كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته ..
وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من نوم عميق ..
ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل ..
فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة ..
وغادرها وهي هادئة ساكنة ..
حتى سارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً ..
ما إن دخل الطبيب داره التي تركها من برهة قصيرة ..
وغادرها وهي هادئة ساكنة ..
حتى سارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً .
فها هو يرى المربية .. عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار ..
تلفف شيئاً من فوق أشياء ..
وبجانبها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها ...
والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات ..
وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي إلى السطح ..
وهو يراقب الأمر صامتاً ..
حتى رفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها ..
وأمسكت بيد الولد الأكبر ..
وحملت المربية صرة بعد أخرى ..
وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها ..
وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه ..
وجاءت المربية من خلف سيدتها ..
والطبيب الذي أنهكه عمله طول اليوم ..
ومن بعده لقاؤه المثير لأبيه ..
فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب ..
تقدم مدخل الدار .. واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنطلق ..
ولا جواب .. والصغير على كتفها ..
والزوج لا يتحول عن مدخل الدار ..
ولا يسمح لزوجته بالخروج ..
وهذه حال لا يطول الصبر عليها ..
فهبطت الأحمال التي على رأس المربية إلى أرض الصالة ..
وتقدمت الزوجة من زوجها قائلة :
قالت: كنتُ واهمة كما أنت واهم الآن تماماً!!
قالت : إن ما بيننا قد انتهى ..
قالت: ما من سبب ولا غضب ..
يكفي أن تعلم بأنك مجنون .. وأنا لا أعاشر المجانين ..
لم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما ..
وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية ..
التي لا يؤمن معها نقاش ولاحوار ..
وخلّى بينها وبين مدخل الدار ..
وقبع في زاوية على أريكة يراقب التطورات ..
انفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة ..
فسألته في حدة : أعرّفك لماذا أنت مجنون؟
إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت ..
وكلما خلوت بي .. أوصيتني بولديك خيراً .. إذا سبقت المنية إليك ..
فكيف يا ترى تحقق وصيتك فيهم ..
إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة ..
أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك ..
في المهنة والوظيفة جميعاً ..
ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد ..
فقالت: وإلى من دفعت المال؟..
إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟ ..
إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك ؟..
إذا وافاك الأجل صغيراً كما تظن ؟..
ثم أقبلت على زوجها .. وجلست في مواجهته وعلا صوتها ..
فما وجدت إلا حفنة من الدراهم ..
وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك؟ ..
لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا؟ ..
وسدت في وجهه أبواب الخلاص ..
أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول ؟..
أو ليس هو الذي أغرى بك الكنيسة ليطاردوك .. ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة ..
أو ليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد ..
ولا يعلم شيئاً من أمرك .. إلا أن يكون شامتاً بك ..
أو ساخراً من أبي الذي آواك .. وزوجك من ابنته ..
واستمرت الزوجة تثير له شديد التقريع والتأنيب ..
والطبيب يتذرع بالصفح .. ويلوذ بالصمت ..
وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب ..
كان هو يتفكر في اللقاء الذي كان بينه وبين أبيه ..
وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء ..
ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لأولاده عليه ؟..
تأمل الطبيب موقفه من جديد ..
ترى .. هل أصبت في هذا التصرف ..
أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء ..
وذهبت الزوجة بعد ذلك .. غاضبة إلى بيت أبيها ..
دخل عليه صهره الشيخ عبد الحميد ..
ومعه الأسرة الصغيرة والمربية .. تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار ..
ودخلت الزوجة .. وهي تحمل ابنها الصغير ..
وتمسك بالكبير .. وتتجه نحو غرفة النوم ..
وتختصر في رد المقال عليه ..
وانسحبت ومن معها بعد ذلك إلى الداخل ..
وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان ..
قال الشيخ: ما عرفت عن ابنتي أنها كاذبة أبداً ..
وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً ..
ولقد قصت علي كل ما جرى بينكما في الأيام الأخيرة ..
وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال ..
ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء ..
ما أظنها قد جرأت يا عم .. أن تنقل إليك ما ألقته في وجهي من قصائد المديح والثناء!!..
إنني لا أستبعد برغم فقهها ..
أن تكون قد اقتصرت حياء مني حين أحست بخطئها ..
فلقد كان القدر الذي ذكرته لي .. كافياً لإدانتها ..
وما بك الآن حاجة إلى أحصاء المزيد من الوقائع ..
وفي حالتك .. فأنت أدرى الناس بما حدث ..
ثم إن والدك قد قاطعك لسنوات طويلة ..
ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك ..
إلا ليستدر عطفك عليه وعلى أولاده فيما يمر به من محنة ..
فبأي حق يطلب منك النجدة ..
ولماذا جاء الآن فقط يطلب منك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته ..
وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك ..
وأنك لن ترثه هو ولا أمك .. ولا أحد من سائر إخوتك ..
كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع ..