العشرين استكملت المعلومات حول الأمراض السارية وجراثيمها الممرضة وطرق تشخيصها واستخدام التحاليل المخبرية لوضع التشخيص وتفريق الأمراض الملتبسة بعضها مع بعض.
جاء الإسلام والمعارف الطبية في الجزيرة العربية ضئيلة بل وفي العالم أجمع . جاء وليس من مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح دقائق الطب والعلوم المختلفة، فتبين مثلاً أنواع الأمراض وطرق تشخيصها وآلية حدوثها والأنواع المعدية منها. وإنما ذلك متروك لجهد البشر وتطور العلوم الكونية . ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بتعليم الله تعالى له، وبيّن حقائق العلوم كلها لما أدرك الناس ما يحدثهم به، لأن مستوى العلوم الدنيوية لما يبلغ بعد درجات عليا، ولأن إفهام تلك الحقائق يتطلب عشرات السنين، بل إن التخصص في فرع من فورع العلوم الدينية أو الدنيوية يستهلك عمر الباحث، ولا يزال ينال فهما جديداً وتطوراً واكتشافاً، ولو أن الله تبارك وتعالى جعل العلوم والصناعات تثبت عند حدٍ لا تتعداه، لما ترك الإنسان لذة البحث العلمي لبلوغ أفكار ومجالات ومبتكرات جديدة أفيد وأعلى .
ولذلك كله قضت الحكمة الربانية أن تكون العلوم الكونية متروكة لجهد البشر تنمو وتتطور، كلما بلغ الإنسان فيها مرحلة جديدة أقر بأنه " وفوق كل ذي علم عليم " وأخذ يتطلع إلى مرحلة أعلى ولسان حاله يقول : " وقل ربي زدني علماً " معترفاً بأن العلم المطلق والحقيقة المطلقة إنما هما لله تبارك وتعالى وصدق الله العظيم : " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " .
وبما أن تعاليم الإسلام جاءت لدين وللدولة ومن مهمات الدولة الأخذ بوسائل الطب الوقائي، فليس من المستغرب أن نرى في تلك التعاليم أنظمة صحية توافق كل زمان وكل قوم بدائيين كانوا أم حضاريين. فجاءت تعاليم الرسول الكريم صلوات الله عليه تثبت وجود العدوى والسراية في بعض الأمراض وتوجب الحجر في الأمراض الوبائية وسيأتي تفصيل ذلك .
ولكن بعض الأحاديث النبوية أتت بلفظ (لا عدوى ) فذهب العلماء الأولون إلى التوفيق بين الشطرين السابقين من الأحاديث وكانت لهم ـ جزاهم الله خيارً ـ آراء مختلفة ، وذهب معظمهم إلى أن نفي العدوى إنما هو نفي لمعتقد العرب فيها لا لوجودها كما سيأتي تفصيل ذلك .
وكان السبب الرئيسي لاختلاف فهمهم وتأويلهم عدم وضوح الناحية الطبية في ذلك في عصرهم فهم معذورون ولسعيهم مشكورون .وقد توسع في ذكر آرائهم وأوج الجمع بين أحاديث هذا البحث الحافظ ابن حجر المتوفي سنة 852هـ كتابه الواسع (فتح الباري بشرح البخاري)، وبما أن بعض تلك المفاهيم والأوجه مفرقة في بطون الكتب، وأن علماء عصرنا قد ينقل أحدهم هذا القول أو ذاك خلال حديثه أو خطبته أو جوابه لسؤال يعرض عليه، فقد رأيت من واجبي أن أدرس مجموعة الأحاديث الواردة في موضوع العدوى وفي الأمراض السارية وما قاله الشراح في ذلك وأن أقابل ذلك بالحقائق الطبية الثابتة اليوم، ليكن فهمي للحديث الواحد منها منسجماً مع مجموعها ولأختار من أقوال العلماء وشراح الأحاديث الأبرار ما ينسجم مع حقائق الطب الحديث. ثم أقدم نتيجة بحثي إلى القراء الكرام مستعيناً بالله تعالى العليم الخبير.
أ‌. لمحة طبية :
سأورد من المعلومات الطبية ما يوضح معنى العدوى والسراية وما يساعد على فهم الأحاديث الشريفة المتعلقة بمقالي هذا .
