الدخان
الدخان يطلق في اللغة على ما يتصاعد عند إيقاد الحطب
وهذا الدخان المذكور اختلف في ماهيته وفي زمن وقوعه، فقيل المراد به ما أصاب قريشا من الشدة والجوع عندما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يستجيبوا له، فأصبحوا يرون السماء كهيئة الدخان.
جاء في التحرير والتنوير: قال أبو عبيدة وابن قتيبة: الدخان في الآية هو: الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف، وأن الغبار يسميه العرب دخانا، وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف .
وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عه وتبعه جماعة من السلف فقد قال: رضي الله عنه: خمس قد مضين : اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان. صحيح البخاري.
وآية انشقاق القمر سبق ذكرها في علامات الساعة الصغرى
واللزام: القحط، وقيل التصاق القتلى بعضهم ببعض يوم بدر، والبطشة : القتل الذي وقع يوم بدر.
(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَيَكُونُ لِزَامًا) .. سورة الفرقان (77)
فقد كذبتم، أيها الكافرون، يخاطب أهل مكة، يعني: إن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه. فسوف يكون لزاماً، هذا تهديده لهم، أي: يكون تكذيبكم لزاماً، قال ابن عباس: موتاً. وقال أبو عبيدة: هلاكاً. وقال ابن زيد: قتالاً.
والمعنى: يكون التكذيب لازماً لمن كذب، فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله.
وقال ابن جرير: عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مقيماً يلحق بعضكم ببعض. واختلفوا فيه، فقال قوم: هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون. وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومجاهد ومقاتل، يعني: أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة، لازماً لهم.. تفسير البغوي .
والمقصود بالروم :
ما أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى: ( الم * غلبت الروم * فى أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون * فى بضع سنين ، لله الأمر من قبل و من بعد * و يومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء و هو العزيز الرحيم * وعد الله ، لا يخلف اله وعده ، و لكن أكثر الناس لا يعلمون) سورة الروم (1_6) .
ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (أما أنهم سيظهرون) فذكر أبو بكر ذلك للمشركين.
فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: ألا جعلته أداة.
قال: دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك.
وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي: المراهن - لأبي بكر أمية بن خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص (الإبل) .. وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرهن. وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر - أو كان يوم الحديبية - فالله أعلم
ولما حدث رجل من كندة عن الدخان وقال: إنه يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، غضب ابن مسعود رضي الله عنه وقال: من علم فليقل ، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم لا أعلم ، فإن الله قال لنبيه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) .. وإن قريشا أبطؤوا الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان. رواه البخاري ومسلم.
وقيل: إن هذا الدخان من الآيات المنتظرة التي لم تجئ بعد، وسيقع قرب قيام الساعة، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وبعض الصحابة والتابعين، فقد روى الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم ؟ قال : قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، حبر الأمة وترجمان القرآن ، وكذلك ظاهر القرآن يؤيده.. قال الله تعالى ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) .. فهو دخان بين واضح يراه كل أحد ، أما الذي فسره ابن مسعود فهو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد ، وكذلك هذا الدخان يغشى الناس ويعمهم ، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين ، لما قيل فيه يغشى الناس .
وقد ذهب بعض العلماء إلى الجمع بين هذه الآثار بأنهما آيتان ظهرت إحداهما وبقيت الأخرى وهي التي ستقع آخر الزمان. قال القرطبي: قال مجاهد : كان ابن مسعود يقول: هما دخانان قد مضى أحدهما ، والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض، ولا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة وأما الكافر فتثقب مسامعه .
وقال النووي في شرح مسلم تحت هذا الحديث: هذا الحديث يؤيد قول من قال إن الدخان يأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام، وأنه لم يأت بعد وإنما يكون قريبا من قيام الساعة
وقال ابن مسعود: إنما هو عبارة عما نال قريشا من القحط حتى كانوا يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان، وقد وافق ابن مسعود جماعة، وقال بالقول الآخر حذيفة وابن عمر والحسن ورواه حذيفة عن النبي وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما، ويحتمل أنهما دخانان للجمع بين هذه الآثار. انتهى.
وقال القرطبي في التذكرة: قال ابن دحية: والذي يقتضيه النظر الصحيح حمل ذلك على قضيتين إحداهما وقعت وكانت الأخرى ستقع وتكون، فأما التي كانت فهي التي كانوا يرون فيها كهيئة الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الآيات التي هي من الأشراط والعلامات، ولا يمتنع إذا ظهرت هذه العلامة أن يقولوا: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيكشف عنهم ثم يعودون لقرب الساعة، وقول ابن مسعود رضي الله عنه لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من تفسيره، وقد جاء النص عن رسول الله بخلافه. والله أعلم.
والأرجح الجمع بين القولين. وهو ما ذهب إليه بعض العلماء. كالطبري. والنووي. والقرطبي. فذهبوا إلي أنهما دخانان. ظهر أحدهما. وبقي الآخر الذي سيقع في آخر الزمان. فأما الآية الأولي التي ظهرت فهي ما كانت قريش تراه كهيئة الدخان. وهذا الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الآيات التي هي من أشراط الساعة.