الدورة التاريخية
مناقشات منهجية لفتاوى طارئة
(2 – 2)
د. أكرم حجازي
1/7/2010
قبل مناقشة بعض النماذج لا بد من التذكير بأن الفتوى الطارئة التي نتحدث عنها ليست تلك التي تستدعيها الضرورات الفقهية والاحتياجات الطارئة على الأمة، بل هي التي تصدر في صيغة « تصريح» أو « إجابة على سؤال» أو « رأي فقهي» أو « فتوى»، في أي فضاء كان، بلا تأصيل أو سند شرعي وافٍ يأخذ بعين الاعتبار الكتاب والسنة وأقوال السلف والمناهج اللازمة والسوابق فضلا عن الظروف المحيطة بالنازلة حاليا ومستقبلا بما يحفظ للدين سلطانه وهيبته وللمسلمين والأجيال حقها. هذه « النصوص» نضعها تحت بند «الفتاوى الطارئة» أو « العرفية» أو « فتاوى الضرورة» التي تبدو، عبثا، كمن يسعى إلى تقديم الإسلام بمحتوى « وسطي» أو « متسامح» أو « منفتح » فإذا بها تقدم إسلاما هزيلا ممسوخا يستحق السخرية والهدم أكثر مما يستحق الدفاع عنه. وهي، للحق، تبدو دينا جديدا كل الجدة. لكن باسم من؟
إذا كانت الدولة فثمة منها ما يسمح لامرأة أن تقدم عظة يوم الجمعة على التلفزيون وهي كاشفة الرأس كما يفعل التلفزيون التونسي أو سبق له وفعل، وأخرى تقرر تعيين 50 امرأة في منصب الإمامة في المغرب ويصفه واعظة أو مرشدة كي يتطور المجتمع ويواصل التقدم، لكن دون السماح لهن بإمامة صلاة الجمعة، وهذه مخالفة صريحة لأماني د. حسن الترابي! وثمة وزير الأوقاف المصري، د. محمود حمدي زقزوق الذي أعلن أنه يعتزم زيارة القدس عبر تأشيرة إسرائيلية مخالفا بذلك رأي عامة الناس وخاصتهم ناهيك عن الشرع! وإذا صارت الدولة طغيانا يصعب وقفه فليست وحدها من يجهد في سعيه لامتلاك الفرد والجماعة والمؤسسة والمجتمع، ويتحول إلى دين بحد ذاته كما يرى الشيخ راشد الغنوشي. إذ ثمة جماعات إسلامية وتيارات وفِرَِق صارت هي الأخرى أشبه بدين قائم بذاته، بل ثمة أفراد يجري ترويج آراؤهم وأفكارهم وسياساتهم وأهواءهم وترقيتها لتغدو دينا جديدا لا همَّ له إلا السخرية من الدين وهدمه. كل أو بعض هؤلاء أخذ من الدين ما يلائمه، أو أفرغ فيه ما تقشعر من هوله الأبدان، وتنفر منه النفوس، فإن لم يجد أحدهم ضالته فيما يهوى لوى عنق النص ليّا، أو تَنكَّر له من الأصل، أو تطاول حتى على الله في صيغة تصريح أو رواية فاجرة تجد من يطبعها وينشرها ويسوقها في البلاد العربية والإسلامية بتواطؤ منحط من الدولة نفسها.
