سابعا: اعتراضات وجوابها:
* قد ترد بعض الاعتراضات على ما سبق ذكره ويمكن إجمالها والرد عليها فيما يلي:
الاعتراض الأول: قد يقول قائل أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرمه على النار" فلماذا التضييق على رحمة الله الواسعة ؟!!! والجواب أن كلمة الشهادة ليست مجرد كلمة بل هي عنوان الإسلام كله ومعناها لا معبود بحق إلا الله ولا مطاع بحق إلا الله تعالى وجاءت نصوص الكتاب والسنة في مكانتها وفضلها وعظيم نفعها ولذلك قال أهل العلم أن هذه الكلمة العظيمة لا تنفع صاحبها إلا بشروط ذكرها العلم منها العلم المنافي للجهل، اليقين المنافي للشك، الانقياد المنافي للترك، القبول المنافي للرفض، والصدق المنافي للكذب، المحبة المنافية لضدها، ولولا خوف الإطالة لذكرنا أدلة كل شرط من الكتاب والسنة ولا تنفع كلمة الشهادة صاحبها إذا أتى بناقض من نواقضها وما أكثرها حتى أن بعض أهل العلم أوصلها إلى أكثر من أربعمائة ناقض ولخصها بعضهم في عشر نواقض والحاصل أن كلمة التوحيد لها شروطها ونواقضها وليست مجرد كلمة دون التزام بكليات الشريعة. قال بن رجب الحنبلي في كتابه كلمة الإخلاص وتحقيق معناها: "وقالت طائفة من العلماء : المراد من هذه الأحاديث "أن لا إله إلا الله" سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتض لذلك ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع..."، ثم ذكر ما يدل على ذلك.
قال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته –ولم تكن حاكما أو زعيما أو جنرالا- ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة قال الحسن نِعمَ العدّة لكن لـ "لا إله إلا الله" شروطا فإياك وقذف المحصنة! وقيل للحسن أن ناسا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فقال من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة."
وقال وهب بن منبه لمن سأله أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك وإلا لم يفتح لك." وقال ابن رجب رحمه الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم رتّب دخول الجنة على الأعمال الصالحة في كثير من النصوص...". ومعلوما شرعا أن كلمة الشهادة لا ترفع العقوبة في الدنيا لمن يستحقها فأبو بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة رغم أن فيهم من كان يتلفظ بالشهادة ويقيم الصلاة وقال للذين توقفوا في قتال مانعي الزكاة أنه لا يمتنع من قتالهم إلا بتأدية حقوقها لقوله صلى الله عليه وسلم "ماذا فعلوا ذلك منعوا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وقال الزكاة حق المال. وعندها رجعوا إلى قوله قال ابن رجب "فإذا علم أن عقوبة الدنيا لا ترفع عمن أدى الشهادتين مطلقا بل يعاقب بإخلاله بحق من حقوق فكذلك عقوبة الآخرة".
الاعتراض الثاني: قد يقول قائل أن بعض الملوك والأمراء والحكام والجنرالات يصلي ويصوم ويحج ويعتمر ويتصدق على الفقراء والمساكين أفلا يشفع لهم ذلك عند الله أن صدرت منهم مظالم بحق الرعية؟!!! والجواب أن مسؤولية الحاكم من أعظم المسؤوليات عند الله وعقابه من أشد ألوان العقوبات وما يقومون به من عبادات أو بعض أعمال الخير لا يمنحهم حصانة من العقاب والقصاص العادل من الله تعالى جرّاء قتل الأبرياء وسجن الخصوم بغير وجه شرعي وممارسة أبشع أنواع التعذيب على أبناء الشعب فضلا عن مصادرة حقوق الشعب المشروعة ونصوص الكتاب والسنة تنص على أن الحاكم الجائر الظالم لا يغفر الله مظالمه المتنوعة إلا بالتوبة النصوح والاعتراف بالحقيقة وطلب العفو ممن ظلمهم وتعدى على شرفهم ومنعهم حقهم المشروع بالكتاب والسنة وحتى بمقتضى الدستور والمواثيق الدولية.
فيجب على عموم الشعوب عدم الاغترار بعبادة هؤلاء الحكام الظلمة ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس منا من لا درهم له ولا متاع فقال "إن المفلس من أمتي ما يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياه فطرحت عليه ثم طرح في النار" فكل حاكم أو ملك أو جنرال أو أمير أمر بقتل وتعذيب أبناء الشعب حسابه عند الله بالغ الخطورة والسوء ولو لم يمارس ذلك بيده بحكم المسؤولية التي يتولاها والأوامر التي يصدرها سواء أكانت شفوية وهذا هو الغالب فيهم أو بغض الطرف عما تمارسه الأجهزة الدنيا من شرطي ودركي ومخبر ومن البلاهة أن يظن المسلم أن الصلاة والصيام أو الحج يمحي مظالم الطغاة دون إعلان التوبة ورد الحقوق والاعتراف بالحقيقة، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال" أي عصارة أهل النار، وما فائدة عبادة مع الظلم والطغيان؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أراضين" وقال أيضا "يخلص المؤمن يوم القيامة من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" هذا في ظلم العباد فكيف بالظلم الأكبر كالإشراك بالله تعالى أو تعطيل الشريعة واستبدالها بغيرها؟!!! وما فائدة العبادة مع مساوئ الأخلاق، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان"رواه مسلم "وإن صام وصلى وزعن أنه مسلم" وما فائدة عبادة حاكم وهو يغدر بالشعب ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل غادر لواء عند إليته -أي دبره- يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة" وما فائدة عبادة حاكم وهو خائن لأمانة الأمة، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم "من شاء صلى ومن شاء صام والله لا دين لمن لا أمانة له" والنصوص في نواقض العبادة ومحبطاتها كثيرة على مستوى الفرد العادي فكيف بالملوك والأمراء والحكام والجنرالات وكبار الزعماء في الأمة، والحاصل أن الحكام الطغاة لا تنفعهم عبادتهم وأعمالهم الخيرية إذا ظلموا الشعوب وأوردوها المهالك والمعاطب حفاظا على كراسيهم ولا حصانة لهم عند الله يوم يقوم الناس لرب العالمين وليس أمامهم إلا التوبة والاعتراف بالحقيقة ورد الحقوق إلى أصحابها في الدنيا والله غفور رحيم وإلا فهو القصاص العادل أمام محكمة ربانية نسأل الله تعالى السلامة.
الاعتراض الثالث: قد يقول قائل: لماذا يتحمل ابن آدم مسؤولية وآثام القتلة منذ فجر الإنسانية إلى يوم البعث كما جاء في الحديث الصحيح السابق الذكر لاسيما وقد أعلن ندمه والندم توبة كما جاء في الحديث الصحيح والجواب: إن ابن آدم الذي يقال له قابيل لم يندم ندم توبة قال تعالى:"أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين" 31 المائدة قال ابن عباس رضي الله عنه:"لو كانت الندامة على قتله لكانت الندامة توبة منه" قال الرازي:"إن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية لم يكن توبة". فهو ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة فكان ندمه لذلك لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا جَرَمَ لم ينفعه ذلك الندم. والله تبارك وتعالى تاب على آدم عليه السلام وزوجه حواء لأنهما ندما فعلا عما وقعا فيه من مخالفة أمر الله تعالى قال جلّ جلاله:"قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" الأعراف 23.وقال تعالى:"فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم" البقرة 37.
الاعتراض الرابع: قد يقول قائل: لماذا نحمِّل هؤلاء الذين فارقوا الحياة الدنيا وأفضوا إلى ربهم أوزار غيرهم ونصوص القرآن الكريم تنص على أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ألم يقل الله تعالى:"ولا تكسب كل نفس إلا عليها" الأنعام 164 وقال:"وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى" فاطر 18 وقال:"ولا تزر وازرة وزر أخرى" فاطر 18 وقال:"تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون"البقرة 134 والجواب: بعضه تقدم في قوله تعالى:"وآثارهم" وقوله عليه الصلاة والسلام:"من سنة سيئة ....." وأما معنى الآيات السالفة الذكر يجب أن تفهم في ظل آيات أخرى لفك التعارض الظاهري فالإنسان الذي يقتدى في الشر والفساد والضلالة يحمل وزر نفسه بما اكتسبت من إثم ويعاقب عقوبة فردية على ما فعل ويتحمل مسؤولية إجرامه وفساده وضلاله وهذا معنى قوله تعالى:"وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيئ" العنكبوت 12. أما الذين ضلوا وأضلوا وفسدوا وأفسدوا وفسقوا ونشروا الفسق وأجرموا وحملوا الآخرين على الإجرام وكفروا ونشروا الكفر إلخ ..... فهؤلاء لا تشملهم الآيات السابقة الذكر وإنما تشملهم آيات قرآنية أخرى من مثل قوله تعالى: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون" النحل 25 وقوله تعالى:"وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم" العنكبوت 13. وفي هذه النصوص وغيرها بيانا أن هؤلاء الصنف يحملون أوزارهم كاملة ويحملون أيضا من أوزار الأتباع الذين أضلوهم فضال له عقوبة أما المُضِلّ فله عقوبتان عقوبة الضلال وعقوبة الإضلال أي جمعوا من أوزار أنفسهم وأوزار إضلال غيرهم ولا ينقص ذلك شيئا من أوزار أتباعهم الضالين والحاصل أنه لا تعارض بين النصوص فالضال يتحمل وزر نفسه والمضل يتحمل وزر نفسه ووزر غيره وكلاهما من وزره فرؤساء الفساد والإفساد والضلال والإضلال لا ينقطع عنهم إثم الإفساد والإضلال إلى يوم يبعثون نسأل الله العفو والعافية.
