بسم الله الرحمن الرحيم

الجزائر يوم الجمعة 21 صفر 1431 هـ
الموافق لـ: 05 فيفري 2010 م


الشيخ علي بن حاج يطالب بوتفليقة تأسيس لجنة للاعتراف ومعرفة الحقيقة ومساءلة قادة انقلاب 92 على غرار لجنة بلير في بريطانيا
اثر وفاة اللواء العربي بلخير وظهور ردود أفعال متباينة اثر وفاته وعملا بحق التعبير وإبداء الرأي في الشخصيات العامة وحتى لا تتم عملية تزوير الحقائق وتزيف التاريخ أصدر نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ بيانا تطرق فيه إلى جملة من القضايا الشرعية والسياسية وعلى رأس تلك القضايا بين أن العربي بلخير مسؤول عن جريمة مصادرة اختيار الشعب بحكم أنه كان وزيرا للداخلية وقتها ومن كبار المهندسين للانقلاب على الإرادة الشعبية ورد على السلطات الرسمية التي أرادت أن تجعل منه بطلا من أبطال الجزائر وتزور الحقائق التاريخية فتجعل من الانقلاب بطلا من أبطالها
كما طالب رئيس الجمهورية المسارعة إلى تأسيس لجنة للاعتراف ومعرفة الحقيقة ومساءلة جميع أطراف الأزمة وعلى رأسهم القادة العسكريون والسياسيون الذين كانوا وراء الانقلاب المشؤوم الذي دمر للبلاد والعباد
وبين أن من يفلت من المحكمة الدنيوية سيجد مصيره أمام المحكمة الربانية يوم القيامة
واليكم نص البيان كامل
{ بيان للشيخ علي بن حاج }
{واجب التذكير بجريمة العربي بلخير}
* الحمد لله الذي تفرد بالبقاء وكتب على سائر خلقه الفناء، فقال جل جلاله "كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"الرحمن27 والقائل "كل شيء هالك إلا وجهه"القصص88 وبين الغاية من البعث، فقال "ليجزي الذي أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى"النجم31 والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، القائل "....إن الرائد لا يكذب أهله والله لتموتُنّ كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، وإنها لجنّة أبدا أو لنار أبدا..." وعلى آله وصحبه الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقون على عظيم فضلهم وجميل طاعتهم وجلائل أعمالهم في خدمة الإسلام والمسلمين.
* جرت عادة العائلات المالكة والأنظمة الاستبدادية الطاغية والعصابات الانقلابية الحاكمة في البلاد العربية أن تقيم لملوكها وأمرائها وحكامها أو بعض جنرالاتها الانقلابيين مراسيم جنائزية في غاية الفخامة والمهابة وبتكاليف باهظة فتسد الطرقات وتمنع الحركة وتنشر قوات الأمن العلني والسري في الشوارع والطرقات وتزين تلك المقبرة على آخر طراز مما لا يعود على ذلك العبد الهالك بالخير أو النفع ثم تتم عملية الدفن وسط مراسيم خاصة، ولو أن السلطة القامة اقتصرت على مجرد المراسيم ثم فوضت أمر ذلك الميت إلى الله تعالى والتزمت الصمت لهان الخطب، أما أن تفسح المجال واسعا لشهود الزور لتزوير الأحداث وتحريف التاريخ والقيام بعملية التزكية على الله تعالى والمدح والثناء الكاذب والإطراء الزائف فيصبح المجرم بطلا من أبطال الأمة فهذا ما لا يجوز السكوت عليه.
