الكلمة الرابعةوَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ"أمر بطلب العون من الله تعالى دون غيره ، فإذا أردت العون وطلبت العون من أحد فلا تطلب العون إلا من الله عزّ وجل لأن العبد من شأنه الحاجة إلى من يعينه في أمور معاشه ومعاده ، ومصالح دنياه وآخرته ، وليس يقدر على ذلك إلا الحي القيوم ، الذي بيده خزائن السموات والأرض ,فطلب العون منالله وسؤال الله تعالى والتوجه إليه بالدعاء من أبرز مظاهر العبوديّة والافتقار إليه ، بل هو العبادة كلها كما جاء في الحديث : ( الدعاء هو العبادة ) ، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين في كتابه العزيز فقال : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } ( الأنبياء : 90 ).، فمن أعانه الله فلا خاذل له ، ومن خذله الله فلن تجد له معينا ونصيرا ، قال تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } ( آل عمران : 160 ) ، ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول : ( اللهم أعني ولا تعن علي) ، وأمر معاذا رضي الله عنه ، ألا يدع في دبر كل صلاة أن يقول ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) رواه النسائي وأبو داود .
ولأن الله هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يعين العبد إذا شاء إذا أخلص الاستعانة بالله وتوكل عليه ، وإذا استعان العبد بمخلوق فيما يقدر عليه فليعتقد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره له. وسؤال غير الله دليل على نقص التوحيد ,ولهذا تكره المسألة لغير الله عزّ وجل في قليل أو كثير، والله سبحانه وتعالى إذا أراد عون العبد يسر له العون ,وقد يعينه الله على يد أحد من الخلق يسخره له ويذلِّله له حتى يعينه، ولكن مع ذلك لا يجوز له إذا أعانه الله على يد أحد أن ينسى المسبب وهو الله عزّ وجل.
وإذا قويت استعانة العبد بربّه ، فإن من شأنها أن تعمّق إيمانه بقضاء الله وقدره ، والاعتماد عليه في كل شؤونه وأحواله ، وعندها لا يبالي بما يكيد له أعداؤه ، ويوقن أن الخلق كلهم لن ينفعوه بشيء لم يكتبه الله له ، ولن يستطيعوا أن يضرّوه بشيء لم يُقدّر عليه ، ولم يُكتب في علم الله ، كما قال سبحانه : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } ( الحديد : 22
الكلمة الخامسةوَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك" الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو من الله في الحقيقة لأنه هو الذي كتبه له وهذا حث لنا على أن نعتمد على الله عزّ وجل ونعلم أن الأمة لا يجلبون لنا خيراً إلا بإذن الله عزّ وجل.
وفي هذا بيان القدر الثابت، وأن العباد لن يغيروا من قدر الله -جل وعلا- الماضي شيئا، وأما مَن عظم توكله بالله -جل وعلا-، فإنه لن يضره الخلق، ولو اجتمعوا عليه، كما قال -جل وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .
والتوكل على الله -سبحانه وتعالى- من أعظم مقامات الإيمان، بل هو مقام الأنبياء والمرسلين في تحقيق عبوديتهم العظيمة للرب -جل وعلا
والتوكل على الله معناه: أن يفعل العبد السبب الذي أُمر به، ثم يفوض أمره إلى الله -جل وعلا- في الانتفاع بالأسباب، وإذا كان ما لديه من الأمر لا يملك أن يفعل له سببا فإنه يفوض أمره إلى الله -جل وعلا- كما قال سبحانه في ذكر مؤمن آل فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ وهذا التفويض إلى الله -جل وعلا- عمل القلب خاصة، يعني: أن يلتجئ بقلبه، وأن يعتمد بقلبه على الله -جل وعلا- في تحصيل مراده، أو دفع الشر الذي يخشاه، والعباد إذا تعامل معهم فإنما يتعامل معهم على أنهم أسباب، والسبب قد ينفع، وقد لا ينفع.