الاعتراض الخامس قد يقول قائل: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم"؟!! والجواب: يمكن إجماله قيما يلي:
- الحديث ضعيف الإسناد.
وعلى فرض صحته فإن الكف عن ذكر مساوئ الموتى إنما يشمل غير المجاهر المعلن بالمعصية فمثل هذا الميت يندب ذكر محاسنه وحرمة ذكر مساويه أما الظالم ظلما متعديا أو المعلن بفسقه أو الداعية إلى بدعة ضلالة فهذا لا يشمله الحديث على فرض صحته قال الإمام المناوي رحمه الله:"فإن سب المسلم غير المعلن بفسقه حرام شديد التحريم .... يعني لا تذكروهم إلا بخير فذكر محاسنهم مندوب وذكر مساويهم حرام ...." ثم بين موطن الاستثناء فقال:".. إلا لضرورة أو مصلحة كتحذير من بدعة أو ضلالة كما يؤشير إليه إخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن الشملة التي غلها .. تلتهب عليه نارا فإنه بيان لحكم الله والتحذير من الغلول" وقال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود:"إن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحير منهم ..." ومن هنا نقول إن الملوك والأمراء والحكام والزعماء والجنرالات الذين عاثوا في الأرض فساداً فأبطلوا أحكام الشريعة أو جعلوها أبعاضا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس وفعلوا وفعلوا فهؤلاء الواجب محاكمتهم في الدنيا على جرائمهم وإن ماتوا دون توبة ورد للحقوق فلا حرمة لهم شرعا ولولا خوف الإطالة سردتُ عشرات الأمثلة عبر التاريخ القديم والحديث كيف تتعامل الناس مع الطغاة بعد موتهم حتى أن بعضهم أقيمت له محاكمة رمزية بعد موته.
الاعتراض السادس: قد يقول قائل: ألم يرد في السنة النهي عن سب الأموات كقوله عليه الصلاة والسلام:"لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء" وقوله في حديث آخر:"لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" والجواب:
- لابد من التفريق بين ذكر المساوئ والإخبار عما كان من حال الميت في حال الحياة بعد أن أفضى إلى ربه وبين السب الذي هو الشتم في معرض التعيير وليس هذا منه فالثناء بالشر ليس سبا وقد جاء في الحديث:"فأثنوا عليه شرا فقال: وجبت أي النار" كما مرّ قريبا وكلنا يعلم حال ذلك الرجل الذي قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال الأبطال المغاوير ثم قُتل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة:"والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه في قبره نارا" فهذا حال من أخذ شملة فكيف بحال من سرق أموال الأمة وهرّبها إلى البنوك الخارجية ليتقوى بها الكفار على المسلمين ؟!! كما يفعل ملوك وأمراء وحكام وجنرالات وزعماء الدول العربية التعيسة بحكامها ؟!!!
- هناك من العلماء من استدل بالنصوص السابقة بمنع سب الأموات مطلقا.
