ثار الأب يلعن ذلك اليوم الذي ابتلي فيه بهذا الابن الضال،
وأحاط الأبناء والزوجة بالأب يهدأون من روعه
بعدما رأوه من اشتداد غضبه وما هو عليه
يقرر بالغضب ويلقي بالشتائم وينذر بالتهديدات،
وأدرك الولد بسرعة أن الأمر لن يقف عند هذا الغضب
قد ارتكب عدة أخطاء لا خطأً واحداً،
فاندفع إلى خارج الدار لا يلوي على شيء،
واندفعوا خلفه يسبونه ويقذفونه بالأحجار،
ولم يكن ذلك ما يؤلمه رغم شدته،
لكن ما آلمه أنه لم يحمل معه قلماً ولا قرطاساً،
وتنبه فإذا هو في الطريق العام،
فسار مسرعاً جاد الخطوات لعله يبتعد عن حي الظاهر كله،
وقد خشي أن يلاحقه أبوه وبعض إخوته وأهله،
وإذ أوغل في الطريق واقترب من حي ساهر،
كما اعتاد الناس في شهر رمضان أحس بحاجة ملحة إلى الهدوء،
وطرقه مقهى عامراً بالرواد،
وجلس يتأمل أحداث هذه الساعة من الزمان،
كيف بدأت وكيف انتهت إلى ما انتهت إليه،
وتحسس جيبه ليعلم كم معه من نقود قليلة،
وقفزت أمامه أسئلة شديدة الإلحاح،
الكتب .. المراجع .. ملابسه .. أدوات مهنته .. مذكراته الخاصة ..
إنها كلها في حجرته الخاصة،
وهو لم يقترب من حجرته مجرد اقتراب في ليلته هذه.
فماذا يكون من أمره غداً..
وما بعدها من شهور حتى ينهي دراسته ثم يلتحق بوظيفة تعينه على شؤون الحياة ..
أدرك الطبيب الموقف على حقيقته بعد قليل من التأمل ..
واتجه من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل ..
لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه
وأفضى إليه بتفصيل ما كان ..
اتجه عبده من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل ..
لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه
وأفضى إليه بتفصيل ما كان ..
وأراه المنظرة التي كانوا قد اعتادوا الجلوس فيها ..
وفي غد إن شاء الله في طريقنا إلى المستشفى ننظر في هذا الموقف المفاجىء ..
"إن عبده إبراهيم كان منقطع الصلة بالحياة العامة تماماً ..
لانصرافه التام للدرس والتحصيل لمهنته ..
وللدين الجديد الذي اعتنقه ..
وقد كانت لهذه الحال آثارها في حياته الخاصة من يوم أن خرج من دار أبيه
بما في ذلك اختيار الوظيفة والبيئة التي تحيط به..
لكنه كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه
وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته..
كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه
وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته..
فمنها استمرار ثورة الخواجة إبراهيم على صدقي وبرادة
بسبب اعتقاده بأنهما السبب في غوايته،
ثم إنه ومن معه سيلاحقون عبده بالأذى في كل مكان يذهب إليه أو يعمل به أو يقيم فيه،
فضلاً عن تسامع الجيران من النصارى بما حدث،
وربما امتد السماع إلى الأحياء القريبة المجاورة من مسرح الأحداث،
لذا يتوقع أن يكون في حي الظاهر لغط وشائعات،
ولا بد أنه سيكون في حي الجمالية وحي السيدة زينب
وربما اتسعت الدوائر حول هذه الأقطاب وانتشرت التعليقات والأقاصيص.
لكن الخطر القريب هو الصدام المرتقب بين الخواجة إبراهيم وبين صدقي وبرادة،
لقد تسرعت يا عبده في تصرفاتك الخاصة،
وأخطأت بما ظننته في نفسك من قدرة على هداية أبيك،
ولقد أوقعتنا بذلك في مأزق ماكان أغنانا وأغناك عنه في هذه الأيام،
قالا ذلك والطبيب الشاب هادئ ساكن يتفكر في قول الله تعالى:
"إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"
ولما كان صدقي لم يزل غير صاحب دخل مادي،
فقد كان الأستاذ أحمد برادة المحامي يدخر من إيراده ثلاثة جنيهات فرنسية شهرياً،
وقد استمرت الحال على ذلك عشرة أشهر
حتى اكتمل الدين ثلاثين جنيهاً
ردها الطبيب لبرادة بعد استقراره في أول وظيفة،
وكان برادة حينئذ أيسر الثلاثة حالاً بعد أن كان الأرق حالاً،
فقد سبق صاحبيه إلى التخرج،
كذلك كان قد نشط في بعض الأعمال الخاصة
بالإضافة إلى وظيفته فهو من تولى تمويلهم في هذه الأزمة،
على كل حال حدث ما توقعه الجميع،
فالغيورون من أهل عبده سواء منهم الأقربون والبعيدون
وحقاً لم يرهقهم البحث لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه
وبالذات في المنظرة في منزل صدقي،
توافدوا عليه زرافات ووحداناً،
وتكررت مناقشاتهم معه وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل،
وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمطاردات نهاية حاسمة،
بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم ولحظة،
خاصة وأن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه،
يا بني إنك فرد مرموق في أسرتنا،
وفي جملة القبط كلهم خلقاً وسمعة،
ثم إنك توشك أن تكون طبيباً،
وهذا الذي فعلت خسارة لا نطيقها،
فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك،
وللنصارى في مصر وغيرها من بلاد الله
إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل،
يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا،
إن أباك يدعوك إلى الاستماع من رجال الدين إلى كلمة الحق،
وهم لابد أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا،
إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه ببينة وحجة،
فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا،
قالوا: فعد معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره،
وافق أن يذهب معهم إلى بيت أبيه ..
وقبل أن يذهب توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا ..
وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر ..
فبين له الشيخ ما غاب عنه ..
وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص ..
كإظهار الحق ومقامع الصلبان، وشروح أهل الكتاب، وكيف يرد على شبهاتهم ..
وذهب في الموعد لدار أبيه ..
لقد أنفق أبوه عن سخاء لإنقاذ ولده الأكبر عما هو فيه ..
وليمنعه مما هو مقدم عليه ..
إلى أن أتى الموعد المضروب لرجال اللاهوت ..
فعجل والده بجلسة سريعة يمهد بها للجلسة الكبرى ..
فربما يرجع الابن عن قريب ..
والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة ..
والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها ..
ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب ..
على أنه رأي فرد ضال كما ذكرمن قبل من أنه وقع تحت جو عام من الإغراء الذي أحاطه رفاقه به ..
وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد ..
لكنهم وجدوا لكل سؤال جواباً ..
ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة ..
استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل ..
و كانت مناقشة طويلة جداً جداً ..
من أقوى المناظرات في نقد عقائد النصارى ..
عكست مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام ..
و تكلم فيها كلاماً مفصلاً جداً وألجمهم فما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة ..
التجسد، الأقانيم الثلاثة، البنوة، جرأتهم على الأنبياء، دعوى أبوة الجسد ليوسف النجار، الصلب وأصله الوثني، والقيامة ..
وفي الإسلام: حقيقة الوحي، حقيقة القرآن، حيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة ..
واتفقوا أن يخرجوا بقرار هو أن يحشدوا له فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظره في جلسة تالية ..
حتى بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت القضايا التي كانت عندهم يقيناً معلقة ..
حيث قالوا عنها هذه معلقة لا نستطيع أن نرد عليك فيها ..
واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم ..
وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى ..
وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت ..