عرض مشاركة واحدة
  #1733  
قديم 12-01-2014, 08:03 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي رد: موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشو

يتبــع الموضوع السابق

تطور دراسة الإعجاز القرآني على مر العصور



وهكذا يمضي الخطابي وغيره من علماء تلك الفترة يوردون الشبهات ويفندونها بما كشف عن وجده الحق في البلاغة القرآنية.
ننتقل الآن إلى ما أنجزه علماء هذه المرحلة، من بحوث علمية دقيقة، تبرز السمات الموضوعية التي اتسم بها الأسلوب القرآني، وتصل ببلاغته إلى حد الإعجاز.
نبدأ أولاً:بما أبرزه علماء هذه المرحلة، من تعدد وجه الإعجاز القرآني، وأنهم قسموا وجوه الإعجاز قسمين، الأول الوجه المعجز الذي وقع به التحدي، وهو الإعجاز البلاغي وحده، لأنه الوجه المطرد في كل سورة من سور القرآن الكريم، وقد كان التحدي بأن يأتوا بسورة من سوره، والوجه الذي يعتبر القاسم المشترك في كل السور إنما هو الإعجاز البلاغي.
القسم الثاني:وجود معجزة في ذاتها لكن لم يقع بها التحدي، كالإخبار بالغيب، وما تضمنه القرآن من علوم ومعارف لا يتهيأ لبشر الإحاطة بها... إلى غير ذلك من الوجوه المعجزة للبشر التي سنتعرض لبعضها.
وبهذا كان القرآن الكريم معجزاً للعالم كله، فطبيعة الرسالة الإسلامية هي التي تستوجب هذا التعدد في الجوانب المعجزة بالقرآن الكريم، فهي ـ كما سبق أن أوضحنا ـ خاتمة الرسالات، كما أنها موجهة إلى الجنس البشري كله، وهذه الخصائص التي انفردت بها دون سائر الرسالات اقتضت أن تكون معجزتها أمراً معجزاً في هذا الإطار الممتد عبر الزمن إلى يوم الدين، وعبر العالم كله بما يضم من أجناس وشعوب وثقافات ومذاهب.
ومن هنا قسم العلماء البشر في إدراك الإعجاز القرآني في ثلاثة أقسام:
أول الأقسام:من تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقه ومذاهبه ـ كالعرب الذين نزل فيهم القرآن، ومن أتى بعدهم ممن راض نفسه بالعلم واكتملت لديه آلة التمييز بين الأساليب وخصائصها، وهذا القسم يدرك الإعجاز القرآني إدراكاً ضرورياً لا يحتاج معه إلى بحث أو تدقيق. ويكفيه في ذلك التأمل والتصور.
القسم الثاني:وهو المقابل للقسم الأول، ويضم هذا القسم من ليسوا من أصحاب اللسان العربي، على ثقافتهم وحضاراتهم، وهؤلاء يمكنهم إدراك الإعجاز القرآني عن طريق الاستدلال العقلي، بأن يعلموا عجز العرب ـ وهم أهل اللسان الذي نزل به أذن أشد عجزاً منهم.
كما يمكنهم إدراك الإعجاز القرآني من خلال معرفتهم بالوجوه الأخرى التي اقتضتها حكمة الله ورحمته، فغير العربي يجد في هذه الوجوه الأخرى إعجازاً يلزمه بالتصديق بأن هذا الكتاب من عند الله، وأن ما تضمنه هو شرع الله الواجب الإتباع.
وهذه الوجوه في تعددها واختلاف طبيعتها وافية تماماً بالإلزام على مدى التاريخ، ولكل الأجناس والشعوب، وستظل كذلك ـ إن شاء الله ـ ما بقيت الحياة.
والعجيب في الأمر: أن إدراك الإعجاز في الوجوه التي تضمنها القرآن الكريم التي لم يتحد بها العرب الأوائل أمر ميسور لا يتطلب سوى صدق التوجه والاستعداد لقبول الحق.
لأن هذه الوجوه تعود إلى ضوابط موضوعية ملزمة لكل عاقل، وهل يجادل أحد في أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يستطيع كبشر أن يخترق حجب الغيب ويخبر عما كان وما سيكون منها، إذاً لا بد أنه يستمد ذلك من قوة أعلى من البشر، وهل يجادل أحد في أنه عليه السلام، لا يستطيع ـ كبشر ـ أن يأتي من العلوم الكونية والإنسانية ما لا يدرك البشر بعضه إلا بعد مرور قرون متطاولة.
وقل مثل هذا في جميع الوجوه المعجزة التي تضمنها القرآن الكريم، ولم يتحد بها العرب الأوائل.
القسم الثالث:من كان من أهل اللسان العربي، إلا أنه لم يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة وجوه تصرف اللغة، وطرق الأساليب. وهؤلاء عليهم أن يأخذوا أنفسهم بدراسة الأساليب وحدود البلاغة ـ ومواقع البيان، إلى غير ذلك مما يؤهلهم لإدراك ما في القرآن الكريم من بلاغة معجزة، وإلا فليكتفوا بالاستدلال العقلي وبالوجوه الأخرى الدالة على الإعجاز، كما هو الشأن فيمن ليسوا من أهل العربية.
ننتقل الآن إلى جهود علماء هذه المرحلة الزمنية في إبراز السمات الموضوعية للأسلوب القرآني التي وصلت به إلى درجة الإعجاز، ونكتفي هنا بما جاء في كتاب ( إعجاز القرآن ) للباقلاني، فقد تضمن كل ما نقله عمن سبقه وأضافه هو إليه ما هداه إليه اجتهاده في الموضوع.
يرى الباقلاني أن السمات المميزة للأسلوب القرآني وانفرد بها متعددة منها:
أولاً: مغايرة الأسلوب القرآني لجميع أنماط التعبير المعروفة عند العرب فالقرآن الكريم ليس شعراً أو سجعاً ولا مرسلاً إرسالاً، كما هو الشأن في صور التعبير عند العرب، لكنه نمط فريد، لا يشبه شيئاً من أنماط تعبيرهم عن المعاني.
وقد بذل الباقلاني جهداً مضنياً في إثبات فكرته هذه، وقد أصاب في بعض ما قال، ولم يسلم له بعضه مما لا يتسع المقام لتفصيله.
ثانياً: عدم التفاوت الفني في الأسلوب القرآني، ويعني بذلك: أن القرآن الكريم في جميع سوره وآياته على درجة واحدة من البلاغى، ولا يتدنى عن شيء، وتلك سمة لا طاقة للبشر بها، ويتضح ذلك في جوانب كثيرة، فالقرآن الكريم لا يتفاوت على كثرة ما يتصرف فيه من الأعراض من قصص ومواعظ، واحتجاج وحكم وأحكام، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، إلى آخر الأغراض التي تضمنها القرآن الكريم.
والباقلاني: محق في كل ما قاله عن هذه السمة التي انفرد بها القرآن دون غيره، فهذا شيء لا يمكن أن يتحقق لبشر مهما سمت منزلته، وتعاظم اقتداره البياني، وأمامنا آراء النقاد تؤكد ذلك، وتجمع عليه إجماعاً لا يشذ عنه أحد.
لقد كان العرب عندما يوازنون بين الشعراء، يضربون المثل في الإجادة، بامرىء القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهيراً إذا رغب، ومعنى ذلك: أن كلاً من هؤلاء يجود في غرض معين ويشهد له بالتفوق فيه، ومؤدى ذلك: أنه يقصر في غير هذا الغرض.
وعندما حاول صاحب كتاب ( الواسطة بين المتنبي وخصومه )... الدفاع عن المتنبي، كان أقصى ما يريد في دفاعه عنه قوله: ليس بغيتنا فيما قصدنا، الشهادة لأبي الطيب بالعصمة، وإنما غايتنا أن نلحقه بأهل طبقته، وأن نجعله رجلاً من فحول الشعراء، ونمنعك من إحباط حسناته بسيئاته، ولا نسوغ ذلك التحامل على تقدمه في الأكثر بتقصيره في الأقل... وهذا اعتراف من أكبر المدافعين عن المتنبي بما في شعره من تفاوت بين الإجادة والتقصير. وتلك غاية ما يستطيعه المدافع عنه.
ولقد قام الباقلاني بعمل رائع حقاً ـ عندما عمد إلى قصيدتين من عيون الشعر العربي بالنقد، إحداهما: معلقة امرىء القيس، حامل لواء شعراء الجاهلية، والأخرى للبحتري، من أحب الحظوة والتقدم عند نقاد الكلام، والقيمة الحقيقة لما قام به الباقلاني، أنه أبرز هذه الحقيقة وأكدها.
وهي: أن البشر لا يمكن أن يصل بأدبه على الكمال، بل لا بد أن يعتريه التفاوت، ويعلو ويهبط، ويحلق ويهوي.
أما القرآن الكريم فأينما يممت لم تقع عينك منه إلا على الطريقة المثلى للتعبير، والمطابقة الكاملة لما يقتضيه الحال.
وسوف أورد ـ إن شاء الله ـ شواهد قرآنية في أغراض متفاوتة تؤكد هذا كله. عندما أجد السياق المناسب لذلك.
ثالثاً:تميز الكلمة من القرآن غيرها من سائر الكلام، بالرونق والفصاحة، ويتبين ذلك في القرآن ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف الكلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذ الأسماع، وتتشوق إليها النفوس، ويرى وجه رونقها بادياً، غامراً سائر ما تقرن به كالدرة التي ترى في سلك الخرز، وكالياقوتة وسط العقد.
رابعاً: إن اله تعالى قد سهل سبيل القرآن بجملته، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر وعن الصنعة المتكلفة، وجعله سبحانه قريباً إلى الأفهام، ويبادر لفظه معناه إلى القلب، يساير المغزى منه عبارته إلى النفس، وهو مع ذلك ممتنع المطلب، غير نطمع مع قربه في نفسه، والموهبة مع دنوه أن يقدر عليه أو يظفر به.
وهكذا مضى الباقلاني وغيره يعددون السمات التي انفرد بها الأسلوب القرآني وبوأه منزله الإعجاز.
ولننتقل على مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها... ( مرحلة نضج قضية الإعجاز البلاغي ). ويأتي على قمة الدارسين لقضية الإعجاز القرآني في هذه المرحلة، الإمام عبد القاهر الجرجاني ( المتوفى سنة 471 هـ )، فقد كانت دراساته البلاغية في مجملها، تنطلق من إحساس عميق، بأن قضية الإعجاز القرآني يجب أن تحتل المقام الأول في اهتمامات العلماء، وأن إدراك الإعجاز القرآني لا يتم إلا بدراسة متأنية واعية لخصائص التعبير، التي تجعل بعضه يعلو بعضاً، حتى يصل إلى درجة تنقطع عندها الآمال في معارضته، وهي درجة (الإعجاز ).
وآراء عبد القاهر حول الموضوع، موزعة في كتبه البلاغية، وأهمها: دلائل الإعجاز، والرسالة الشافية، وأسرار البلاغية.
ويمكننا أن نختصر آراءه حول القضية في ثلاثة موضوعات أساسية تدور حولها دراساته في كتبه كلها.
أولها: أن القرآن معجز ببلاغته.
وثانيها: أن بلاغة القرآن في نظمه، فإعجازه في نظمه.
وثالثها: بيان طبيعة النظم وما هيته.
وسنحاول ـ إن شاء الله ـ أن نتتبع هذه الموضوعات الموزعة في كتبه، ونبرز جوانبها المتعددة، بما يجعلها صورة دقيقة لآرائه في القضية.
أولاً: القرآن الكريم معجز ببلاغته:
يمهد عبد القاهر لإثبات ذلك بذكر بعض الحقائق التي يؤدي التسليم بها إلى التسليم بأن القرآن الكريم معجز ببلاغته فيقول:
( معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضاً، وأن علم ذلك علم يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه للعرب، ومن عداهم تبع لهم، وقاصر عنهم فيه.
وأنه لا يجوز أن يدعى للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم الذي نزل فيه الوحي، وكان فيه التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطيه ما لم يكملوا له... والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى، أو ينكره جاهل أو معاند.
وإذا نظرنا في دلائل أحوال العرب الذين نزل فيهم القرآن، وفي أقوالهم حين تلي عليهم، وتحدوا بأن يأتوا بمثله، وجدنا أحوالهم وأقوالهم تفصح بأنهم لم يشكوا في عجزهم عن معارضته، والإتيان بمثله، ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلاً على وجه من الوجوه.
ثم يورد عبد القاهر بعد ذلك من أقوال العرب الذين نزل فيهم القرآن وأحوالهم ما يؤكد هذه الحقيقة.
على نحو ما سبق به من أقوال العلماء، التي أشرنا إليها قبل ذلك.
وبعد أن يصل إلى هدفه من إثبات ذلك بأقوالهم أنفسهم، وبمناقشة من أتى بعدهم، وإبطال دعواهم المشككة في بلاغة القرآن من ادعاء ( الصرافة ) وغيرها، ينتقل إلى النقطة التالية وهي:
ـ إن بلاغة القرآن في نظمه، فإعجازه في نظمه. وهنا يذكرنا عبد القاهر، بأن المزية التي يعود إليها تقدم كلام على كلام في البلاغة، إنما تدرك بالفكر.