- قال ابن المنير رحمه الله أثناء شرح باب ما يُنهى من سب الأموات عند أبي داود: "لفظ الترجمة يُشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقا والجواب أن عمومه مخصوص انس السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير وبالشر"وجبت وأنتم شهداء الله في الأرض" ولم ينكر عليهم ويحتمل أن اللام في الأموات عهدية والمراد به المسلمون لأن الكفار مما يتقرب إلى الله بسبهم" وقال الإمام القرطبي رحمه الله في الكلام على حديث وجبت:"يحتمل أجوبة: 1- أن الذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهرا به فيكون من باب لا غيبة لفاسق أو كان منافقا 2- يحتمل النهي على ما بعد الدفن والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه 3- يحتمل أن يكون النهي العام متأخرا فيكون ناسخا وهو ضعيف" وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأصح ما قيل أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحذير منهم والتنفير عنهم وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا" قال العلامة ابن بطال المالكي رحمه الله:"سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن كان أغلب أحوال المرء الخير وقد الخير وقد تكون منه الفلتة فالاغتياب له ممنوع وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له فكذلك الميت" وقال الإمام النووي رحمه الله:"فإن قيل كيف مكنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات؟ فالجواب أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرا كان مشهورا بنفاق أو نحوه مما ذكرنا" والحاصل أن الثناء بالشر وذكر الفاجر المهاجر بما فيه لاسيما إن كان رأسا من الرؤوس الكبيرة مع الإخلاص والبعد عن التشفي ليس سبا لأن ذلك يعتبر من الإخبار عن واقع حال ذلك الميت بعد أن أفضى إلى ربه وما زال علماء الجرح والتعديل يتكلمون في الرجال وقد أفضوا إلى ربهم وقصدهم تمييز الصحيح عن الضعيف وما زال علماء التاريخ يتناولون الأحداث التاريخية وصُناعها وقصدهم أخذ العبرة وتمحيص الروايات التاريخية وإنصاف الحقيقة التي عبث بها الكذبة والفسقة من مؤرخي الحكام والسلاطين وما زال علماء السياسة يخوضون فيما وراء الأحداث السياسية الكبرى التي جرت الويلات على الأمم والشعوب وقصدهم أخذ الدروس ورسم معالم السياسة الراشدة التي تعود على البلاد والعباد بالخير وكل هؤلاء يتحدثون عن الأموات قدحا ومدحا والقرآن الكريم تحدث عن الطغاة وجرائم العصاة وذكرهم بأسمائهم وبعض أحوالهم وهم في قبورهم يعذبون أشد العذاب للاعتبار والاستذكار "فهل من مدكر".
ثامنا: حكم شهود جنائز الطغاة:
* الواجب على أهل العلم والفضل عدم حضور جنائز الطغاة أو القيام على قبورهم لقوله تعالى "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون"التوبة84، ولسنا الآن بصدد ذكر ما قاله علماء التفسير في هذه الآية الكريمة وما فيها من حكم وأحكام وفوائد وفرائد ومن عاد إلى كتب التفاسير القديمة والحديثة يدرك سبب نزول هذه الآية، ذلك أنه عندما عزم الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة على عبد الله ابن أبي سلول، قال له عمر بن الخطاب، إنه منافق، أعلى عدو الله عبد الله ابن أبي سلول تصلي عليه؟ وهو القائل كذا يوم كذا وكذا، يعدد آثامه وجرائمه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذكر آثامه وعيوبه، ورغم ذلك صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهادا منه وجبرا لخاطر ولده الصالح، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان، معنى الآية باختصار لا تصل عليهم لأن الصلاة شفاعة ولا شفاعة في حقهم "ولا تقم على قبره" أي لا يقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دعي إلى جنازة سأل عنها فإن أثني عليها خيرا قام فصلى عليها وإن كان غير ذلك قال لأهلها شأنكم بها ولم يصل عليها، قال الحافظ بن حجر رحمه الله "إنها نزلت في جميع المنافقين، كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه" ولقد بلغت الشدة بأبي حنيفة وصاحبيه واختاره البخاري أنه لا يصلى على الميت الظالم لأن الصلاة تكريم وهذا يستحق الإهانة فالقاتل لنفسه لا يصلى عليه فكيف بالظالم الذي يتعدى ظلمه لغيره، فالظالم أولى لأن الظلم اعتداء على الغير، قال ابن العربي المالكي "فأخبر عنه بالكفر والموت على الفسق وهذا عموم في الذي نزلت الآية بسببه وفي كل منافق مثله" والحاصل أنه بعد أن نزلت تلك الآية الكريمة ما صلى رسول الله عليه الله عليه وسلم بعد على منافق ولا أقام على قبره –أي شهد جنازته ودفنه أو الدعاء له -حتى قبضه الله، وحيث توجد العلة يوجد الحكم كما يقول الأصوليون.
