مباحـــــات الصيـــــام
نزول الماء والانغماس فيه
يباح في الصيام ما يأتي: 1ـ نزولُ الماءِ، والانغماسُ فيه: لما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه حدَّثه، فقال: ولقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَصُبّ على رأسه الماء، وهو صائم؛ من العطش، أو من الحرّ(1). رواه أحمد، ومالك، وأبو داود بإسناد صحيح.
وفي "الصحيحين"، عن عائشة _ رضي اللّه عنها _ أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يصْبُح جُنُباً، وهو صائم، ثم يغتسل(2). فإن دخل الماء في جوف الصائم، من غير قصد، فصَوْمُه صحيح.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أبو داود: كتاب الصوم - باب الصائم يُصبُّ عليه الماء من العطش، ويبالغ في الاستنشاق، برقم (2365) (2 / 769)، والموطأ: كتاب الصيام - باب ما جاء في الصيام فى السفر، برقم (22) (1 / 294)، وأحمد في "المسند" (3 / 475، 4 / 63، 5 / 376، 380، 408، 430).
(2) البخاري بنحوه: كتاب الصوم - باب الصائم يصبح جنباً (3 / 38)، ومسلم: كتاب الصيام - باب صحة صوم من طلع عليه الفجر، وهو جنب، برقم (76) (2 / 780)، وأحمد في "المسند" (6 / 34، 36، 38)، والدارمي: كتاب الصوم - باب فيمن أصبح جنباً، وهو يريد الصوم (2 / 13).
الاكتحال والقطرة
2ـ الاكتحالُ والقطرةُ، ونحوهما مما يدخل العين؛ سواء أوجد طعمه في حلقه، أم لم يجده؛ لأن العين ليست بمنفذ إلى الجوف؛ فعن أنَس، أنه كان يكتحل، وهو صائم(1). وإلى هذا ذهبت الشافعية، وحكاه ابن المنذر، عن عطاء، والحسن، والنخعي، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور. وروي عن ابن عمر، وأنس، وابن أبي أوفى، من الصحابة.
وهو مذهب داود.ولم يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم،كما قال الترمذي(2).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أبو داود: كتاب الصوم - باب في الكحل عند النوم للصائم، برقم (2378) (2 / 776).
(2) الترمذي: كتاب الصوم - باب ما جاء في الكحل للصائم، برقم (726) (3 / 96)، وأبو داود: كتاب الصوم - باب في الكحل عند النوم للصائم، برقم (2377) (2 / 775، 776).
القبلة
3ـ القبلةُ، لمن قدر على ضبط نفسه؛ فقد ثبت عن عائشة _ رضي اللّه عنها _ قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم(1)، وكان أملككم لإرْبه(2).
وعن عمر _ رضي اللّه عنه _ أنه قال: هششت(3) يوماً، فقبلتُ وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: صنعت اليوم أمراً عظيماً؛ قبّلت وأنا صائم. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمتَ بماء، وأنت صائم ؟" قلت: لا بأس بذلك ؟ قال: "ففيم(4)"(5).
قال ابن المنذر: رَخّص في القبلة عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة، وعطاء، والشعبي، والحسن، وأحمد، وإسحاق.
ومذهب الأحناف، والشافعية، أنها تكرَه، على من حَرَّكتْ شهوتَه، ولا تكرَه لغيره، لكن الأولى تركها.
ولا فرق بين الشيخ والشاب في ذلك، والاعتبار بتحريك الشهوة، وخوف الإنزال، فإن حركت شهوة شاب، أو شيخ قوي، كرِهَتْ، وإن لم تحرّكها لشيخ، أو شابّ ضعيف، لم تكرَه، والأولى تركها.
وسواء قبّل الخد، أو الفم،أو غيرهما،وهكذا المباشرة باليد والمعانقة،لهما حكم القبلة.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) والمقصود المداعبة.
(2) البخاري: كتاب الصوم - باب المباشرة للصائم (3 / 38، 39)، ومسلم: كتاب الصيام - باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحـرك شهوتـه، برقم (65، 66، 68) (2 / 777)، والترمذي: كتاب الصوم - باب ما جاء في مباشرة الصائم، برقم (728، 729) (3 / 98)، وابن ماجه: كتاب الصيام - باب ما جاء في المباشرة للصائم، برقم (1687) (1 / 538)، والموطأ بمعناه: كتاب الصيام - باب ما جاء في التشديد في القبلة للصائم، برقم (18) (1 / 293)، وأحمد في "المسند" (6 / 40، 42، 44، 126، 128، 156). (3) هششت: أي؛ نشطت. (4) "ففيم": أي؛ ففيم السؤال.
(5) أبو داود: كتاب الصوم - باب القُبلة للصائم، برقم (2385) (2 / 779)، والدارمي: كتاب الصوم - باب الرخصة في القبلة للصائم (2 / 13)، وأحمد في "المسند" (1 / 21)، والحاكم، في "المستدرك": كتاب الصوم - باب جواز القبلة للصائم (1 / 431)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وفي "نيل الأوطار": صححه ابن خزيمة، وابن حبان (4 / 287).