ويتوصل إليها بإعمال النظر وبذل الجهد.
فهل يمكن أن يكون في الكلمات المفردة ما يدرك ويستنبط بالرؤية والجهد، إن الكلمات إرض مشاع، لكل قائل أن يأخذ منها ما يحقق غرضه.
وكذلك لا يجوز أن يكون الإعراب من الوجه التي تظهر بها المزية، وذلك لأن العلم بالإعراب مشترك بين العرب جميعاً، فليس أحدهم أعلم من غيره بأن إعراب الفاعل الرفع، أو المفعول النصب.
ومن العجيب: أننا إذا نظرنا في الإعراب، وجدنا وجه التفاضل فيه محالاً، لأنه لا يتصور أن يكون للرفع والنصب في كلام مزية عليهما في كلام آخر، وإنما الذي يتصور، أن يكون معنا كلاماً قد وقع في إعرابهما خلل، ثم كان أحدهما أكثر صواباً من الآخر، وكلاماً قد استمر أحدهما على الصواب ولم يستمر الآخر، ولا يكون هذا تفاضلاً في الإعراب، ولكن تركا له في شيء واستعمالاً له في آخر.
وكذلك لا تعود الفضيلة في الكلام بأن يكون المتكلم قد استعمل من اللغتين في الشيء أصحهما وما يقال أنها أفصحهما، ولا بأن يكون قد استعمل الغريب من الألفاظ، لأنه العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علماً باللغة، وبأنس الكلم المفردة، وبما طريقة الحفظ، دون أن يستعان عليه بالنظر وإعمال الفكر.
وإذا كانت المزية التي توجب تقدم الكلام على غيره، لا تعود إلى شيء مما ذكر، فلا شك أنها تقود إلى النظم وصياغة العبارة، فذلك هو الجانب الوحيد الذي يحتاج إلى الفكر وبذل الجهد ثم أننا نعلم أن تفضيل الكلام على غيره، ووصفه بالفصاحة والبلاغة، إنما يعود لأمر أحدثه في الكلام، وشيء كان له جهد فيه، وإذا كان كذلك فينبغي أن ننظر إلى المتكلم، هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه شيئاً في اللفظ ليس في اللغة، حتى يجعل من صنيعه مزية يعبر عنها بالفصاحة.
إذا نظرنا وجدنا أنه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئاً أصلاً، ولا أن يحدث فيه وصفاً، كيف وإنه أفسد على نفسه وأبطل أن يكون متكلماً، لأنه لا يكون متكلماً حتى يعمل أوضاع اللغة على ما وضعت عليه فلم يبق للمتكلم شيء ينسب إليه سوى طريقة نظم العبارة، أو صياغة الفكرة في ألفاظ، عن طريق تعليق الكلمات ببعضها البعض، وفق معاني النحو، لتصبح صورة للمعنى في نفسه. وهذا يجيء الدور على بيان مفهوم النظم وماهيته.
وجوهر النظم عند عبد القاهر، أن تصاغ العبارة بطريقة تفصح تماماً عما في نفس قائلها، وتكشف عما يريد أن يوصله إلى مخاطبة، ولا يتم ذلك إلا إذا كانت عبارته صورة للمعنى القائم في نفسه فالمتكلم في صياغته للعبارة، إنما يقتفي أثر المعنى في نفسه، ويرتب عبارته حسب ترتيب المعنى، فالبليغ صانع، له من صناعته بمقدار ما بذل من جهد في سبيل صناعة أسلوب جميع، وعليه أن يختار أسلوب العرض المناسب، الذي يتضمن من الخواص ما يكون مطابقاً للمعنى القائم في نفسه، بدءاً من اختيار الألفاظ التي هي ألصق بالمعنى من حيث معناها اللغوي، ودلالاتها المتعددة بجرسها وإيحاءاتها التي اكتسبها طوال استعمالها في أذهان مستمعيها، ومروراً باختيار الصيغة لمطابقتها بخواصها لدقائق جوانب المعنى وخرافية، وانتهاء بإبراز في الصورة المناسبة لما يقتضيه المقام، ومن هنا كان اختلاف الأدباء في عرض المعاني والتعبير عنها.
ذلك لأن المعنى الواحد تتعاقب عليه الصور، ويصوغه كل أديب في صورة فيها من السمات والخصائص ما يبرر نسبتها إليه دون سواه، وإن كان أصل المعنى أو الغرض العام واحداً في الجميع، وتتفاوت هذه الصور في الجمال بمقدار التوفيق في المآخاة بين المعنى والصورة الدالة عليه.
وشواهد ذلك حاضرة، ننظر إلى قول الناس: الطبع لا يتغير.
فتر فيه معنى عامياً غفلاً معروفاً في كل جيل، ثم ننظر إلى قول المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
هذا، وقد لقيت آراء عبد القاهر ما هي أهل له، من قبول العلماء الذين تلقوها، وهيأ الله منهم من تكفل بالجانب التطبيقي لها، وعلى رأسهم الإمام جار الله الزمخشري ( المتوفى سنة 538) في كتابه تفسير القرآن الذي سماه ( الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، والذي أصبح منهلاً ينهل منه الباحثون عن أسرار الإعجاز القرآني. كما هيأ له من ضبط ولمَّ شعثها وضبط قواعدها. وترتيب أبوابها وعلى رأس هؤلاء: الفخر الرازي في كتابه ( نهاية الإيجاز في دراسة الإعجاز ).
غير أن الرازي في محاولته لضبط آراء أستاذه غلبت عليه طبيعته المنطقية الفلسفية، فبدت واضحة في عمله. ووقع في خطأ أفسد ما حاول إصلاحه، فآراء عبد القاهر على ما بها من توزع في مواطن معالجتها، وإطناب في محاولة الإقناع بها، كانت تساق في أسلوب أدبي يخاطب الوجدان والذوق، ويبرز أسرار جمال التعبير بأسلوب رقيق شفاف يستهوي القلوب.
أما الرازي، فقد أحال الأمر إلى مجال للجدل المنطقي، وتتبع لما توجيه القسمة العقلية للآراء فتتابعت تقسيماته للموضوعات إلى عشرات الأبواب ومئات الفصول، وأمثالها من القواعد والتنبيهات التي يصل القارىء في تتبعها.
وهذا المسلك الذي اختطه الرازي ظل طوال قرون مسيطراً على عقول الباحثين، فساروا خلفه مستسلمين، يتبارون داخل دائرة مغلقة لا تجد في ثناياها غير تلخيص كتاب، ثم إعادة للتلخيص، فحاشية على الشرح، ثم تعليق على الحاشية، إلى آخر هذه السلسلة العقيمة التي لا تتضمن، على الرغم مما بها من جهد عقلي خارق، وقدرة مذهلة على الحجاج ـ لا تتضمن شيئاً مما كانت البلاغة أحوج ما تكون إليه لتؤدي دورها في صقل المواهب، وتنمية الملكات القادرة على الإحساس بجماليات التعبير وتذوق محاسنه.
وتطاول الزمن دون أن يتغير هذا المنهج في البحث، حتى أذن الله تعالى لهذه الأمة أن تفيق من غفوتها، وأن تنفض عنها الكثير من المعوقات التي تشل حركتها.
وعلى أيدي رواد النهضة فبعثت من جديد كتب عبد القاهر ورجال مدرسته، التي يتسم منهجها باستلهام النصوص الأدبية وأسرارها.
وعرض خواطر العلماء ونظراتهم في تلك النصوص بأسلوب مشرق مضيء يستهوي الدارس، ويضع يده على موطن جماله، ويفصح عن سر سموه.
وسنختار علماً من هؤلاء كنموذج لمن تعرض لقضية الإعجاز القرآني في العصر الحديث، وهو المرحوم الدكتور / محمد عبد الله دراز، وكتابه ( النبأ العظيم ).
يعتبر كتاب ... النبأ العظيم... كتاباً فريداً في منهجه الذي اتبعه في دراسة هذه القضية والإقناع بها لأنه كما يقول مؤلفه: حديث يبدأ من نقطة البدءـ فلا يتطلب من قارئه انضواء تحت راية معينة، ولا اعتناقاً لمذهب معين، ولا يفترض فيه تخصصاً في ثقافة معينة، ولا حصولاً على مؤهل معين، وإنما يناشد القارىء فقط أن يعود بنفسه صحيفة بيضاء، إلا من فطرة سليمة، ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق، وسوف يأخذ المؤلف بيد القارىء مجتازاً به مراحل البحث، التي يسلم بعضها إلى بعض، في رفق وأناة يصل إلى نهاية المطاف، الذي لا يسع القارىء إلا التسليم به.
ويتضمن الكتاب بحوثاً تتضمن مرحلتين متتابعتين في البحث.


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع




 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.17 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (2.02%)]