* بتاريخ 29-01-2010 أدرج أطباق الثرى الجنرال الانقلابي العربي بلخير وسط تقاليد عسكرية لافتة وحضر الجنازة أغلب كبار رجال السلطة بجناحيها العسكري والسياسي، وشخصيات سياسية واقتصادية ومدنية واجتماعية ورياضية ودينية وحزبية، وقام بتأبين الجنرال الانقلابي العميد نذير متيجي مدير الإعلام والاتصال بوزارة الدفاع الذي توفي يوم الجمعة بتاريخ 05/02/2010 وجعل منه "بطلا من أبطال الوطن" وفي الأخير قال له "نم قرير العين يا ابن الجزائر البار" فهل صدق في قوله هذا؟!!! وكل من طالع مضمون رسائل التعزية الصادرة عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الأمة ورئيس المجلس الوطني الشعبي والوزير المنتدب لدى وزير الدفاع يدرك حجم الإطراء الكاذب الصادر عن هؤلاء الشخصيات السياسية الرسمية ونحن نقول من حق هؤلاء الشخصيات أن يقولوا فيه ما قالوا صدقا أو كذبا أو مجاراة لمراسيم واعتبارات سياسية ولكن من حقنا ومن حق غيرنا أن يقولوا فيه ما يعتقدون، فالشخصية العامة -لاسيما من تولت مناصب حساسة- تعتبر جزءا من التاريخ ولا يجوز لأية جهة أن تمنعنا من الحديث وحق التعبير وإبداء الرأي في الشخصيات العامة أحياء وأمواتا، بحكم آثارهم التي خلفوها من بعدهم ولم تنقطع بموتهم فقد نص علماء الإسلام أن إمام الجمعة إذا مدح من لا يستحق المدح أو ذم من لا يستحق الذم جاز للمصلين أن يتكلموا أثناء الخطبة ولا إثم عليه، بحكم أن كلام الإمام أصبح لغوا لا ذكرا يجب الإنصات إليه، فرسائل التعزية السابقة الذكر وخطبة التأبين باسم وزارة الدفاع زيفت الحقائق ومدحت جنرالا انقلابيا من الطراز الأول، وسوف نقول رأينا في الجنرال الانقلابي من باب الحق في إبداء الرأي والتعبير وحتى لا يزيف التاريخ ولكن قبل ذلك لا بد من التذكير بجملة من الحقائق الشرعية التي غفل عنها الكثير من إخواننا المسلمين من باب النصح والتذكير "فإن الذكرى تنفع المؤمنين"الذاريات55.
أولا: الموت حق لا مرية فيه:
* أطبقت جميع الأديان السماوية أن الموت حق لا مرية فيه وأن الموت ضربة لازب على كل مخلوق كما أن الموت ليس نهاية أبدية كما يزعم الدهريون أو الملاحدة، بل أن الله يبعث من في القبور يوم الحشر والنشور فهو مجرد نقلة من دار الفناء إلى دار الخلود والبقاء فإما إلى جنة يدوم نعيمها أو إلى نار لا ينفذ عذابها وأن المنقلب والرجعى لله تعالى طال العمر أم قصر، قال تعالى "وإليه تقلبون"العنكبوت21، "وإنا إلى ربنا لمنقلبون"الزخرف14، "إن إلى ربك الرجعى"إقرأ8، "إنا لله وإنا إليه راجعون"البقرة156، والنصوص في هذا المعنى كثيرة أما الدنيا في حقيقة أمرها دار فناء وعبور وامتحان وابتلاء والأكياس فيها يعملون لما بعدها وهم من خشية ربهم مشفقون، قال عليه الصلاة والسلام "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور" وقال عيسى عليه السلام "الدنيا قنطرة، أعبروها ولا تعمروها" وقديما قال الشاعر:
هو الموت لا منجى من الموت والذي * نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ومهما ملك الإنسان في الدنيا من مال أو عقار أو....أو.... فلن يخرج منها إلا بالقطن والكفن ولن يقبر إلا في حفرة ضيقة وحيدا فريدا لا يصاحبه إلا عمله صالحا كان أو طالحا، قال تعالى "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أو مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم..."الأنعام93. وقال جل جلاله "وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا"الكهف48.