الحقنةُ
4ـ الحقنةُ: مطلقاً؛ سواء أكانت للتغذية، أم لغيرها، وسواء أكانت في العروق، أم تحت الجلد، فإنها، وإن وصلت إلى الجوف، فإنها تصل إليه من غير المنفذ المعتاد.
الحجامةُ
5ـ الحجامةُ(1): فقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، إلا إذا كانت تضعف الصائم، فإنها تكره له، قال ثابت البُناني لأنَس: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم، على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف(2). رواه البخاري، وغيره.
والفصد(3) مثل الحجامة في الحكم.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الحجامة؛ أخذ الدم من الرأس.
(2) البخاري: كتاب الطب - باب أي ساعة يحتجم (7 / 161)، وأبو داود: كتاب الصوم - باب في الرخصة في ذلك، برقم (2372، 2373، 2375) (2 / 773، 774)، والترمذي: كتاب الصوم - باب الرخصة في الحجامة، برقم (775، 776، 777)، وابن ماجه: كتاب الصيام - باب ما جاء في الحجامة للصائم، برقم (1682) (1 / 537)، والموطأ: كتاب الصيام - باب ما جاء في حجامة الصائم، برقم (32) (1 / 298).
(3) الفصد: أي؛ أخذ الدم من أي عضو.
المضمضَةُ
6ـ المضمضَةُ، والاستنشَاقُ، إلا أنه تكرَه المبالغةُ فيهما؛ فعن لقيط بن صبرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا استنشقت فأبلغ، إلا أن تكون صائماً"(1). رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد كره أهل العلم السّعوط(2) للصائم،ورَأوْا أن ذلك يفطِّر،وفي الحديث ما يقوّي قولهم.
قال ابن قدامة: وإن تمضمض، أو استنشق في الطهارة، فسبق الماء إلى حلقه، من غير قصْدٍ، ولا إسراف، فلا شيء عليه. وبه قال الأوزاعي، وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس. وقال مالك، وأبو حنيفة: يفطر؛ لأنه أوْصَل الماء إلى جوفه، ذاكراً لصومه، فأفطر، كما لو تعمّدَ شرْبَه.
قال ابن قدامة، مرجحاً الرأي الأول: ولنا، أنه وصل الماء إلى حَلقِه، من غير إسراف، ولا قصد، فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حَلقِه(3)، وبهذا فارق المتعمد.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أبو داود: كتـاب الصوم - بـاب الصائـم يصب عليه الماء من العطش، ويبالغ في الاستنشاق، برقم (2366) (2 / 769)، والترمذي: كتاب الصوم - باب كراهية الاستنشاق للصائم، برقم (788) (3 / 146) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي: كتـاب الطهـارة - بـاب المبالغة في الاستنشاق، برقم (87) (1 / 66)، وابن ماجه: كتـاب الطهـارة - بـاب المبالغة في الاستنشاق، برقم (407) (1 / 142) وأحمد في "المسند" (4 / 33، 211). (2) السعوط: أي؛ وضع الدواء في الأنف.
(3) قال ابن عباس: دخول الذباب في حلق الصائم، لا يفطر.مباحات أخرى في الصيام
7ـ وكذا يباح له ما لا يمكن الاحتراز عنه، كبلع الريق، وغبار الطريق، وغربلة الدقيق، والنخامة، ونحو ذلك. وقال ابن عباس: لا بأس أن يذوق الطعامَ الخل، والشيء يريدُ شراءه.
وكان الحسن يَمضغُ الجوز لابن ابنه وهو صائم، ورخص فيه إبراهيم. وأما مضغ العِلك(1)، فإنه مكروه، إذا كان لا يتفتّتُ منه أجزاء. وممن قال بكراهته؛ الشعبي، والنخعي، والأحناف، والشافعي، والحنابلة. ورخصت عائشة، وعطاء في مضغه؛ لأنه لا يصل إلى الجوف، فهو كالحصاة يضعها في فمه. هذا إذا لم تتحلل منه أجزاء، فإن تحللتْ منه أجزاء، ونزلت إلى الجوف، أفْطَر. قال ابن تيمية: وشم الروائح الطيبة، لا بأس به للصائم. وقال: أما الكحل، والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة، والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم؛ فمنهم من لم يُفطِّر بشيء من ذلك، ومنهم من فطّر بالجميع، لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع، لا بالتقطير، ومنهم مَنْ يُفَطِّر بالكحل، ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك. ثم قال، مرجحاً الرأي الأول: والأظهر، أنه لا يفطر بشيء من ذلك؛ فإن الصيام من دين الإسلام، الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام. فلو كانت هذه الأمور مما حرمها اللّه ورسوله في الصيام، ويَفْسُدُ الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك، لعَلِمَه الصحابة، وبَلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم يَنْقُلْ أحدٌ من أهل العلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، لا حديثاً صحيحاً، ولا ضعيفاً، ولا مسنداً، ولا مُرْسلاً، عُلِمَ أنه لم يُنْكرْ شيئاً من ذلك. قال: فإذا كانت الأحكام التي تعُمّ بها البلوى، لا بُدَّ أن يُبَيِّنَها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عامّاً، ولابُدَّ أن تَنْقلَ الأمة ذلك. فمعلوم أنَّ الكحْلَ ونحوه مما تعمّ به البلوى، كما تعمّ بالدهن، والاغتسال، والبخور، والطّيب، فلو كان هذا مما يفطر، لبَيّنَه النبي صلى الله عليه وسلم، كما بَيّنَ الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك، عُلِمَ أنه من جنس الطّيب، والبخور، والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف، ويدخل في الدماغ، وينعقد أجساماً.
والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى داخله، ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك، دل على جواز تطيبه، وتبخُّرِه، وادهانه، وكذلك اكتحاله. وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم؛ إما في الجهاد، وإما في غيره، مأمومة وجائفةً، فلو كان هذا يفطرُ، لبين لهم ذلك، فلما لمْ يَنْهَ الصائمَ عن ذلك، عُلِمَ أنه لم يجعله مفطِّراً.
ثم قال: فإن الكحل لا يُغذّي ألبتة، ولا يدخِلُ أحد كحلاً إلى جوفه، لا من أنفه، ولا من فمه. وكذلك الحقنة(2) لا تغذّي، بل تستفرغ ما في البدن، كما لـو شمّ شيئاً من المسهلات، أو فزع فزعاً أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة.
والدواء الذي يصل إلى المعدة، في مداواة الجائفة(3) والمأمومة، لا يشبه ما يصل إليها من غذائه، واللّه _ سبحانه _ قال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [البقرة: 183]. وقال صلى الله عليه وسلم: "الصَّوْمُ جُنَّة"(4)، وقال: "إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرى الدَّم، فَضَيِّقوا مجارِيَه بالجوع، والصَّوم"(5).
فالصائم نُهيَ عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سَبَبُ التقوى، فترك الأكل والشرب، الذي يُولدُ الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان، إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يُداوي به المأمومة، والجائفة، انتهى.
8ـ ويباح للصائم أن يأكل، ويشرب، ويجامع، حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر، وفي فمه طعام، وجب عليه أن يلفِظه، أو كان مجامعاً، وجب عليه أن ينزع.
فإن لفظ أو نزع، صح صومه، وإن ابتلع ما في فمه من طعام، مختاراً، أو استدام الجماع، أفطر؛ روى البخاري، ومسلم، عن عائشة _ رضي اللّه عنها _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالاً يؤذنُ بليْل، فكلوا واشربوا، حتى يؤذنَ ابن أُمّ مكتوم"(6).
9ـ ويباح للصائم أن يُصْبح جنباً، وتقدم حديث عائشة في ذلك.
10ـ والحائض والنّفساءُ، إذا انقطع الدم من الليل، جاز لهما تأخير الغسل إلى الصبح، وأصبحتا صائمتين، ثمَّ عليهما أن تتطهرا للصلاة.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) العلك: أي؛ اللبان.
(2) يقصد الحقنة الشرجية، فإنها لا تفطر الصائم.
(3) الجائفة: أي؛ الجراحة التي تصل إلى الجوف، والمأمومة: أي؛ الشجة في الرأس تصل إلى أم الدماغ، ومداواتهما ليست تغذية.
(4) البخاري: كتاب الصوم - باب هل يقول: إني صائم (3 / 34)، وكتاب التوحيد - باب قول اللّه تعالى: "يريدون أن يبدلوا كلام اللَه ,,,* (9 / 175)، ومسلم: كتاب الصيام - باب فضل الصيام، برقم (162) (2 / 806)، وأبو داود: كتاب الصوم - باب الغيبة للصائم، برقم (2363) (2 / 768)، والنسائي: كتاب الصوم - باب فضل الصيام، برقم (2217) (4 / 164)، وابن ماجه: كتاب الصيام _ باب ما جاء في فضل الصيام، برقم (1639) (1 / 525).
(5) البخاري: كتاب بدء الخلق - باب صفة إبليس وجنوده (4 / 150)، وكتاب الأحكام، مختصراً _ باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته (9 / 87)، وكتـاب الاعتكاف _ بـاب زيـارة المـرأة زوجها في اعتكافـه (2 / 65)، وأبو داود: كتاب الصوم - بـاب المعتكـف يدخل البيـت لحاجتـه، برقـم (2470) (2 / 835)، وابن ماجه، مختصراً: كتاب الصيام - باب في المعتكف يزوره أهله في المسجد، برقم (1779) (1 / 566)، والدارمي، بألفاظ متقاربة: كتـاب الرقـاق - بـاب الشيطـان يجـري من ابن آدم مجرى الدم (2 / 320)، وأحمد في "المسند" (3 / 285، 309) (6 / 337).
(6) البخاري: كتـاب الأذان - بـاب الأذان قبـل الفجـر (1 / 161)، وكتـاب الصـوم - بـاب قـول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال" (3 / 37)، ومسلم: كتـاب الصيـام - باب بيـان أن الدخول فـي الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (38) (2 / 768)، وأحمد في "المسند" (2 / 9، 57، 123) (6/ 44، 54، 433).