إن أسباب الأمراض مختلفة جداً كالسقوط والجروح أو التخمة أو الإنسمام أو سوء التغذية أو القرحة الهضمية أو تشمع الكبد وغير ذلك . ومن هذه الأسباب تلك العوامل الحية التي تسمى بالجراثيم وتسمى الأمراض التي تحدث عنها بالإنتانات . إن العناصر الأساسية في حصول الإنتانات هي :
1. الجراثيم المرضية .
2. البدن المستعد
وكثيراً ما تكون هذه الإنتانات الجرثومية سارية أومعدية أي تنتقل من مريض إلى سليم مباشرة أو بوسيلة ما وتسمى عندئذ بالأمراض المعدية أو الأمراض السارية .
ثم إن الأمراض المعدية إما أن تظهر بشكل محدود منفرد وفي أحوال عارضة، وهي الأمراض المعدية الأفرادية كالسل والتيفوئيد … الخ .. وإما أن تظهر بشكل دائم مستمر في مجموعة صغيرة من البلاد المتاخمة وهي الأمراض المستوطنة. مثال ذلك الطاعون والكوليرا وهما مرضان وبائيان ولكنهما قد يصبحان من الأمراض المستوطنة كما هو الحال في الهند. وإما أن تعم بلواها جمعاً غفيراً من الأنفس والبلاد في أوقات طارئة ومناسبات مختلفة وتسمى عندئذ بالأمراض الجائحة أو الوبائية كالهيضة الأسيوية (الكوليرا) والطاعون .
وإن كانت الجائحة واسعة الانتشار جداً سميت بالجائحة الطامة أو الوباء العام.
فالعدوى أو السراية هي اتصال جرثوم مرضي بإنسان صحيح وحدوث أثره المرضي[1]. وبما أن في الأحاديث النبوية التي سأوردها في هذا المقال وفي كلام الشراح ذكراً للأمراض التالية : الطاعون ـ الجذام ـ الجرب ـ البرص، رأيت من المفيد أن أقدم أيضاً تعريفاً بكل مرض منها بالمقدار الذي يساعد على فهم ما ورد فيه في كتب السنة المطهرة متجنباً الإسهاب الذي هو من اختصاص المواضيع الصحية والطبية الصرف.
الطاعون :
مرض مشترك بين الإنسان والجرذ يتصف بالتهاب العقد اللنفاوية وباندفاعات وبأعراض رئوية أحياناً، عاملة عصية يه رسن.
ينتشر الطاعون من القاضمان الوحشية إلى الفأر الأهلي (أو بالعكس) ومنه إلى الإنسان وبين المريض والصحيح من البشر أيضاً، وأكثر الإصابات تنتقل من الفأر والجرذان بواسطة البراغيث . وعند إصابة الجرذ بالطاعون تتركه براغيثه السليمة، فإن لم تجد حيواناتها المعتادة أو صادفت إنساناً علقت به ولقحته بدائها، فتبدأ الجائحة البشرية عندئذ وتستمر ما وجدت تلك الحشرات الملوثة فرصة للوصول إلى الإنسان السليم.
وسأبين في مقال خاص (توافق الأحاديث النبوية والطب الحديث في مرض الطاعون ) .
الجذام :

هو مرض إنتاني مزمن وسار (معدي ) عامله الجرثومي عصية هانستن.
يتصف سريرياً بآفات جلدية واضطرابات عصبية وقد يصيب العظام والأحشاء . وقد عرف منذ العصور القديمة وجاء ذكره في التوراة . ويلاحظ أن انتشاره كان كبيراً في العصور السابقة، بينما أصبحت إصاباته في العصر الحاضر قليلة، يقع معظمها في البلاد الحارة والمعتدلة الحارة .
سراية الجذام ضعيفة، وعدواه أخف من عدوى السل، ولابد من التماس الصميم والمديد لينتقل المرض. ولذلك تكون أكثر حوادث الجذام أسرية، أي تظهر بين أفراد الأسرة التي تعيش معاً في مكان واحد. ثم إن مدة دور الحضانة غير معلومة ولكنها على كل حال طويلة ويعتبر الحد الوسط فيها بين (6ـ 8)سنين .