تاسعا: العربي بلخير عند السلطات الرسمية وعند الجماهير الشعبية:
* بتاريخ 10 سبتمبر 2007، تم إلقاء القبض علي من طرف القوات الخاصة وتم تفتيش منزلي وأخذ بعض أغراضي وبعضها لم يرجع إلي إلى يومنا هذا وهو تصرف غير قانوني ويدخل في باب السرقة وسبب إلقاء القبض علي أني أدليت برأيي في حق الجنرال الهالك إسماعيل العماري لقناة الحوار وهو تصرف يجعلني تحت طائلة المادة 46 من قانون السلم والمصالحة الجائر، الذي أعطى الحصانة للمجرمين الذين انقلبوا على الإرادة الشعبية 1992 وقاموا بممارسة إرهاب الدولة ومن هؤلاء الجنرال الهالك العربي بلخير ومنع قادة الحزب الفائز مرتين من ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية والاجتماعية وتلك جريمة سنها بوتفليقة ومن جاؤوا به ونصبوه رئيسا للعهدات الثلاث، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ما لم يتب إلى الله تعالى ويرد الحقوق إلى أهلها ويرفع المظالم النازلة على شرائح واسعة من الشعب الجزائري، وسارع إلى تأسيس لجنة وطنية للاعتراف ومعرفة الحقيقة والمصارحة والمصالحة الحقيقة وللجنة حق مسائلة جميع الأطراف جميع أطراف الأزمة، وعلى رأسهم القادة العسكريين والسياسيين الذين كانوا وراء اتخاذ قرار الانقلاب على الاختيار الشعبي التي ما زالت آثاره الوخيمة قائمة إلى يوم الناس هذا، أما فيما يخص الجنرال الإنقلابي العربي بلخير فنجمل كلامنا فيه فيما يلي:
1-العربي بلخير هو أحد رجال السلطة الفعلية وعنصرا من أهم عناصر النواة الصلبة في قيادة المؤسسة العسكرية، كان ضابطا في الجيش الفرنسي وفر منه في طليعة الستينات وكان وراء ترشيح الشاذلي بن جديد بعد وفاة الراحل بومدين وساهم مساهمة في إعادة الرئيس بوتفليقة إلى سدة الحكم على أساس أن المؤسسة العسكرية اختارت المرشح الأقل سوءا سنة 1999، ولذلك أعاده إلى نفس المنصب الذي تولاه بعد أيام رئاسة الشاذلي أي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، وقالوا عنه أنه صانع الرؤساء ورجل الظل والعلبة السوداء و.....و....
2-بمجرد الإعلان على وفاة الجنرال العربي بلخير تهاطلت على وسائل الإعلام المختلفة رسائل التعزية من رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني الشعبي ووزارة الدفاع ومضمون هذه الرسائل جعلت من الجنرال الانقلابي بطلا من أبطال الجزائر وصاحب المهام السامية والمسؤولية الكبيرة الجسيمة ورجل الدولة من الطراز الأول..الخ..ما جاء في تلك الرسائل تلك نظرة السلطة الرسمية للجنرال العربي بلخير الذي وصف بصانع الرؤساء والشخصيات السياسية وبعض رؤساء الأحزاب والعمل على تنصيف بعض كبار الضباط في أماكن هامة في هرم المؤسسة العسكرية فضلا عنه الرجل الذي يحسن العمل خلف الستار وعقد الصفقات التجارية في الداخل والخارج وتسيير "الدولة" من الفيلات الخمة، والفنادق الراقية في الداخل والخارج ذلك أن الجزائر منذ الإستقلال لا تتمتع بمؤسسات حكم قوية لأن القرارات الكبرى تصنع وتطبخ خارج المؤسسات التي تعتبر مجرد هياكل عظيمة لا تسمن ولا تغني من جوع مما يدل دلالة قاطعة على أن الجزائر تسيرها عصابة من الأشرار توظف جميع مؤسسات الدولة للحفاظ على مصالحها غير المشروعة وتتخذ من الأجهزة الأمنية المختلفة من شرطة ودرك وجيش أداة قامعة للبقاء في السلطة وتتخذ من العدالة غير المستقلة أداة تصفية لخصومها السياسيين أو لتصفية الحسابات بين الأجنحة المتصارعة كما كان الشأن مع الجنرال بلوصيف الذي ورى الثرى يوم الجمعة 15-01-2010 والذي دفن بمربع الشهداء بمقبرة العالية بعد الحكم عليه بخمسة عشر (15) سنة ؟!!!!.