هكذا صارت الدولة، من جهتها، مقدس لا تسمح لأحد بالاقتراب منه، أما الجماعات: فالصوفية مستعدة للقتال بالسلاح لمن يقترب من أضرحتها وحتى مهاجمة المساجد وإحراق المصاحف، والجامية والمدخلية وأمثالها فالموضوع العقدي المركزي عندها قبل أي موضوع آخر هو ولاية الأمر، ولم تعد تتواني عن تكفير من يخالفها الرأي، والتبليغ والدعوة قانعة بالصفات الست وركن الخروج بعيدا عن السياسة وهموم الأمة، وحزب التحرير قابض على أطروحته ومنهجه كالقابض على جمر من النار، وكل اجتهاد عند الإخوان مأجور ما لم يخالف مصلحة الجماعة، وعند الأفراد، وبعضهم وزراء ومفكرون وفنانون وكتاب، نجد مفتي مصر علي جمعة، مثلا، يبيح للمسلم الحق في اختيار الدين الذي يناسبه من غير الإسلام وأن حسابه على الله، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: « من بدل دينه فاقتلوه»! وكأن أبا بكر الصديق أخطـأ لما قاتل المرتدين! فهل هذا اجتهاد أم إرجاء؟ أما عبد المنعم أبو الفتوح فلا يرى في حد الردة إلا خروجا عن النظام وليس خروجا من الإسلام. وما على الأمة إلا أن تكذِّب كل ما كتبه المؤرخون والعلماء ورواه الصحابة عن رفض المرتدين لأداء فريضة الزكاة. وأخيرا يأتي شيخ الأزهر الجديد د. أحمد الطيب، ليؤكد على سلامة المذهب الشيعي الجعفري الإثنى عشري مشيرا إلى أن: « الاختلاف بين السنة والشيعة في الفروع فقط وليس في الأسس والثوابت التي يقوم عليها الدين». فالطعن بعرض عائشة أم المؤمنين التي برأها الله من فوق سبع سماوات فيما اشتهر بحادثة الإفك وبزوجات الرسول وسب الصحابة والافتراء عليهم واتهام السنة بتحريف القرآن الكريم وتأليه علي بن أبي طالب وزواج المتعة والإمامة والتقية والافتراء على الأئمة الإثنا عشر والسجود لغير الله والإستغاثة بغيره سبحانه وتعالى وزعم الاتصال بالأموات وتفضيل فاطمة وآل البيت على الأنبياء والرسل ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها عند حضرة شيخ الأزهر الجديد خلافات في الفروع! فأي دين يريد هؤلاء من الأمة أن تتعبد الله به؟ ولماذا هذا الإسفاف في الدين والتحقير للإسلام والمسلمين؟
لو عرضنا مثل هذه الفتاوى والآراء الفقهية على العامة لما حظيت بأكثر من مشاعر الصدمة والسخرية لها، ولمن أدلى بها. فلا هي فتاوى نجحت في إرضاء الغرب ولا هي فتاوى حفظت دينا ولا هي دافعت عن نظام، ولا هي انتصرت لنبي أو لحق بقدر ما انتصرت لباطل وبهتان. وإنْ كان هناك من حاجة لتصديرها، خاصة ممن اختار السقوط بنفسه، فلا لأية منفعة أو نصرة إلا أن تكون صفتها الطارئة علامة بارزة من علامات الدورة التاريخية. أما العلماء فيبدو أن هناك من يجتهد في السعي لإسقاطهم والتقليل من هيبتهم ومكانتهم ومحاصرتهم وتهميشهم أو التشويش عليهم وضرب الإسلام بهم عبر تحميلهم، على العموم مسؤولية مثل هذه الفتاوى، وفي نفس الوقت إجبارهم على الصمت أو تحمل العواقب الوخيمة. هؤلاء ندعو الله أن يطيل بعمرهم لنرى منهم أو ممن يخلفهم من يجمع هذه الفتاوى ويوثقها كما سبق وجُمعت الأحاديث الموضوعة والمغرضة. ويوم تصل الدورة التاريخية إلى نهايتها سنجد من قادة الأمة أو علمائها من يأمر بحرقها كما أُحرقت من قبل كتب البدع والضلال والتضليل. نقول هذا لأنه من المستحيل أن يمر كل هذا الزيف على دين تكفل الله بحفظه وإن رغمت أنوف. وإلى ذلك الحين سيظل السؤال التالي مطروحا: إذا كانت الفتاوى الطارئة من صنع رموز الفقه والإفتاء والمؤسسات الرسمية القائمة على الدين وبعض علماء الجماعات والفرق الضالة؛ فهل يجوز للأمة، شرعا أو عقلا، أن تثق بأمثال هؤلاء وتأخذ دينها عنهم؟ سؤال بحاجة إلى إجابة صارمة. أما الآن فلنناقش بعض النماذج قبل مغادرة هذا المحور.
فتوى جواز قتال المارينز المسلمين
هي واحدة من أعجب وأشهر الفتاوى التي صدرت ليس فقط عن عالم دين بل وعن موظفين وصحفيين ليس لهم أي تأهيل شرعي يسمح لهم بتصدير فتاوى بالغة الخطورة. ولقد ناقش الكثير من الكتاب والعلماء مضمون الفتوى وما حمله من كوارث لا يصدقها عقل ولا يمكن أن يجيزها شرع تحت أي مسمىً كان. ولو عكسنا الصورة لما وجدنا نصرانيا أو يهوديا أو مجوسيا أو وثنيا شارك في يوم ما في قتال إلى جانب المسلمين في فتوحاتهم أو معاركهم وسلم من ملته قتلا أو شنقا أو تعزيرا. ولست هنا أناقش ما أفاض به غيري من المتخصصين من أهل العلم والفكر لكنني سأطرح تساؤلا لم أقع عليه فيما قرأت واطلعت عليه: ما هو حكم المسلمين الفلسطينيين من أهل السنة المجندين في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية، والذين يقاتلون أبناء جلدتهم وملتهم؟
سيكون من السهل تكفيرهم وإخراجهم من الملة لكون إسرائيل دولة كافرة وغاصبة على أقل تقدير، وهو ما لم يحصل حتى هذه اللحظة، ولا حتى بالنسبة لمنتسبي الأحزاب اليهودية منهم أو أعضاء البرلمانات. حسنا. لكن لننظر إلى الصورة من زاوية أخرى. فإذا توصل العرب الرسميون إلى تسوية رسمية معلنه مع دولة اليهود في فلسطين، وكذا فعل الفلسطينيون؛ فهل سيكون تَجَنُّد المسلمين في دولة اليهود مشروعا؟ ولنفرض أن دولة اليهود تعرضت حينها لهجوم من قبل مجاهدين مسلمين من دولة مجاورة أو من داخل الدولة الفلسطينية المفترض أنها مستقلة وتعيش جنبا إلى جنب مع دولة اليهود، لا فرق حينها بين الاعتراف أو الهدنة، فهل يحق لإسرائيل رد ما تعتبره عدوان عليها؟ وهل سيكون، آنذاك، قتال المسلمين في الجيش الإسرائيلي لإخوانهم مشروعا؟
لنأخذ صورة ثانية. حين احتلت إسرائيل الضفة الغربية، وشرعت في تدمير سلطة رام الله وقتلت أكثر من 500 فلسطيني من مخيم جنين وحطمت البلدة القديمة من مدينة نابلس ثم هاجمت لبنان في تموز 2006 وغزة في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009 ، كان هؤلاء المسلمون على رأس عملهم في خدمة الجيش الإسرائيلي. وكانوا، من قبل ومن بعد، في جبهات القتال وفي أجهزة الأمن والشرطة والدعم اللوجستي، فهل صدرت أي فتوى تجيز لهم القتال مع اليهود ضد إخوانهم من المسلمين؟ وهل صدرت أي فتوى تحذرهم أو تنكر عليهم فعلهم في الجيش الإسرائيلي إبراء للذمة أو لإحداث شرخ في الجبهة الداخلية للعدو؟ وهل تطرق إليهم الإعلام من قريب أو من بعيد وأعانهم، موضوعيا وشرعيا، على الاجتهاد في فك ارتباطهم بدولة اليهود؟ سيقول البعض: نعم. فقد صدرت فتاوى عدة كفّرت كل مسلم يعين كافرا على أخيه المسلم حتى ولو كان حاكما، وكانت آخرها فتوى المائة عالم. هذا صحيح. لكن بالنسبة لهذه الشريحة فلم تصدر أية فتوى على التخصيص، ولم تكن، منذ زمن بعيد، موضع اهتمام شرعي أو سياسي أو حتى إعلامي من أي جهة عربية أو إسلامية كانت.