إن الغشاء المخاطي لطرق التنفس هو المدخل الغالب لرذاذ القطران الأنفية البلعومية الصادرة عن المريض والحالمة للعامل الممرض . وقد يكون الانتقال من الأورام المتقرحة إلى الجلد المجروح ، تلوث الأورام الأرض فيطأها قدم مجروحة فتمس مفرزات التقرح الجرح من الجراثيم. وتبدأ أعراض الجذام خفية كما هو في السل.
وللجذام شكل ورمي وشكل نظير الدرني. ففي الشكل الورمي يصبح منظر الجبهة والخدين والأنف والذقن كتلة مرتشحة عميقة الأخاديد عليها عقيدات تعطي الوجه منظر وجه الأسد فيقال لذلك السحنة الأسدية[2].
كتب بعضهم في إحدى رسائله نقلاً عن إحدى المجلات : إن الطب اكتشف أن جرثومة الجذام تشبه الأسد، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وفرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد " . ثم تواجهت معه سنة 1950 في دمشق أيام دراستي في كلية الطب وقلت له هلاّ سألت الأطباء عن شكل جراثيم الجذام قبل أن تنقل في رسالتك ما هو خطأ.. فقال لي ليقل من بعدي أخطأ فلان
إن تشبيه الفرار من المجذوم بالفرار من الأسد، إنما هو بجامع الخوف من كل، ولا يشترط في هذا التشبيه التماثل والتشابه بين جرثوم الجذام والأسد ولا بين المجذوم والأسد، وإن كان الواقع يثبت أن سحنة بعض المجذومين تشبه سحنة الأسد.
الجرب:
داء جلدي حاكّ ومعدٍ، يتظاهر بآفة جلدية خاصة وواسمة هي الثلم. وهو يعرف في بلادنا باسم حكاك لسبب الحكة الشديدة التي ترافقه . سبب طفيلي يسمى هامة الجرب.
أما الجرب الحيواني فهو يصيب القطط والكلاب والخيل والإبل وغيرها من الحيوانات، وقد ينتقل إلى الإنسان مسبباً عنده حكة حطاطية شبيهة بالأكال الحاد، إلا أنه لا يحدث إتلافاً مطلقاً. إن إصابة الإنسان بالجرب الحيواني تشفى من نفسها وبسهولة بواسطة الصابون العادي.
البرص:
ويعرف في الطب بالبهق أيضاً، وهو ظهور بقع صريحة الحدود في قلب منطقة مفرطة الصباغ، وإصابته مكتسبة تصيب الجنسين في مختلف الأعمار.
إن أسباب وآلية حدوثهلا تزال غامضة وإذا كان الواجب يقضي بالتحري عن الإفرنجي في كل حادثة بهق، إلا إنه يجب عدم اعتبار كل حادثات البهق من منشأ إفرنجي . أ هـ .
أقول : نقل شراح الحديث رأي الأطباء الأقدمين بأن البرص يعدي وأنه يورث نقيض رأي الطب الحديث. ولا يزال البدو يتخوفون منه ولا يتزوجون من أسرة فيها مصاب بالبرص. وقد أدهشني ما قاله والد شابة مصابة بالبرص في عيادتي أمامها بأنهما يرغبان لها الموت، لأنه إذا شاعت إصابتها بالبرص امتنع الناس من زواج أخواتها وبنات عمها أيضاً، فوضحت لهم خطأ الناس في ذلك وأرشدتهم إلى اختصاصي بأمراض الجلد.
ب ـ مشروعية الوقاية من الأمراض السارية :
كما اعتنى الإسلام بتصحيح الإنسان بخالقه العظيم وتصحيح عبادته له إلى شرعة يرضاها، وكما اعتنى بتحرير عقله وتفكيره من الأوهام والخرافات والتقليد الأعمى والإمّعية الهوجاء، ومن أثر جهالة الشهوات وطغيان العواطف على المحاكمة والحكم العقلاني . وكما أعنتى أيضاً بمكارم الأخلاق وبوضع أسس التعامل بين الناس والرقي الحضاري القويم، طالما اختلف علماؤهم وعباقرتهم في رسم الطريق السويّ وتحقيق التلاؤم وعدم التضاد بين مبادئ وقوانين شعب الحياة المختلفة، كما أعتنى الإسلام بذلك كله، لأنه شرعة الله تعالى، اعتنى أيضاً بصحة الإنسان، فوضع له كثيراً من التعاليم والمناهج الصحية لحفظ جسمه وأجهزته ووقايتها من الأمراض السارية وغير السارية .