3-أما نحن فنراه – وهذا من حقنا- عكس ما وصفته رسائل التعزية الرسمية فهو أحد أهم الجنرالات الذين انقلبوا على الإرادة الشعبية في 1992 وكان يشغل وقتها وزيرا الداخلية وهو الذي أعلن بعظمة لسانه في 27 ديسمبر 1991 عن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية المقاعد في الدور الأول وذلك بقاعة ابن خلدون وقد أقر المجلس الدستوري بتلك النتائج بطريقة رسمية، ولا شك أن النتائج المسجلة كانت صدمة للنظام ولم يكن يتوقعها حتى مركز الدراسات الجزائرية، وكان الجنرال الإنقلابي من ضمن مجموعة الجنرالات الذين خططوا للانقلاب على الاختيار الشعبي، ففي 09-02-1992 تقدمت وزارة الداخلية والجماعات المحلية والتي كان يترأسها الجنرال المجرم العربي بلخير بطلب موضوعه طلب توقيف وحل جمعية ذات طابع سياسي يقصد الجبهة الإسلامية للإنقاذ أكبر حزب سياسي معارض منذ الاستقلال فاز بالانتخابات مرتين لا بالانقلاب العسكري ولا بالثورة الشعبية ولا باسم الشرعية الثورية وإنما تم ذلك بالصندوق مما جعل تجربة الجبهة الإسلامية تجربة فريدة من نوعها وبما أن العدالة غير مستقلة لبت الغرفة الإدارية لمجلس قضاء الجزائر العاصمة طلب وزارة الداخلية وتم حل أكبر حزب سياسي معارض في 04 مارس 1992 وفي 29 مارس 1992 أكدت المحكمة "العليا" قرار الحل، وهكذا دخلت البلاد في المجهول إلى يومنا هذا ومارست الأجهزة الأمنية المختلفة إرهابا فريدا من نوعه في تاريخ البلاد مما نجم عليه ردود فعل بالغة العنف والقسوة وبقيت حالة الإرهاب الرسمي والعنف المضاد تتطور من سنة إلى أخرى إلى أن أعلن عن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وما زالت البلاد تعاني من حالة الطوارئ وتحولت البلاد إلى ثكنة عسكرية وأمنية وكثرت المتاريس والحواجز الأمنية في طول البلاد وعرضها، وأصبحت مراكز مؤسسات الدولة تحت حصار أمني رهيب ومحاطة بمتاريس إسمنتية لم تكن حتى أيام الإستعمار الفرنسي وأثناء معركة الجزائر الكبرى مما يدل دلالة قاطعة على الوضعية الأمنية المتدهورة، وليعلم الجميع لأنه لو لا الانقلاب المشؤوم الذي كان العربي بلخير أحد مهندسيه والذي جرّ على البلاد والعباد الويلات والتي لا مخرج لها إلا بحل سياسي شامل وعادل يطوي هذه الصفحة البيضاء من تاريخ البلاد.
4-ومن جرائمه التي كان من الواجب أن يحاكم عليها هو ومجموعة الجنرالات الذين انقلبوا على الاختيار الشعبي وخرقوا الدستور الذي يجعل الشعب مصدر كل سلطة كما هو منصوص عليه في المادة 6-7-10 و11 من دستور 1989 وكان من الواجب محاكمة كل من شارك من قريب أو بعيد في مصادرة الاختيار الشعبي من العسكريين والسياسيين الرسميين، وقد استنكر حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ كبار الشخصيات التاريخية والوطنية والسياسية وبعض الضباط داخل المؤسسة العسكرية منهم من اغتيل في حوادث غامضة ومنهم من أحيل على التقاعد المبكر وهناك من استنكر حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ من رجال الفكر والسياسة رغم خلافهم مع توجهاتها، احتراما لاختيار الشعب الذي له كامل الحق في اختيار من يحكمه والمشروع الذي يطمح إليه.