لكن لنطرح بعض الأسئلة الفقهية الأخرى، بقطع النظر عن الوضعية السياسية،: ما هو الفرق الشرعي بين جندي مسلم يقاتل إخوانه المسلمين في الجيش الأمريكي أو في الجيش الإسرائيلي؟ وهل يصح أن تصدر الفتاوى في مسائل عقدية صرفة بناء على دعاوى المصلحة والقومية والوطنية والحاجات الفردية والنفسية والاجتماعية؟ وهل مصلحة جنود المارينز المسلمين مقدمة على مصالح الأمة ومصائر الدول الإسلامية وأرواح الأبرياء من المسلمين؟ وهل يجوز لهؤلاء المشاركة في قتال المسلمين بناء على ما تقرره دولتهم في الزمان والمكان كما تنص الفتوى؟ وهل يجيز الشرع أصلا أن ينخرط هؤلاء في جيش كفري حتى ولو كان جيش بلدهم؟ وهل الخشية عليهم من وصفهم بالطابور الخامس إذا امتنعوا عن قتال إخوانهم من المسلمين يعتبر مبررا شرعيا يسمح لهم بالمشاركة في الحرب سواء في الصفوف الأمامية أو الخلفية؟
لنأخذ صورة ثالثة. لنفرض أن العلماء اختلفوا على شرعية التسوية مع إسرائيل، بمعنى أن بعضهم أقرها شرعا بينما خالفها قسم آخر. وهذا ممكن الحدوث؛ بما أن فلسطين شأن إسلامي وأرض موقوفة وحدث رباني. لكن بأي الموقفين ستلتزم الأمة حينها؟ بموقف المشرِّعين للتسوية أم بموقف الناقضين لها؟ وماذا سيكون حال المجاهدين الذين رفضوا التسوية أسوة بموقف العلماء الرافضين لها؟ هل سيكونون جميعا طائفة خوارج أم بغاة؟ أم سيكونون تحت ولاية أهل مكة تفعل بهم ما تشاء؟ باختصار ما هو الحل: استفتاء شعبي؟ أم تصويت ديمقراطي تخضع فيه الأقلية من العلماء لرأي الأغلبية!؟ أم حل توافقي؟ والسؤال الذي نطرحه وسط انقسام الموقف الشرعي: هل سيكون قتال إسرائيل مشروعا أم محرما؟ وما هو الموقف الشرعي من المجندين المسلمين في الجيش الإسرائيلي؟
هذه الصورة الأخيرة أوردناها لكونها تتطابق بالضبط مع حالة الجهاد في العراق وأفغانستان والصومال. فانقسام العلماء جاء استجابة لمواقف سياسية رسمية ومصالح حزبية وليس لدوافع شرعية، وأدى إلى انقسام في الأمة. أما الذين رفضوا جهاد حركة طالبان والصومال والعراق بحجة غياب الراية أو وجود شبهات شرعية، هم أنفسهم الذين اعتبروه « إرهابا»، وسخروا منه، وحرضوا عليه، وجهدوا في التمييز بين « إرهاب وإرهاب» أو ما باتوا يعبِّّرون عنه بمصطلحات مستحدثة من نوع « مقاومة شريفة » و« أخرى غير شريفة»! هل من الإنصاف أن يجد الجندي المسلم في قوات المارينز من يوقعه في ورطة شرعية، ويلتمس له العذر، ويحرص على وطنيته ومصداقيته ووفائه لوطنه، هو والذين قاتلوا معه من المسلمين، تحت رايات عمية في وضح النهار بينما لا يجد مسلم يدفع عن أهله ودياره إلا تهمة الخوارج والإرهاب والقتال في سبيل الطاغوت؟
إذا كانت بعض الدول أو كلها، في خضوعها التام للأطروحة الأمريكية والصهيونية، تحتج بمصالحها وضعفها وتخشى غضبة الأمريكيين عليها؛ فما هو المبرر، الشرعي أو السياسي، الذي تحتج به بعض الجماعات والشخصيات الإسلامية التي تحالفت مع الأمريكيين اختيارا منها وطواعية، وباتت تتنعم بحمايتهم وأموالهم وتقاتل في صفهم ونيابة عنهم؟ وإنْ كان بعضها بريئا من السقوط في الفخ الأمريكي فلماذا يستأسد في إنكار حتى جهاد الدفع وتشويهه ومحاربة أهله بشتى السبل وكأنه ألدّ الخصام؟ ألا تصب هذه المواقف في سلة الأمريكيين والصهاينة؟ الأعجب في مواقف هؤلاء القوم أنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها حين يتعلق الأمر بإدانة جرائم إيران ومشاريعها الصفوية المدمرة للأمة بحجة أن من يتحفظ على إيران أو حزب الله ( المقاومة! ) أو يتبرأ منهما إنما يختار آليا أن يكون في صف الأعداء!! بطبيعة الحال ليس ثمة حضور لأي اختيار عقدي هنا، فالحكم الشرعي بالنسبة لهؤلاء لا هو حاضر ولا قيمة له. كل ما في الأمر أن هناك تقاطع مصالح مشتركة، لذا لا ضير في الصمت أو التواطؤ أو غض الطرف أو الانحياز العلني لأمريكا، ومساعدتها في احتلال بلاد إسلامية وتعيين رؤساء وحكومات موالية لها ومعاداة الجهاد وأهله وقتل المجاهدين والأبرياء !!! فأي منطق شرعي استند إليه هؤلاء في مثل هذه الفتاوى والمواقف والتصنيفات غير منطق المصالح والحزبية والهوى والعمى؟
أخيرا، وبينما كانت المقالة على وشك الصدور، تناقلت وسائل الإعلام (29/6/2010) خبرا عن فتوى أصدرها فقهاء مجمع الشريعة بأمريكا بخصوص مساعدة القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان. واعتبرت كبرى وسائل الإعلام الأمريكية الفتوى: « صادمة وتحريضية .. إنها بنيت على أساس ديني لتحرِّم إمداد الجيش الأمريكي بالمواد الغذائية أو العمل معه في مناطق لا يوصف فيها أداء الجيش بالودي بل بالعدائي لاسيما في العراق وأفغانستان». أما الفتوى التي صدرت تحت رقم 3062 عن اللجنة الدائمة للإفتاء في المجمع، فقد جاءت في معرض رده على سؤال ورد في رسالة يقول: « هل يجوز لمسلم صاحب شركة نقل أن ينقل مواد تموينية من مخزن الشركة المرسلة إلى الميناء، مع العلم أن هذه المواد مرسلة إلى جنود يعملون في بلاد إسلامية في إطار قوات التحالف؟». ورد المجمع على السؤال، بعد تحفظ، بعدم مشروعية إرسال مواد تموينية للجنود الأمريكيين الذين يعملون في بلاد إسلامية كالعراق وأفغانستان في إطار قوات التحالف، محتجا بأن: « من كان على برّ وتقوى تشرع إعانته، ومن كان على إثم أو عدوان لا تشرع إعانته».
لا بد من القول بداية أننا نتعامل مع خبر وليس مع نص رسمي، لكن بما يوفره الخبر من معلومات يمكن مقارنة الفتوتين والتعرف على بعض أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بينهما.
أما أوجه الشبه فتكمن في أن:
1) كلتاهما صدرتا بناء على سؤال وبالتالي لا مجال لاتهام أحد بالتحريض، لأنه لو كانت فتوى المجمع تحريضية، كما تقول وسائل الإعلام الأمريكية، لصدرت عشية الحرب أو خلالها أو بعدها بقليل، لكنها صدرت بعد سبع إلى تسع سنوات، 2) وتخصان مسلمين، 3) ومواطنين أمريكيين يعيشون في أمريكا، 4) وتتعلقان بإعانة الجيش الأمريكي على المسلمين، 5) وتتطلبّان حكما فقهيا على أساس شرعي.
أما أوجه الاختلاف:
1) الأولى ( فتوى القرضاوي ) ملفقة شارك في صناعتها غير متخصصين ووقع عليها عالم واحد، بينما صدرت الثانية ( المجمع الفقهي ) عن متخصصين شرعيين بعد النظر بها ومناقشتها في مجلس إفتاء دائم، 2) الأولى تساهلت في قتال المسلم للمسلم بينما الثانية حرمت حتى الدعم اللوجستي. 3) الأولى أفاضت من التسهيلات أكثر مما حلم به الأمريكيون أنفسهم بينما التزمت الثانية بالرد على موضوع محدد، 4) الأولى راعت المصالح الدنيوية بينما الثانية التزمت بالمقررات الشرعية، 5) الأولى لاقت الترحيب ممن راقهم الأمر في حين اتُّهمت الثانية بالتحريض، 6) المجمع كان جريئا وحريصا على قول الحق في عقر دار أمريكا، بينما الآخرون كانوا في سعة من الأمر وليسوا مكرهين، 7) المسلمون والمجندون المسلمون في أمريكا بدوا أحرص على تبيُّن الموقف الشرعي أكثر من المجندين المسلمين في ديارهم إما خوفا أو لأن طاعة ولي الأمر مقدمة على الموقف الشرعي،
أليس ثمة فرق بين فتوى تصدر على أساس ديني، كما تقول وسائل الإعلام الأمريكية نفسها، وأخرى تصدر بلا أي سند شرعي أو تأصيل أو اعتبار للدين فضلا عن التفريط به؟ والسؤال الأخير: إذا كانت فتوى المجمع قد صدرت بحق المسلمين الأمريكيين؛ أليس من الأولى أن تصدر بحق المسلمين، دولا وأفرادا وشركات في ديارهم، ممن يتنافسون على تقديم الدعم اللوجستي للأمريكيين في حروبهم على الإسلام والمسلمين؟
فتوى الرضاعة للعبيكان و د. عزت عطية رئيس قسم البحوث في الأزهر
تبدو، في الانطباع الأول، أنها من الفتاوى المثيرة للسخرية أكثر مما هي تعبير عن احتياج أو ضرورة فقهية. وحين أطلقها صاحبيها، بداية، لم يوضحا آلية تنفيذ الفتوى. لكنها استهدفت إجازة الاختلاط بطريقة ملتوية. فالموظفة التي تتحرج من إثم الخلوة أو خطرها مع زميلها في العمل يمكنها حل المشكلة بإرضاعه من حليبها. ولمّا ثار الجدل واحتدم عن كيفية تطبيق الفتوى؛ قيل أن تقوم المرأة بإفراغ الحليب من ثديها في كأس ثم يشربه الشخص المعني. وإذا دخلنا في نقاش جدي للمسألة سنكتشف أننا إزاء فتاوى مارقة إما أنها صادرة عن جهل وإما أنها زندقة.
فالرضاعة في الإسلام مدتها حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة. وهي مختصة حصرا في المواليد وليس في الكبار، فالرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم. ولما تقع الرضاعة الطبيعية التي فطر الله عز وجل بها خلقه بعد الولادة مباشرة فإنها تحدث عبر فك الجنين وحلمة الثدي، وبهذه الطريقة يحصل الرضيع على غذاء لا يماثله في الفائدة والجدوى أي غذاء آخر على وجه الأرض، فضلا عما يوفره له من مناعة خاصة في الشهور الثلاثة الأولى، ناهيك عن حزمة المشاعر التي يحصل عليها من حنان وحماية ونشوء علاقة حميمية خاصة بين الأم ورضيعها. وبطبيعة الحال تنتهي الرضاعة خلال الحولين أو بعدهما أو أكثر بقليل لكنها تختفي عند الكبير للأبد. وقد اختلف العلماء في عدد الرضعات ما بين ثلاثة إلى خمس مُشبِعَة.
لكن إذا شرب الكبير حليب الثدي من الكأس صار شرابا وليس رضاعة. ولم يكن حليب الأم في أي عصر من العصور شرابا سائغا للكبار ولا مألوفا. ولو طرحنا السؤال الفقهي التالي: هل للرضاعة علاقة بالنية؟ فلو قلنا مثلا أن رجلا شرب حليب امرأة لسبب ما فهل يصبح في هذه الحالة شقيقا للمرأة بحيث تَحْرُم عليه رغم أنه لم يفكر بذلك ولم يرده ولم يخطر على باله ولم يسع إليه؟ ولو قلنا أنه شرب حليب امرأة بسبب جوع أو عطش شديدين يمكن أن يتسببا في التعرض لضرر جسدي أو يهددان حياة الشخص أو أنه أُكره على هذا العمل؛ فهل أصبح مُحْرَما لها؟ ثم هل أخذت الفتوى بعين الاعتبار حال البلاد الإسلامية ونمط مجتمعاتها الراهنة؟ وهل تنطبق الفتوى على العاقل وغير العاقل؟ أي على الإنسان والدابة؟ وهل يمكن اعتبار شرب حليب الأنثى قاعدة في التحريم؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن البشر، مسلمين وكفارا – عربا وعجما، سيغدون أخوة لأنفسهم وأخوة للدواب وأقارب!!! فمن سيصاهرون حينها؟
ثم من قال أن الكبير يستسيغ حليب المرأة؟ ومن قال أن المرأة مهيأة للإرضاع عند الطلب؟ وبما أننا نعيش اليوم في أجواء الدول العلمانية حيث الاختلاط قائم في مختلف مناحي الحياة فمن الأهمية بمكان التذكير إلى أن الاختلاط واقع في كل مؤسسة ما بين رجل وامرأة كحد أدنى إلى عشرات الذكور والإناث في المؤسسة الواحدة. فماذا ستفعل امرأة بعدة رجال حولها؟ هل سترضعهم جميعا حتى تتجنب محاذير الاختلاط والخلوة؟ أم نقول لها: دعك من الوظيفة؟ أم نفتش على أساليب شرعية لتجنب الوقوع في المحارم؟ العجيب في الأمر أن مشايخ هذه الفتاوى لا يبدو أنهم معنيون بطرح أي سؤال فقهي من السهل أن يراود الأميين من الناس. فكيف يصح لهؤلاء أن يتجرؤوا على دين الله ويستخفوا بعقول البشر إلى هذا الحد؟
يتبع