ثانيا: الموتى مستريح ومستراح منه:
* إن الميت لا يعدوا أن يكون واحد من اثنين إما مستريح أو مستراح منه، وكل منهما يجوز أن يشدد عليه عند الموت أو يخفف، فقد مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال مستريح أو مستراح منه، فقالوا ما المستريح وما المستراح منه؟ فقال، العبد المؤمن مستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والمستراح منه العبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب"، قال الإمام علي رضي الله عنه "إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا قوله تعالى "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين"الدخان29، وقال ابن عباس رضي الله عنه: تبكي الأرض على المؤمنين أربعين يوما" وقال مسروق رحمه الله "ما غبطت شيئا لشيء كمؤمن في لحده أمين من عذاب الله واستراح من الدنيا". قال ابن التين رحمه الله في شرحه للحديث "يحتمل أن يريد بالمؤمن التقي خاصة ويحتمل كل مؤمن، والفاجر يحتمل أن يريد به الكافر ويحتمل أن يدخل فيه العاصي" وقال الداودي رحمه الله "أما استراحة العباد فلما يأتي به من المنكر فإن أنكروا عليه أذاهم وإن تركوه أثموا واستراحة البلاد مما يأتي به من المعاصي فإن ذلك مما يحصل به الجدب فيقتضي هلاك الحرث والنسل"
ثالثا: حياة الروح (منعّمة أو معذّبة):
* من عقائد المسلمين أن الروح باقية لا تهلك وإنما يهلك من الإنسان الميت بدنه ولا يبقى منه إلا عجب الذنب، كما جاء في الحديث منه خلق ومنه يركب، والله تبارك وتعالى لم يقل كل نفس ميتة، وإنما قال جل جلاله "كل نفس ذائقة الموت" وذوق الموت إنما هو مفارقة الروح للجسد لتنتقل الروح إلى عالم الأرواح في البرزخ "ومن وراء برزخ إلى يوم يبعثون"المؤمنون100 وعالم الأرواح من عجائب خلق الله تبارك وتعالى مما يدل على جلالة قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه وعالم الأرواح يدرك بالبصيرة المؤمنة وليس بمجرد الأبصار والله يقول "فلا أقسم بما تبصرون وما لا يبصرون"الحاقة38-39 ولا شك أن عالم ما لا يبصره الإنسان أوسع وأعظم مما يبصره الإنسان بحواسه المحدودة الإدراك، ومن الأدلة على بقاء الروح بعد فراق الجسد وإنها تكون منعمة أو معذبة إلى يوم البعث، قوله تعالى "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"غافر46، ففرعون وآله ومن كان على شاكلته هم في عذاب منذ أن فارقت أرواحهم أجسادهم إلى اليوم وإلى يوم تقوم الساعة وهذا هو عذاب القبر، وقال تعالى "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى" طه124، ومن المعيشة الضنك عذاب القبر وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والنصوص على عذاب القبر ونعيمه كثيرة منها، قوله عليه الصلاة والسلام "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" وقوله صلى الله عليه وسلم "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه" وعذاب القبر تسمعه حتى الحيوانات والدواب كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
والحاصل أن الروح باقية لا تفنى وأهل السعادة أرواحهم منعمة وقبورهم روضة من رياض الجنة إلى يوم البعث وأهل الشقاوة أرواحهم معذبة وقبورهم حفرة من حفر النار إلى يوم يبعثون، نسأل الله حسن الخاتمة والسلامة.
رابعا: حكم الثناء بالشر أو بالخير على الموتى:
* مما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية هي أمة الشهادة على الناس وعلى الأمم وعلى الأحياء والأموات ونحن لسنا ضد الثناء على موتى المسلمين بالخير إن كانوا كذلك ولذلك عقد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بابا عنوانه باب ثناء الناس على الميت وإنما نحن ضد شهادة الزور على بعض الموتى من ملك أو حاكم أو أمير أو زعيم أو جنرال والشعوب العربية والإسلامية تنظر إلى شهادة الأنظمة لبعض رجالها ورموزها بعين الريبة والشك ولو صدرت من بعض علماء السلطان وشواهد التاريخ القديم والحديث على ذلك فوق الحصر، أما النصوص الشرعية على جواز الثناء على الموتى بالخير أو بالشر فكثيرة منها:
-عن أنس بن مالك رضي الله عنه "مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما وجبت؟! قال هذا أثنيتم عليها خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض" وفي رواية "الملائكة شهود الله في السماء وأنتم شهداء الله في الأرض" وفي رواية "والمؤمنون شهداء الله في الأرض إن ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر".
-قال عليه الصلاة والسلام "ما من مؤمن يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه"
-قال عليه الصلاة والسلام "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، قلنا ثلاثة قال ثلاثة واثنان قال اثنان ثم لم نسأله عن الواحد".
-عن أبي هريرة رضي الله عنه قال مروا على النبي صلى بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا شرا فقال وجبت إن بعضكم على بعض شهداء"
-عن يزيد بن شجرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال الناس خيرا وأثنوا عليه خيرا فجاء جبرائيل فقال :إن الرجل ليس كما ذكروا ولكن أنتم شهداء الله في الأرض وقد غفر له ما لا يعلمون"
والحاصل أن من إكرام الله لهذه الأمة أن جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
خامسا: ضوابط الشهادة على الموتى:
* من المعلوم شرعا أن للشهادة المقبولة عند الله تعالى جملة من الضوابط والشروط وليست شهادة كل من هب ودب كما يظن الكثير من الناس، ولتجلية هذه الحقيقة الشرعية التي غفل عنها الكثير من إخواننا المسلمين حتى أصبح بعضهم عن جهل يترحم على بعض أعداء الإسلام من المنافقين أو من من صدرت منهم أقوالا وأفعالا كفرية، أو كانوا من العصاة العتاة، فوجب علينا بيان ما يشترط في الشاهد والمشهود له أو عليه.
أ-ما يشترط في الشاهد:
1-أن يعلم علم اليقين أن ما من شهادة يدلي بها المسلم بحق أو بباطل إلا شهد عليها في الآخرة وستعرض عليه يوم القيامة لقوله تعالى "ستكتب شهادتهم ويسألون"الزخرف19، وعن سليمان بن راشد رضي الله عنه أنه بلغه "أن أمرأ لا يشهد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ولايمتدح عبدا في الدنيا إلا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد" فليحذر كل مسلم أن يدلي بشهادة بغير معرفة أو علم لقوله تعالى "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون"الزخرف86.
2-اجتناب شهادة الزور طمعا في دنيا أو منصب أو جاه أو نكاية في خصم من الخصوم وقد حذرالله تعالى من شهادة الزور فقال جل جلاله "فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور"الحج30، وقال في شأن عباد الرحمن "والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما"الفرقان، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور" وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله" ولما فسدت طبائع الناس وكثر فيهم الكذب وشهادة الزور أخذ القضاة التشدد في قبول الشهادة، فهذا شريح القاضي رحمه الله كان يدقق في الشهود ويتحرى في شأنهم بما لم يكن من قبل فقيل له أحدثت، فقال رحمه الله "إن الناس أحدثوا فأحدثت" لاسيما بعد أن نفق سوق الكذب والثناء الكاذب.
3-لا تجوز الشهادة بغير علم أو معرفة صادقة، فالشهادة النافعة المقبولة هي التي توافق الواقع في نفس المشهود، وأما معنى أنتم شهداء الله في الأرض أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر"، جاء في تحفة الأحوذي في شرح الحديث أي المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان..." قال ابن التين "إن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم، والصواب أن ذلك يختص بالمتقيات والمتقين" وقال الداودي "المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم ولا من بينه وبين الميت عداوة لأن شهادة العدو لا تقبل" وذكر الإمام النووي رحمه الله في معنى ذلك قولين قيل "معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل والصدق وكان ذلك مطابقا للواقع، فهو من أهل الجنة وإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه" ثم قال "الصحيح أنه على عمومه، وإن من مات منهم فألهم الله -تعالى- الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة وهذا إلهام يستدل به على تعيينها وبهذا تظهر فائدة الثناء.." وقال ابن العربي المالكي رحمه الله "والحكم بالظاهر في الثناء بالخير على الخير البادي والحكم بالظاهر في الثناء بالشر على الشر البادي والسرائر إلى الله" والحاصل: أن الشهادة بالخير أو الشر تكون بحسب الظاهر فقط، وإنها لا تشمل شهادة الكذبة والفسقة وأصحاب الأغراض وأن الشهادة ليست مخصوصة بالصحابة كما ذهب إليه لفيف من العلماء وإنما هي عامة في كل أهل الفضل والصدق الإخلاص والتجرد لله تعالى.
4-على الشاهد أن يفرق بين أمرين اثنين هما الثناء بالخير والتزكية فالثناء جائز بضوابطه أما تزكية الميت على الله تعالى فلا تجوز، فقد ورد أن أم العلاء امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لها عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي يوفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله، فقلت "رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله"، فقال البني صلى الله عليه وسلم "وما يدريك أن الله أكرمه؟!" فقلت "بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟" فقال "أما وقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي"، وفي رواية "ما يفعل به" قالت "فوالله لا أزكي بعده أحدا" فأين هؤلاء الذين يشهدون بالزور فيخاطبون الميت بقوله تعالى "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" نعوذ بالله من الخذلان، قال ابن حزم رحمه الله في شأن الرثاء المحرم "يذكرونه برياسته التي جار فيها وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله تعالى وبجوده الذي ما جاء به من غير حله ووضعه في غير حقه" وهذا شأن أغلب الملوك والأمراء والحكام والجنرالات جور في الحكم وقوة في غير طاعة وأخذ أموال الأمة وصرفها في غير وجه شرعي فبعض الملوك والحكام يسرق أموال الأمة وعائدات النفط والغاز ثم يتظاهر في المواسم والأعياد بالتطوع ببعض الفتات!!!