الكلمة السادسة : "وإِن اِجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ" وعلى هذا فإن نالك ضرر من أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك فارض بقضاء الله وبقدره، ولا حرج أن تحاول أن تدفع الضر عنك،لأن الله تعالى يقول(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا )(الشورى: الآية40) . {وإن يمسسك الله بُضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله }[يونس:107]
الكلمة السابعة: "رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفّت الصُّحُفُ" يعني أن ما كتبه الله عزّ وجل قد مضى و انتهى أي أن القدر ماض، والعبد يمضي فيما قدره الله فالأقلام رفعت والصحف جفت ولا تبديل لكلمات الله . برفعالأقلام وجفاف الصحف قدرت المقادير وانتهت وكتبت في اللوح المحفوظ.
وفي رواية غير الترمذي: احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك .
"اِحفظِ اللهَ تَجدهُ أَمَامَكَ" وهذا بمعنى "احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفُكَ في الشّدةِ" تعرُّف العبد إلى ربه هو: علمه بما يستحقه -جل وعلا, تَعَرَّفْ إلى اللهِ تعلم ما يستحقه -جل وعلا- عليك، وما يستحقه منك؛ توحيده في ربوبيته، وإلهيته، وفي أسمائه وصفاته، ما يستحقه -جل وعلا- من طاعته في أوامره، وطاعته فيما نهى عنه باجتناب المنهيات، وما يستحقه -جل وعلا- من إقبال القلب عليه، وإنابة القلب إليه، والتوكل عليه، والرغب فيما عنده، واتباع ما يحب ويرضى من أعمال القلوب إذا كنت في رخاء من أمرك. يعني قم بحق الله عزّ وجل في حال الرخاء وفي حال الصحة وفي حال الغنى فإن هذا من أفضل الأعمال الصالحة، بل هو لب الدين وعماده .يعرفك في الشدة .إذا حصل منك التعرف إلى الله، والتعرف على الله -جل وعلا- عرفك الله في الشدة. إذا زالت عنك الصحة وزال عنك الغنى واشتدت حاجتك عرفك بما سبق لك فعل الخير الذي تعرفت به إلى الله عزّ وجل.
وكلمة: "يعرفك" هذه جاءت على جهة الفعل، ومعلوم في باب الصفات أن باب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات.
التعرف إلى الله في الشدة يشترك فيه المؤمنون والكافرون، كما قصّ الله تبارك وتعالى علينا حالهم؛ أنهم إذا ركبوا في الفلك واشتدت بهم الريح في اليوم العاصف؛ فإنهم يدعون الله مخلصين له الدين؛ قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ[العنكبوت:65]، فإذا نجوا عادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان.
ومعرفة العبد لربه معرفتانفماهما؟
-1 معرفة عامةيعلم أن الله سبحانه وتعالي هو الله جل وعلا وهو المعبود .
-2معرفة الخاصةيعني أن يطيع أوامره ويجتنب نواهيه , والمقصود بتعرفعلى الله يعني المعرفة الخاصة ولا تكفي هنا المعرفة العامة وإلا الكفار فهم يعرفونالله سبحانه وتعالي لكن لم يعرفوه المعرفة الخاصة المعرفة الدقيقة بفعل الأوامرواجتناب النواهي.
."وَاعْلَم أَنَّ مَا أَخطَأَكَ لَمْ يَكُن ليُصيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَم يَكُن ليُخطِئُكَ" وهذا في القدر ماتجاوز الإنسان لغيره من المقادير والأعمال ’ لم يكنليصيبك من أي شيء من حسن أو سيئ أي ما وقع عليك فلن يمكن دفعه، وما لم يحصل لك فلا يمكن جلبه، ويحتمل أن المعنى، يعني أن ما قدر الله عزّ وجل أن يصيبك فإنه لا يخطئك، بل لابد أن يقع لأن الله قدره. وما أصابك لم يكنليخطئك ما قدر علي الإنسان لم يكن ليذهب لغيرك ,فإذا أصابك مكروه فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، لما حصل لي ذلك، ولو لم يكتب الله ذلك منذ الأزل، لما كان من ذلك شيء، ثم مهما كانت الأسباب والاحتياطات، فلابد أن يقع المكتوب.. وهذا يوافق معنى قوله تعالى:قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا[التوبة:51]، وهكذا هم المؤمنون؛ يعلمون أن ما أصابهم من خير أو شر، فهو مما كتبه الله سبحانه وتعالى لهم أو عليهم .