5-الذي تابع سير محاكمة الجنرال بلوصيف 06 فيفري 1993 يخلص بنتيجة أنه كان من الواجب التحقيق مع الرئيس الشاذلي بن جديد وكذا الجنرال العربي بلخير ومما لا شك فيه أن محاكمة بلوصيف تمت في المحكمة العسكرية بالبليدة التي تمت فيها محاكمة قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من طرف نفس النائب العام وقاضي التحقيق وقاضي المحكمة وهم على اطلاع بسير المحاكمة من أول يوم ويكفي أن الجنرال نور الدين بن قرطبي اعتبر العربي بلخير المطلع الأول على الأمر بالصرف وبتحويل العملة الصعبة وصرح المقدم محمد فقير الهبري المدير السابق للتخطيط والميزانية بوزارة الدفاع "إن الأوامر العسكرية أقوى من القانون" أي أن المؤسسة العسكرية فوق القانون وأن الفساد المالي يتم في المكاتب العسكرية بالسفارات في الخارج ونحن نعرف لماذا يحاكم الشاذلي بن جديد في ذلك الوقت رغم الاستماع إلى إفادته من طرف قاضي التحقيق الذي كان يحقق معنا فالشاذلي يرمي المسؤولية على بلوصيف وبلوصيف يرمي المسؤولية على الشاذلي والعربي بلخير وعلاوة بوركبة شقيق زوجة الرئيس الشاذلي والذي نعته بلوصيف ببوق سيده يقصد الشاذلي وهو ينفذ تصريحات الشاذلي بن جديد وهذا ما دفع بلوصيف أن يقول أثناء المحاكمة لماذا أحاكم أنا دون الآخرين وعندما سئل عن بعض التصرفات المالية قال بكل وضوح "إن هذا التقليد كان موجودا في الجيش الوطني قبل أن يكون الأمين العام لوزارة الدفاع" أما الهبري فقد قال أنه غير مسؤول وإنما نفذ حرفيا أوامر اللواء، وإن الأوامر في الجيش تطغى على القانون ولا يمكن لأي ضابط مناقشتها، والحق أن محاكمة بلوصيف عبارة عن تصفية من طرف ضابط فرنسا لضابط جيش التحرير ولأنه رفض إخراج الجيش لقمع المظاهرات في قسنطينة 1986 وكنت يومها في سجن تازولت، ولقد صرح لي شخصيا بلوصيف بما كان يعانيه سنة 1990 وقد أشرت إلى ذلك في إحدى التجمعات يومها ولكن الصحافة لم تتابع الموضوع حتى سيق إلى السجن في 1993، وعندما قرروا محاكمته قلنا ونحن وراء القضبان لا للعدالة الانتقائية ولا ينبغي أن تكون العدالة أداة في يد المخابرات العسكرية لتصفية الخصوم السياسيين أو حسم صراع الأجنحة المتصارعة فإذا كان اللواء بلوصيف تمت محاكمته من أجل بناء بعض الفيلات وترميم أخرى وتحويل العملة الصعبة بدون أي سند أو إثبات إداري، واستعمال أموال عمومية لأغراض خاصة، فلماذا تتغافل العدالة عن محاكمة بعض الألوية الذين انقلبوا على اختيار الشعب وقتلوا وعذبوا واختطفوا وسجنوا ونفوا آلاف الشباب الجزائري إلى الصحراء وهم صنّاع الحكام وإنهاء مهامهم وفعلوا بالجزائر الأفاعيل المنكرة ...الخ، وإذا ما قارنّا ما فعله بلوصيف بما فعله جنرالات الانقلاب من جرائم في حق الشعب لكان أشرف منهم وأقل سوءا بمئات المرات، وها هو وزير الدفاع السابق خالد نزار يثير الموضوع من جديد على صفحات الجرائد وكلنا يعلم أن قاضي محكمة البليدة له عقد مع وزارة الدفاع ولم يقض بلوصيف من المدة التي حوكم بها -15سنة- إلا قرابة 04 سنوات، ثم أفرج عنه بعد وساطات من هنا وهناك، بينما قضى نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ المدة كاملة دون تخفيض للعقوبة كما ينص القانون العسكري والمواثيق الدولية رغم أنه مثل أمام نفس النائب العام العسكري وقاضي التحقيق وقاضي الحكم؟!!!. والحاصل أنه لا يمكن تصفية الحسابات السياسية عن طريق عدالة غير مستقلة فكيف إذا كانت عسكرية تمشي بالأوامر وفي ظل حكم متعفن يتنفس الفساد وما المرصد الذي أعلن عليه رئيس الحكومة مؤخرا لمحاربة الفساد إلا ذرّا للرماد في العيون وجولة أخرى لتصفية الحسابات السياسية بين الأجنحة المتصارعة، يوظف فيها القضاء غير المستقل والذي ينخره الفساد على جميع الأصعدة.