5-أما الشفاعة في الميت فليست لمن هبّ ودبّ، لأن الشفاعة من حيث الأصل هي ملك لله تعالى "قل لله الشفاعة جميعا" الزمر44، ولا تكون إلا بإذن من الله تعالى لقوله تعالى "قل من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه"البقرة255، والله سبحانه وتعالى لا يقبل شفاعة المجرمين لأمثالهم من المجرمين فهي مقصورة على الصالحين من عباده من أهل صواب القول لقوله تعالى "إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا"النبأ38، وقوله تعالى "يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا"طه109، أما الظالمين فقد قال الله فيهم "ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع"غافر18.
ب-ما يشترط في المشهود له أو عليه:
إذا كان المشهود له صالحا في ظاهر أمره فالأمر فيه واضح كما سبق ذكره، إما إن كان المشهود عليه ظالما أو فاسقا أو واقع في الكفر الإعتقادي أو العملي فلا يجوز الثناء عليه قولا واحدا، فكيف إذا كان مجاهرا بذلك كان المشهود عليه مجاهرا بظلمه أو فسقه أو كان انقلابيا جلادا؟!!!
والحالة الوحيدة التي يجوز فيها الثناء على مثل هؤلاء تتمثل فيما يلي:
1-الاعتراف بالذنب علانية والتوبة منه لقوله تعالى "وآخرون اعترفوا بذنبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم" التوبة102، وقال تعالى "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" البقرة160.
2- طلب العفو والصفح من أصحاب المظالم ويجب أن يرد إليهم حقوقهم ويستحلهم، ويخرج من زمرة الطغاة الظالمين، وبغير رد المظالم لا تصح التوبة والنصوص في هذا المعنى كثيرة قال عليه الصلاة والسلام "لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" وقال عليه الصلاة والسلام "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" وهذا يشترك فيه القاتل والآمر بالقتل والراضي بالقتل بغير وجه حق شرعي، وقال عليه الصلاة والسلام "لاينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وواحد من أهل النار يظلمه بمظلمة حتى اللطمة" فكيف بمن عذب الناس من رجال الشرطة والدرك والجيش ورجال المخابرات، وقام بقتل الناس خارج إطار القضاء الشرعي أو ألحق بهم عاهات دائمة؟!!! أما قادة الأجهزة الأمنية المختلفة الذين أمروا وقننوا التعذيب فحسابهم عسير يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الظلم، فقال عليه الصلاة والسلام "من ضرب مملوكه سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة" وقال أيضا "لا ينبغي لأحد من أخل الجنة أن يدخل الجنة وواحد من أهل النار يظلمه بمظلمة حتى اللّطمة" ولخطورة المظالم بحق العامة قال عليه الصلاة والسلام "صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي، إمام ظلوم غشوم وكل غال مارق" وأغلب الملوك والأمراء والحكام الطغاة والجنرالات الدمويون يموتون ويدفنون في أبهة دون أن يتوبوا من ظلم شعوبهم أو يردوا الحقوق إلى أهلها، بل يتطوع بعض شهود الزور ليقولوا منكرا من القول و زورا ولا حول ولا قوة إلا بالله من انطماس البصيرة.
سادسا: الموتى تلاحقهم آثارهم (خيرا أو شرا):
* دلّت نصوص الكتاب والسنة أن الإنسان بعد موته إما أن يترك أثارا حسنة له أجرها إلى يوم القيامة أو أن يخلف وراءه آثارا سيئة عليه وزرها إلى يوم القيامة، ومن ذلك قوله تعالى "علمت نفس ما قدمت وأخرت"الإنفطار5، وقوله تعالى "ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر"القيامة13، وقال جل جلاله "إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين"يس12، (فآثارهم) أي أعمالهم الصالحة المتجددة تسجل في صحائف حسناتهم وأعمالهم السيئة المتجددة تسجل في صحائف سيئاتهم ولو بعد موتهم، فقوله تعالى "ماقدموا" أي ما باشروا فعله في حياتهم الدنيا، "وآثارهم" هو ما سنوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم، قال أنس رضي الله عنه "هذا في الحظر يوم الجمعة" وقال مجاهد رحمه الله "ويكتب ما قدموا أعمالهم وآثارهم خطاهم بأرجلهم" وقال أيضا "نكتب ما قدموا من خير وأثارهم قال أورثوا من ضلالة" قال قتادة رحمه الله "لو كان الله مغفلا شيئا من أثر ابن آدم لأغفل من هذا الآثار التي تعفيها الرياح ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو في طاعة الله أو في معصية فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله فليفعل" قال سعيد بن جبير رحمه الله "ونكتب ما قدموا وأثارهم، قال ما سنوا من سنة فعمل بها من بعد موتهم" وقال المفسر الشهير جمال الدين القاسمي رحمه الله "نكتب ما قدموا" أي نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر" وآثارهم" أي ما تركوه من سنة صالحة فعمل بها بعد موتهم أو سنة سيئة فعمل بها بعدهم" وأما الأحاديث في تقرير هذه الحقيقة فكثيرة في الخير أو الشر.