روى أحمد وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل شيءٍ حقيقة، وما بلغَ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتى يعلمَ أنَّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطَئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبَه".
" فما موقفنا منالقدر؟
قبلوقوع القدر: الاستعانة بالله وبذلالأسباب .
بعد وقوعالقدر: التسليم لقضاء الله وقدره
درجات التسليملقضاء الله و قدره؟
1 - الصبر على المقدور
2- عدم الجزع سواء باللسان أو بالجوارح , كذلك الصياح الشديد, أما البكاء والتباكيالخفيف والحزن هذا مندوب, النبي صلي الله عليه وسلم حزن لموت ابنه ولموت خديجة رضياللهعنها ولموت عمه أبي طالب فحزن لما أصابته هذه المصائب؟
3 – الرضا فيرضى على ما أصابه من قدر الله.
4-الشكر, بمعني أنه يجعل المحنة التي أصابته والمصيبة التيأصابته منحة من الله عز وجل لماذا لأنه وصل عنده الشعور إلي أن يتصور أن هذه المحنةفيها أجر وفيها تكفير سيئات وفيها رفع الدرجات وفيها رفعة في الدنيا ورفعة فيالآخرة فيفرح, فحين إذنأصبحت عنده المحنة منحة من الله عز وجل كما كان أنبياء الله ورسله .
ثم قال: قال: واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا
"وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ"جعل الله سبحانه وتعالى النصر منوطاً بالصبر، وإلا فلا نصر. ولم يكن النصر بدخول المعركة فقط، فالحياة كلها معركة معركة الناس مع أنفسهم، ومع الناس ومع المال، ومع كل شيء ، لكن الذي سوف ينتصر هو المؤمن الذي يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ[لقمان:17].
فهذه الجملة فيها الحث على الصبر، لأنه إذا كان النصر مع الصبر فإن الإنسان يصبر من أجل أن ينال النصر، والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، لأن العدو يصيب الإنسان من كل جهة فقد يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه فيتحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد ولكن إذا أصابه الأذى استحسر وتوقف، وقد يستمر ولكنه يصيبه الألم من عدوه فهذا أيضاً يجب أن يصبر، قال الله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)(آل عمران: الآية140) وقال الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط فإن الله سبحانه ينصره. النصر في كل ماتطلبه ليس المقصود فقط تجاه مقابلة الأعداء في معركة من المعارك وإنما في كل أمر منالأمور.
والنصر مطلوب، فصار الصبر مطلوبا، والصبر مرتبة واجبة، وإذا حصل كرب ومصيبة، فإن الصبر واجب يعني: الصبر أمر الله به، وهو واجب على كل أحد، ومعنى الصبر الواجب: أن يحبس اللسان عن الشكوى، ويحبس القلب عن التسخط، ويحبس الجوارح عن التصرف في غير ما يرضي الله -جل وعلا كالنياحة أوأ للطم،أو شق الجيوب وأشباه ذلك من الأفعال ,ولهذا أمر الله نبيه أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .
قيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: هذا رجل ظلمه السلطان فأخذ يدعو عليه، قال أحمد: هذا خلاف الصبر الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع السلطان، لا يدعى عليه.
ولما جاء أحد الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر له ما يلقى من المشركين من الشدة غضب النبي -عليه الصلاة والسلام- لأجل أنهم لم يصبروا، وقال: إنه كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار نصفين ما بين جلده وعظمه لا يرده ذلك عن دينه، فوالله ليتمن الله هذا الأمر. .. فدل هذا على أن الصبر واجب في جميع الحالات.
قال صلى عليه وسلم ( لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا ولا تفروا ، فإن الله مع الصابرين).. وكذلك الصبر على الأذى في موطن يعقبه النصر.
يتبع