عرض مشاركة واحدة
  #773  
قديم 12-07-2008, 04:46 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ..... لمسات بيانية من سورة البلد

وإذا كانت بمعنى اسم المفعول، أي: مستحل قتلك وإيذاؤك لا تراعى حرمتك، فهي مرتبطة بذلك ارتباطاً واضحاً فهذا كله مشقة ونصب.
وإذا كانت بمعنى أنك حل من أعمالهم متحرج من آثامهم بريء منها فهي مرتبطة بها كذلك، ذلك أنه يكابد ويجاهد ليخرج عن مألوف عادات قومه وأفعالهم، ويكابد للقيام بفضائل الأعمال وجلائلها، وهي أمور مستكرهة على النفس ثقيلة عليها، تحتاج إلى مكابدة وقوة للقيام بها، قال تعالى: (إنا سنقلى عليك قولاً ثقيلاً) [المزمل]. وقال صلى الله عليه وسلم : "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".
فهي في كل معانيها مرتبطة بالجواب أحسن ارتباط وأتمه.
وكذلك قوله: (ووالد وما ولد) مرتبط بالجواب أحسن ارتباط وأتمه، كما ذكرنا فهو مرتبط بـ (الكبد) بمعنييه: المشقة والقوة. فقد ذكرنا أن الولادة مشقة وعنت، وهي تحتاج إلى قوة ومثابرة ومكابدة لحفظ المولود وتربيته وبقائه وتوفير غذائه.
كما أن هذه الآية مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة، ومشاق الجوع وغيرها أتم ارتباط، كما هو ظاهر وكما سنبين ذاك.
(أيحسب أن لن يقدر عليه أحد).
قيل: إن المعني بقوله: (أيحسب) بعض "صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتضعف للمؤمنين أن لن تقوم قيامة، ولم يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه"[27].
وقيل: إن التهديد "مصروف لمن يستحقه"[28].
وقيل: إن المعني به الإنسان، أي: أيظن هذا الإنسان الذي خلق مكابداً شديداً، أن لن يقدر عليه أحد؟
جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن الضمير في (أيحسب) عائد على الإنسان، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته، يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده"[29].
وجاء في (التبيان): "ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه من خلقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور.
فإن الذي خلقه كذلك أولى بالقدرة منه وأحق. فكيف يقدر على غيره من لم يكن قادراً في نفسه. فهذا برهان مستقل بنفسه. مع أنه متضمن للجزاء الذي مناطه القدرة والعلم فنبه على ذلك بقوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) وبقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) فيحصي عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه"[30].
وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فالذي خلق يكابد المصائب والمشاق لا بد أن يكون خلاق مستعداً لاحتمال ذلك ولا بد أن يكون شديد الخلق قوياً، وهو من معاني (الكبد) كما ذكرنا.
قال تعالى: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) [الإنسان] فهذا الذي خلق شديداً قوياً ويكابد المصائب والمشاق قد يسبق إلى وهمه أن لن يقدر عليه أحد، فيهدده ربه ويتوعده إذا كان عنده هذا الحسبان بأن الذي خلقه وزوده بهذه القوة والشدة أقدر منه على نفسه.
والظاهر أن هذا الحسبان واقر في نفوس البشر فهم يتصورون أنه لا يتمكن منهم أحد ولا يقدر عليهم أحد، ولذا تراهم يعيشون في غطرسة وكبرياء وظلم بعضهم لبعض معتصمين بجبروتهم وقوتهم لا يحسبون لمن خلقهم حساباً، ولو حسبوا حساباً لخالقهم وربهم القوي القادر لتطامنوا وتواضعوا.
ثم إن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) أي: ألا يتصور هؤلاء الذين ينتهكون محارم البلد الحرام ولا يرعون لك حرمة فيؤذنك ويعذبونك مستندين إلى قدرتهم وجبروتهم ألا يظنون أن هناك من هو أقدر عليهم منهم عليك؟
فهي مرتبطة بما قبلها أتم ارتباط وأحسنه.
جاء في (تفسير الرازي): "اعلم أنا إن فسرنا (الكبد) بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد، وإن فسرناه بالمحنة والبلاء، كان المعنى تسهيل ذلك على القلب، كأنه يقول: وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة، أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟"[31].
(يقول أهلكت مالاً لبداً)
اللبد: هو الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع[32].
ومعنى الآية: إنه يقول إنه أنفق مالاً كثيراً، وهو يقول ذاك إما على جهة الافتخار أو على جهة التحسر.
جاء في (الكشاف): "يريد كثرة ما أتفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها، مكارم ويدعونها معالي ومفاخر"[33].
وجاء في (روح المعاني): "أي: يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومباهاة وتعظماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة…
وقيل: المراد ما تقدم أولاً، إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه، وذلك يوم القيامة. والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ"[34].
وقد عبر عن الإنفاق بالإهلاك، فإنه لم يقل: (أنفقت مالاً) كما هو الشائع في استعمال القرآن الكريم، واختيار تعبير الإهلاك في هذا الموطن أحسن اختيار وأجمله، فإنه المناسب لجو السورة، وذلك أنه مناسب لجو المشاق والشدائد التي تؤدي إلى الهلاك وتفضي إليه. وهو متناسب مع ما يعانيه الرسول وأصحابه في البد الحرام من الشدائد والمحن التي قد أدت ببعضهم إلى الهلاك كياسر وسمية، ومتناسب مع حسبان الإنسان أن لن يقدر عليه أحد فيهلكه، ومتناسب مع ذكر العقبة التي قد تفضي إلى الهلاك. ومتناسب مع ذوي المسغبة من اليتامى والمساكين وهلاكهم من الجوع إن لم يطعموا، ومتناسب مع خاتمة أصحاب المشأمة التي هي هلاك مقيم.
وعبر عن الإنفاق بالإهلاك لأسباب أخرى غير هذه.
جاء في (روح المعاني): "وعبر عن الإنفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً"[35].
وجاء في (التبيان): "ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله: (أهلكت مالاً لبداً) وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجوهه التي أمر بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكاً له بل تقرباً به إلى الله وتوصلاً به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاك له. فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه بها إهلاك له"[36].
فانظر أي اختيار هذا. ثم انظر أيحسن (أنفقت) مكان (أهلكت) ههنا؟
واختيار (اللبد) في الآية مكان (الكثير) اختيار دقيق ذلك أن اللبلد معناه الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع.
جاء في (الكشاف): "لبداً قرئ بالضم والكسر جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة"[37].
وهو متناسب مع اجتماع الكفرة لإيذاء الرسول والمسلمين لصدهم عن دعوتهم كما قال تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا).
فاجتماع المال في الإهلاك مناسب لاجتماع الكفرة على الرسول لإهلاكه، وإهلاك دعوته وهو حل بهذا البلد.
فانظر حسن هذا الاختيار وعلو هذا التعبير.
ثم انظر جو الاجتماع الذي تفيده كلمة (لبد) وشيوعه في السورة في الوالد وما ولد، وفي العينين، وفي اللسان والشفتين في آلة النطق، وفي النجدين وليس نجداً واحداً فإنه ذكر نجدين ولم يذكر نجداً واحداً كما في قوله تعالى: (ثم السبيل يسره) [عبس] وقوله: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) [الإنسان] وفي تفسير العقبة بجملة أمور، وفي ذكر المؤمنين بصيغة الجمع (الذين أمنوا) واجتماعهم على التواصي بالصبر والمرحمة أي: يوصي بعضهم بعضاً، ثم في اجتماع أهل الكفار في جهنم وإيصاد النار عليهم.
فانظر حسن اختيار كلمة (لبد) ههنا، ثم انظر هل تغني عنها كلمة (الكثير)؟
(أيحسب أن لم يره أحد).