أ-ففي الخير، قال عليه الصلاة والسلام "إذا مات ابن آدم انقطع عمله لا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" فهذه أعمال ينتفع بها المسلم بعد موته ويجرى عليها ثوابها بعد موته.
مضافا إلى ما كان منه في حياته ومنها قوله عليه الصلاة والسلام:"من مات مرابطا جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة". فالعمل الخيري المتعدي يجري ثوابه على صاحبه ولو بعد موته بعشرات القرون وإلى يوم البعث "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم". وقال عليه الصلاة والسلام:"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم ...." وفي رواية:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ....." وفي رواية:"من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه غير متنقص من أجورهم شيئا ......" وفي رواية:"من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر ....." فالعالم العامل الذي يقصد الإصلاح العام أجره عند الله عظيم حتى أن الحوت يستغفر له في البحر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدال على الخير كفاعله" وفي رواية:"الدال على الخير له مثل أجر فاعله" قال الإمام الطحاوي رحمه الله في شرح مشكل الآثار:"وإذا كان الدال يستحق بدلالته على الخير ما يستحقه العامل بذلك الخير كان من سن سنة حسنة دلّ بعمله بها الناس فعملوها بعده يكون في سنته إياها لهم من الأجر كَهُمْ فيه عملهم إياها وكذلك في الوزر يكون سَنّه إياه لهم في عملهم بعده به في الوزر كَهُمْ فيه".
ب- الإنسان مؤاخذ بعد موته عما عُمِلَ به بعده من ضلالة وما سن من فساد وشرور قال عليه الصلاة والسلام:".... ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووز من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا ثم تلا الآية:"ونكتب ما قدموا وآثارهم"" وفي رواية:".... ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" وفي رواية:".... ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا" وفي رواية:".... ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره ومثل من تبعه غير متنقص من أوزارهم شيئا". ومما يدل على أن من سن سنة شر لحقه شرها في قبره قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها لأنه أول من سنّ القتل" قال ابن مسعود رضي الله عنه: أي نصيب من الإثم. ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف على الأمة من أعمال الشر المتعدية حيث قال:"لعن الله من أحدث حدثا" قال ابن القيم رحمه الله:"وهي تختلف باختلاف الحدث نفسه فكلما كان أكبر كانت الكبيرة أعظم" وقال أيضا:"إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" والأئمة يشمل الحكام والعلماء ومن هنا نقول أن الملوك والأمراء والحكام والجنرالات والزعماء والكبراء يلحقهم إثم ما سنوا وما شرعوا وما نشروا من فساد في الأمة وهم في قبورهم لأن من نشر الفساد العام يعظم وزره بخلاف العاصي العادي الذي لا تتعدى معصيته نفسه فهذا لا يأثم بأفعال الآخرين قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "كل من عمل عملا فاقتدي به إن صالحا فصالح وإن طالحا فطالح وفيه جاء:"من سن سنة حسنة أو سيئة"و"إن نفسا تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل" وقد عُدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب وإن كانت في نفسها صغيرة والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الكلية الجزئية وهو المطلوب ....".وذلك لأن الأئمة محل الاقتداء والإتباع عند العامة. والحاصل أن الإنسان مؤاخذ شرعاً عما عُمِل به بعده مما سنّه للناس من هدى أو ضلالة ما لم يتب إلى الله توبة نصوحاً وأن كتابة الأجر والإثم تلحقه بما خلفه من وراءه من آثار فعله.