فجاءت تعاليم محمد صلوات الله عليه أعلى من المستوى الصحي الذي كان يحيا به العرب وغيرهم في صدر الإسلام، دافعة أتباعه إلى دراسة الطب والعلوم النافعة المختلفة مما توصلت إليه الأمم السابقة، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها، وكانت تلك التعاليم حافزة للأتباع على بذلك الجهد في البحث لتنظيم وتطوير فن الصحة وطرق الوقاية بما يتلاءم مع تطور العلوم والمعارف.
وما يهمنا في موضوعنا هذا هي التعاليم الخاصة بالوقاية من الأمراض السارية وهاكم نماذج منها:
1. إن من حكمة التمسك بالتعاليم الإسلامية المتعلقة بالنظافة والطهارة هي البعد عن مواطن الجراثيم والأخذ بأسباب الوقاية من الأمراض السارية .
كما أن من حكمتها الأخذ بوسائل صحة البدن ونظافة المظهر . وتلك التعاليم معروفة لدى جميع المسلمين، فإن لفظ الطهارة هو العنوان الجامع لأبوابها التي ملئت بها كتب الفقه .
ويكفي في بيان منزلتها قول الله تبارك وتعالى : " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " [3] .
2. وفي الشرع الإسلامي تعاليم كثيرة تثبت مشروعية الأخذ بأسباب الوقاية من المخاطر والأضرار ووصول الحشرات ناقلات الأمراض، وهاكم مثال عنها: أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إطفاء المصابيح الزيتية قبل النوم (السراج ) وفي ذلك وقاية من فساد هواء التنفس على النائم، ووقاية أيضاً من حدوث حريق أثناء الليل إن جرّت الفأرة فتيل المصباح الزيتي، وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى تغليق الأبواب قبيل النوم وقاية من سارق أو سبع كاسر وحيوان ضار. وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ربط سقاء الماء وإلى تغطية وعاء الطعام والشراب لئلا يصل إليه الغبار أو الهوام السامة أو الحشرات الناقلات للجراثيم كالذباب، أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم وغلقوا الأبواب وأوكوا الأسقية وخمِّروا الطعام والشراب ولو بعود تعرضه عليه " [4]فترى في هذا الحديث الشريف إرشاد الرسول الأعظم إلى الأخذ بالأسباب الوقائية يتعلق بصحة البيئة .
3. وردت أحاديث نبوية معناها المتبادر الأول إثبات وجود العدوى وشرعية الوقاية من الأمراض المعدية .
1. الحديث الأول : عن عبد الله بن عامر أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج إلى الشام، فلما كان بسرغ، بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه" .
2. الحديث الثاني : عن إبراهيم بن سعد قال : سمعت أسامة بن زيد يحدث سعداً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها " فقال : أنت سمعته يحدث سعداً ولا ينكره ؟ قال نعم [5]
يثبت هذان الحديثان وما يشبههما وجود العدوى، ويدلان على مشروعية الوقاية من انتشار الأمراض السارية والوبائية، وبهذين الحديثين وأمثالهما يتلاءم مع حقائق الطب وفن الصحة ومع المستوى العلمي الطبي والإمكانيات العملية في زمانه صلى الله عليه وسلم . ثم بعد أن عرفت جراثيم الأمراض السارية ومدة حضانة المرض ووسائل تشخيصه، وبعد أن عرفت اللقاحات الواقية من بعض الأمراض ومدى تمنيعها ومدة فائدتها وبعد أن عرفت طرق التأكد من أن الصحيح في الظاهر غير حامل لجراثيم الوباء حددت مدة الحجر بالنسبة لكل مرض وبائي وبالنسبة للمصابين به أو المخالطين لهم وبالنسبة للمدينة أو القرية الموبوءة وبالنسبة للقطر الموبوء.