والمعنى:أيظن هذا الإنسان الذي يدعي أنه أهلك المال الكثير أنه لم يره أحد؟ أو يظن أن أعماله تخفى لا يطلع على حقيقتها أحد؟ فالله يعلم إن كان أنفق مالاً أو لم ينفق شيئاً، وإنما كان مدعياً كاذباً في قوله. وإذا كان قد أنفق فهو يعلم الغرض والمقصد الذي أنفق المال من أجله.
جاء في (الكشاف): "يعني أن الله كان يراه وكان عليه رقيباً. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان"[38].
وجاء في (البحر المحيط): "أيحسب أن أعماله تخفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء"[39].
وجاء في (التبيان): (ثم وبخه بقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) وأتى ههنا بلم الدالة على المضي في مقابلة قوله: (أهلكت مالاً لبداً) فإن ذلك في الماضي، أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه؟"[40].
وأنت ترى مما مر أنه ذكر من صفات الله تعالى القدرة والعلم الذي دلت عليه الرؤية، وهما الغاية في التهديد.
ثم أقام الدليل على قدرته وعلمه بقوله:
(ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين)
أفترى أن الذي يجعل للإنسان عينين يبصر بهما لا يبصر هو ولا يرى وأن الذي أقدر الإنسان على النطق لا يستطيع أن يتكلم، وأن الذي هداه إلى طريقي الخير والشر ليس عنده علم؟
جاء في (تفسير الرازي): "واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) أقام الدلالة على كمال قدرته فقال: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) [41].
وجاء في (التبيان): "ثم ذكر برهاناً مقدراً أنه سبحانه أحق بالرؤية وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما. فكيف يعطيه البصر من لم يره؟ وكيف يعطيه آلة البيان من الشفتين واللسان، فينطق ويبين عما في نفسه ويأمر وينهى من لا يتكلم ولا يكلم، ولا يخاطب ولا يأمر ولا ينهى؟
وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه؟
ومن جعله عالماً بنجدي الخير والشر ـ وهما طريقاهما ـ أليس هو أولى وأحق بالعلم منه"[42].
ثم انظر من ناحية أخرى إلى ارتباط قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين) بقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) وهو ارتباط العين بالرؤية، وارتباط قوله: (ولساناً وشفتين) بقوله: (يقول أهلكت مالاً لبداً) فإن اللسان والشفتين، هما آلة النطق وبها يقول ما يقول. فهو يتقلب بنعم الله ويحاربه ويحارب أولياءه ورسله ويحارب دعوته.
(وهديناه النجدين)
النجد: هو الطريق العالي المرتفع[43].
جاء في (لسان العرب): "النجد من الأرض قفافها وصلابها، وما غلط منها وأشرف وارتفع واستوى… ولا يكون النجاد إلا قفاً أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل الجبل معترضاً بين يديك يرد طرفك عما وراءه"[44].
والمقصود بالنجدين: طريقا الخير والشر. وقيل: الثديان[45]. والأول أشهر وهو الذي ذهب إليه عامة المفسرين. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إنما هما النجدان، نجد الخير ونجد الشر ولا يكون نجد الشر أحب إلى أحدكم من نجد الخير"[46].
واختيار كلمة (نجد) للطريق ههنا اختيار لطيف مناسب، فإنه لم يقل كما قال في مواطن أخرى (إنا هديناه السبيل) أو (ثم السبيل يسره) أو (اهدنا الصراط المستقيم) أو (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) ذلك أن التعبير مناسب لجو السورة فإن سلوك النجد فيه مشقة وصعوبة لمات فيه من صعود وارتفاع فهو مناسب للمكابدة والمشقة التي خلق الإنسان فيها، ومناسب لاقتحام العقبة وما فيه من مشقة وشدة.
(فلا اقتحم العقبة)
العقبة: "طريق في الجبل وعر… والعقبة الجبل الطويل يعرض للطريق، فيأخذ فيه، وهو طويل صعب شديد"[47]. وسميت بذلك لصعوبة سلوكها([48]).
والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة[49] والقحمة هي الشدة[50] والمهلكة والأمر العظيم[51].
والمقصود بالعقبة: الأعمال الصالحة التي سيبينها على سبيل الاستعارة.
جاء في (البحر المحيط): "العقبة استعارة لهذا العمل الشاق من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منها وكان صعوداً، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها… ويقال: قحم في الأمور قحوماً: رمى نفسه من غير روية"[52].
وجاء في (روح المعاني): "وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى… ويجوز أن يكون قد جعل ما ذكر اقتحاماً وصعوداً شاقاً، وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة"[53].
ومعنى الآية أنه: "لم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين… والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه، هو الإنفاق المرضي النافع عند الله لا أن يهلك مالاً لبدا في الرياء والفخار، فيكون مثله (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم) الآية "[54].
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها، حتى يقتحمها بالإحسان إلى خلقه بفك الرقبة، وهو تخليصها من الرق، ليخلصه الله من رق نفسه ورق عدوه، وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة، وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه. وهو تصديق خبره وطاعة أمره وابتغاء وجهه وبنصيحة غيره أن يوصيه بالصبر والرحمة ويقبل وصية من أوصاه بها، فيكون صابراً رحيماً في نفسه معيناً لغيره على الصبر والرحمة"[55].
واختيار هذا التعبير أنسب شيء ههنا، فاختيار (العقبة) بعد (النجدين) اختيار بديع، وهو كما جاء في (روح المعاني): إن ذكرها بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة، ذلك أن النجد: وهو الطريق العالي المرتفع يؤدي إلى العقبة، وهي الطريق الوعر في الجبل، فإن العقبة تقع في النجاد غالباً.
واختيار لفظ (الاقتحام) وما فيه من شدة ومخاطرة هو المناسب لبيان وعورة وصعوبة هذه العقبة، فإن لم يعبر عن ذلك بالاجتياز ونحوه، مما يدل على شدة هذه العقبة، فانظر كيف أن كل لفظة وقعت في مكانها المناسب وأن اختيار كل لفظة اختيار مناسب لجو السورة. فكل من الاقتحام والعقبة مناسب لقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ذلك أن من معاني (الكبد) المشقة والقوة، وأن اقتحام العقبة فيه مشقة وتعب كما أنه يحتاج إلى قوة وشدة. فانظر حسن المناسبة. كما أن هذه الآية تناسب ما بعدها من المشقات والشدائد التي يعانيها المسكين واليتيم، وفي اليوم ذي المسغبة.
ثم انظر علاقة هذه الآية بأول السورة وخاتمتها، وهو كيف أن الرسول كان في حال اقتحام للعقبة، وهو حال ببلد الله الحرام، يلقى ما يلقى من العنت والمشقة في تبليغ دعوة ربه. وبخاتمتها وهم الذين لم يقتحموا العقبة، فبقوا في عقبة، جهنم أبد الآبدين، وكانت النار عليهم مؤصدة.
ثم إن اختيار (لا) في هذا الموطن اختيار عجيب دقيق، وهو ما وقف عنده النحاة والمفسرون وحاولوا تخريجه وتفسيره.
فقد ذهب قسم منهم إلى أنها نافية للفعل الماضي، أي: (فلم يقتحم العقبة). ومن المعلوم أن (لا) إذا نفت الفعل الماضي المعنى، وجب تكرارها، إلا ما ندر نحو قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى) في حين لم تتكرر ههنا، وأجابوا عن ذلك بأنها مكررة في المعنى لأن (العقبة) مفسرة بشيئين: فك الرقبة، وإطعام المسكين فكأنه قال: فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً"[56].
ومن النادر الذي دخلت فيه (لا) على الفعل الماضي المعنى ولم تكرر قول، أبي خراش الهذلي:
إن تغفر اللهم تغفر جماً
وأي عبد لك لا ألما
أي: لم يلم. والمعنى: وأي عبد لم يذنب
وقول الشاعر:
وكان في جاراته لا عهد له
وأي أمر سيئ لا فعله
أي: لم يفعله[57].
قالوا: وهي هنا بمعنى (لم) وتكرارها كثير وهو غيرواجب[58].
