-1-
نفس الصخرة التي جلس عليها الآن وهو ابن الخمسينات من عمره هي نفسها التي جلس عليها وهو ولد صغير ، التفت وراءه ليرى المنزل الذي نشأ فيه ، وسط خلاء من رمل و حجر ونبات شائك، نصفه أطلال ونصفه الآخر يأوي أسرته ،نظر أمامه فتراءى له الأفق البعيد حيث تنطبق السماء على الجبال الشامخة،وتساءل كعادته ماذا يختبئ وراءها؟
حياة بدو عاشها منذ أكثر من خمسين سنة :ماعز و إبل ومعيشة على الكفاف التفت إلى اليمين ليرى كبرى بناته تضرب الأتان المحملة بالجرات لملئها ماء من بئر بعيدة عن الديار ،تارة يقدربعدها بثلاثة كيلومترات و تارة يقدره بخمسة،المسافات و الزمان لا تعني له شيئا مادمت حياته تسير بنفس الرتابة.
تابع عائشة وهي ترمي الجحش بالحجارة وتشتمه ليرجع ، فقد كان يعيق الأتان عن السير،ولأول مرة سيكتشف أنها كبرت وصارت في سن الزواج،وتساءل :وأين الزوج ونحن في هذا المكان لا يزورنا فيه أحد ولا نزور أحدا،وتذكر إخوانه الذين هاجروا منذ مدة وتركوه .قالوا له :تحملناك سنوات ،كنت حاد الطباع عصبي المزاج لا ترحم وآن الأوان لأن نترك لك هذا المكان ،ولم يعد ير منهم أحدا.
عائشة تسير مسرعة تكاد تسبق الأتان ،وتساءل : ما لعائشة أصبحت نشيطة في جلب الماء بعدما كانت تتبرم من جلبه ،ولكن لا خوف فهذا المكان لا يوجد به احد والبئر لا يسقي منها أحد ،والمدينة تبعد عنا مسافة نصف يوم.
وصلت عائشة البئر ووجدته كعادتها في انتظارها يستظل بظل سيارته ذات الدفع الرباعي، شاب وسيم شعره أشقر عيناه زرقاوان ، يتكلم العربية بلكنة أعجمية ،اقترب منها وسلم .
لم تكن المرة الأولى التي يلتقيان فيها ،كانت المرة الأولى حين جاء البئر ليملأ الماء ،وبدأ الحديث علمت منه عائشة أنه جاء على رأس فرقة للبحث عن آثار وبقايا حضارة مندثرة كانت في هذا المكان القفر.ومنذ ذلك الحين أصبحت تحس بشيء يشدها إليه .
قال لها بلكنته الأعجمية: لقد انتهت مهمتنا وسنغادر ، فهل فكرت فيما عرضت عليك بالأمس؟
لم يكن ما عرضه عليها بالأمس ما يتبادر للذهن من أول وهلة،فقد أظهرت له عائشة -يوما بعد آخر- عن عفة قل نظيرها ،ما جعله يحترمها و يقدرها:عائشة رغم عيشة البداوة فهي تبدو رشيقة ،ذات عينين سوداوين جمالها عربي أصيل ،لم تلمس المساحيق ومستحضرات التجميل بشرتها ،نشطه،حركية ،وأحيانا عصبية :تشتم كل شيء يضايقها ،الأتان و الجحش والحجر الذي تتعثر به .
قال لها بالأمس هل تهربين معي ؟ أبوك - وكما وصفته لي- حاد الطباع وعصبي فوق اللزوم ،و إذا تقدمت لخطبتك سيتساءل كيف تعارفنا.
|