3. الحديث الثالث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يوردنّ ممر ض على مُصحّ " [6]فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك صاحب الإبل أو الماشية المريضة بمرض سار كالجرب أن يأتي بها إلى جانب إبل ماشية سليمة . ولولا أن العدوى تحدث بمشيئة الله كحدوث كل المسببات عند أسبابها، لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لمجرد رفع الشك والوسواس كما قال بذلك بعضهم. وقد أشار السلف رحمهم الله تعالى إلى هذا الفهم من إثبات العدوى بهذا الحديث الشريف، فقد روى البخاري عن الزهري قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا عدوى " قال أبو سلمة بن عبد الرحمن سمعت أبا هريرة عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا توردوا الممرض على المصح " .
فكان أبو سلمة التابعي يشير إلى أن نفي العدوى ليس عاماً، فإن أبا هريرة رضي الله عنه الذي يروي ذلك، يروى ما يثبتها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4. الحديث الرابع : قال صلى الله عليه وسلم : " .. وفرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد " فالابتعاد عن المجذوم سبب لاتقاء رذاذ القطرات الأنفية البلعومية الصادرة عن المريض أثناء الكلام والسعال والعطاس، والحاملة غالباً لجراثيم الجذام . وسيأتي تمام الحديث.
5. الحديث الخامس : " كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا قد بايعناك فارجع "[7].
وبمشروعية الوقاية من الأمراض السارية وتجنب مكان الأوبئة، وإن ذلك لا يتنافى مع الإيمان بالقدر بلغنا فهم عمدة الصحابة رضوان الله عليهم .
فهم ذلك سيدنا عمر بن الخطاب ومشيخة قريش من مهاجرة الفتح، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم[8]. وبذلك ايضاً كان فهم سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين قال : " إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنين : أن يقول قائل خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان[9]. انتبه لقوله رضي الله عنه فمن أراد أن يتنزه عنه حيث المعنى فمن أراد أن يتوفى منه.
شروط العدوى :
بما أن إيضاح معنى " لا عدوى " سيتطرق إلى عقيدة هامة من عقائد المسلم، وهي أن مشيئة الله تعالى ركن أصيل وشرط أساسي وعلة العلل في نجاح أي سبب وأي شرط في بلوغ النتيجة المسببة، وذلك ما يعبر عنه الاختصاصيون في علم التوحيد بأن المسببات تأتي عند الأسباب لا بها، فرأيت أن أقدم بحثاً موجزاً عن شروط العدوى في الطب، ثم أوضح صلة تلك العقيدة مع هذه الشروط قبل الشروع بإيضاح معنى " لا عدوى " .
بينت سابقاً أن العدوى هي اتصال العامل المرضي ( من جراثيم أو طفيليات ) بإنسان صحيح وإحداثه أثره المرضي.
يثير التعرف السابق للعدوى الأسئلة التالية : ما هي تلك العوامل الممرضة وأين كانت؟ ثم كيف خرجت من مكمنها؟ وبأي واسطة وصلت إلى الإنسان الصحيح؟ ومن أي منفذ دخلت جسمه؟ وهل كلما وصلت إليه أو دخلت جسمه أحدثت فيه المرض الساري؟ تلك أسئلة تجيب عليها شروط العدوى وهي:

1. العوامل الممرضة : وهي أنواع مختلفة، منها الجراثيم بالخاصة كعصيات الطاعون وضمات الكوليرا وعصيات الجذام، ومنها طفيليات حيوانية كهامة الجرب، أو نباتية كطفيليات الفطور الجلدية، ومنها عوامل غير مرئية أو حمات راشحة كحمة الأنفلونزا.
2. أما مكمن العوامل الممرضة، الذي يحفظها ويساعد على نموها وتكاثرها، والذي يعتبر مصدر العدوى في الأمراض السارية في البشر، فهو الإنسان نفسه غالباً كما في الجذام، أو بعض الحيوانات التي تحيط به كالجرذ والقاضمات الوحشية فإنها مكن الطاعون .
3. تخرج تلك العوامل من مكامنها بواسطة المفرزات أو المفرغات.
وتختلف طرق خروجها باختلاف أنواع الأمراض السارية واختلاف توضعاتها.

يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.76 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.81%)]