جاء في (روح المعاني): "والمتيقن عندي أكثرية التكرار، وأما وجوبه فليس بمتيقن"[59].
وقسم ذهب إلى أنها في الآية دعاء، فلا يلزم تكرارها، كقولهم: (لا فض الله فاك) و(لا عافاه الله) وهي هنا دعاء عليه أن لا يفعل خيراً[60].
وقيل: إن الفعل يراد به الاستقبال، بمعنى لا يقتحم العقبة، وإذا كان الفعل الماضي دالاً على الاستقبال لم يلزم تكرارها[61].
جاء في (المغني): "ومثله في عدم وجوب التكرار بعدم قصد المضي، إلا أنه ليس دعاء قولك : (والله لا فعلت كذا) وقول الشاعر:
حسب المحبين في الدنيا عذابهم
تالله لا عذبتهم بعدها سقر"[62]
وجاء في (الفوائد في مشكل القرآن) للعز بن عبد السلام في هذه الآية: "ويشكل النفي بـ (لا) وهي إنما تنفي الاستقبال.
والجواب: إنها بمعنى (لم) والصحيح اشتراكهما… وعدل إليها لأن النفي بها أبلغ، لما توهمه من نفي الاستقبال في أصل الوضع، أوي جعلها على بابها، أي: صفة هذا يقتضي أنه لا يقتحم العقبة أبداً، فيكون ذماً له باعتبار صفته لا باعتبار عدن فعله وتضمنها معنى (لم) فيكون الذم أيضاً لعدم الفعل في الماضي"[63].
وقيل هي للاستفهام، والتقدير: أفلا اقتحم العقبة، وقد حذفت الهمزة، والمعنى: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير؟"[64]
وقال آخر: هي تحضيض والأصل: ألا اقتحم العقبة ثم حذفت الهمزة، وهو ضعيف ولا يعرف أن (لا) وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة[65].
هذا أبرز ما قيل في (لا) هذه.
والذي يبدو لي والله أعلم أن هذا التعبير جمع معاني عدة في آن واحد.
فهو يحتمل المضي، أي أن هذا الإنسان الذي يذكر عن نفسه أنه أهلك مالاً كثيراً ويحسب أن لن يقدر عليه أحد، وأنه لم يطلع أحد عليه فيما يفعل ـ سواء كان هذا واحداً معيناً أم كان صنفاً هذا وصفه ـ لم يقتحم العقبة، فهو لم يؤمن ولم يطعم المحتاجين من اليتامى والمساكين ولم يتواص بعمل الخير.
ويحتمل أن هذا الإنسان فرداً كان أم صنفاً لا يقتحم العقبة في المستقبل، لأن من كان هذا وصفه لا يقتحم العقبة، إلا إذا آمن وغير من حاله. فهو لم يقتحم العقبة في الماضي ولا يقتحمها في المستقبل، بل هو باق على حاله على وجه الدوام.
ويحتمل أن هذا التغبير دعاء على هذا الصنف أو الشخص بألا يقتحم العقبة كما في قوله تعالى: (ويلٌ لكل همزة لمزة) وقوله: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) [التوبة] فإن من كان هذه صفته لا يستحق الدعاء له بالخير.
كما يحتمل الاستفهام المراد به التنديم والتوبيخ على ما فرط والحض على الإنفاق بمغنى "افلا اقتحم العقبة" وقد حذفت منه الهمزة ونحو هذا وارد في القرآن الكريم والفصيح من كلام العرب، فقد جاء فيه قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين) [الأعراف] بدلالة قوله تعالى: (قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) [الشعراء] ونحو قول الشاعر:
قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً
أي: أتحبها؟ وقول الكميت:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
أي: أوذو الشيب يلعب؟
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فقد جمع هذا التعبير عدة معان في لآن واحد: المضي والاستقبال والتوبيخ والحض والدعاء. فهو أخبر أنه لن يقتحم العقبة فيما مضى من عمره، وأنه لا يقتحمها في المستقبل، وأنه وبخه على ذلك، ودعا عليه بعدم اقتحامها.

يتبــــــــــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.27 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]