ولذلك نقول، إن العربي بلخير مجرد جنرال انقلابي كان من الواجب أن يحال هو والعصابة الحاكمة إلى المحكمة لينالوا العقوبة الرادعة جراء ما أحدثوا في البلاد من مآسي وفضائع في طول البلاد وعرضها، ولماذا لا يمثل هؤلاء الألوية أمام لجنة مسائلة وطنية كالتي مثل أمامها أعضاء من حكومة طوني بلير، وهو على رأسهم فكانت اللجنة تحقق معه في الداخل والمظاهرات الصاخبة في الخارج تطالب بمحاكمة طوني بلير كمجرم حرب دون أن يتعرض أي فرد من المتظاهرين إلى القمع أو السجن أو الرقابة القضائية كما هو الشأن في البلاد العربية التعيسة التي اعتادت أن تواجه المظاهرات السلمية بالقمع الشديد كما جرى مؤخرا لسلك الأطباء والممرضين بمستشفى مصطفى باشا.
عاشرا: الطغاة الذين أفلتوا من المحاكم الدنيوية مصيرهم إلى المحكمة الربانية.
* أغلب المظلومين المقهورين يتحرقون للقصاص من الطغاة الظلمة الذي عاثوا في الأرض فسادا وإفسادا قبل الآخرة ولكن الله تعالى –لحكمة يعلمها- شاءت قدرته أن يفلت الظالم من القصاص العادل في الحياة الدنيا لامتحان إيمان الناس ولو لا حكمة الله البالغة لعجل لهم العذاب، قال تعالى "ولو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى، فاصبر على ما يقولون"طه129، وإن إفلات بعض الطغاة الظلمة في محكمة الدنيا إنما هو من باب الاستدراج لهم ومكر الله تعالى بهم، قال تعالى "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين"الأعراف183 وقوله تعالى "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ابراهيم42، وقال عليه الصلاة والسلام "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته"، فلا بد للظالم من محكمة ربانية يوم يقوم الناس لرب العالمين، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال رجعت إلى رسول الله مهاجرة البحر، قال ألا تحدثني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ فقال فتية منهم بلى يا رسول الله، ينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزها تحمل على رأسها قُلة من ماء، فمرت بفتى منهم بجعل يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قُلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت، سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده إذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقت، صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم" فهذه العجوز العاجز على القصاص في الدنيا أشارت إلى المحكمة الربانية يوم القيامة لأنها محكمة تحفظ الملفات المكتوبة وغير المكتوبة الظاهرة على الجوارح والباطنة في سويداء القلب، قال تعالى "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" الجاثية29، وقوله تعالى "ورسلنا لديهم يكتبون"الزخرف80، وقال تعالى "ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا"الإسراء، وعندها يتعجب الطاغية الظالم من الطريقة المثلى التي حفظ بها ملفه فيقول "ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها"الكهف49، ذلك لأن الملفات في محكمة الدنيا قد تتلف وقد يتلاعب بها وقد يخرج منها جزءا ويخفي بقية الملف للإدانة، فمحكمة الدنيا يمكن فيها رشوة القاضي وشراء شهود الزور ويمكن للمجرم أن يطعن في الحكم ويمكن أن يهرب من السجن فرارا من تنفيذ العقوبة وأما المحكمة الربانية العادلة فلا رشوة فيها ولا ظلم ولا وساطة ولا طعن في الحكم ولا تبديل للأحكام الصادرة ولا مجال لشراء الشهود لأن الشهود هي أعضاء الإنسان ذاته فعلى كل مظلوم ومغبون أن يسعى في الحياة الدنيا للانتصاف من ظالمه فكل الطرق المشروعة، فإن عجز ولم يقدر، فعليه أن يفوض أمره إلى الله تعالى ليقتص له من ظالمه يوم يقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"، اللهم اجعلنا مظلومين ننتظر النصر ولا تجعلنا ظالمين ننتظر العقوبة والهوان على رؤوس الخلائق كما نسألك حسن الخاتمة، آمين.
نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ
بن حاج علي
(( الهيئة الإعلامية للشيخ علي بن حاج ))