.. فسأله خادمه :
وكيف عرفت ذلك ؟
فقال :
ـ اطّلعت على اللوح المحفوظ فوجدت فيه ذلك !!!
لالالالا ….. هل أقرأ كتباً تحمل كذباً وافتراءً ؟ .. وبهذه الصورة ؟ .. لا … أرجوكم !!
وقفت بسرعة .. استرقت النظر إلى الباب .. هل رآني أحدهم وأنا أقرأ ؟ .. لا يبدو ذلك .. يبدو أنهم ما زالوا يستعدون حتى نخرج للعزاء .. اغتنمت الفرصة .. فتحت كتاباً آخر بطريقة عشوائية ..
قرأت في كتاب ( روض الرياحين ) بأن أعرابياً قال للرسول عليه الصلاة والسلام " إن حاسبني ربي لأحاسبنّه !! فهبط جبريل عليه السلام وقال : يا رسول الله بلّغ الأعرابي بأن الله يقول لا يحاسبنا ولا نحاسبه لأنا قد غفرنا له !!!!!
أي جرأة على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم هذه ؟ ..
إنه روض الشياطين وليس الرياحين !!
تملكني الذعر والذهول !! ..
في هذه اللحظة سمعت صوتاً خلفي .. أدرت رأسي ببطء .. إنه هو .. تأملته من رأسه وحتى أخمص قدميه ! .. قلت له وأنا ألاحظ نظراته الباردة المتسائلة عن ردة فعلي على ما قرأت :
ـ لن أفعل .. لن أفعل .. أرجوك .. اتركني وشأني .. من أنتم ؟ اتركوني .. أرجوكم !!
أجابني بلهجة جافة خلت من الرحمة وتجردت منها :
ـ صدقيني ستفعلين .. وبدون أية مقاومة .. والآن .. لا تفقديني انضباط أعصابي !
وقف الجميع خلفه والنصر يتراقص في عيونهم .. اتجهت نحو السلم دون أن ألتفت إليهم ..
تبعني بسرعة وأمسك بقوة على معصمي ثم أمرني بهدوء عاصف :
ـ سأنتظر .. لا أحب أن أطيل الانتظار .. أو .. أكرر الكلام ..
ارتعد صوتي بالانفعال .. وبدت إمارات الانهيار على تصرفاتي وأنا أهتف قائلة :
ـ إذاً قررتم أن أموت غيظاً ونيران الرفض تستعر في حناياي !!
أجاب بنظراته المليئة بالثقة .. والفرح يظهر في صوته البارد :
ـ نعم … ها قد أصبتِ أخيراً .. والآن تحركي ! ..
رفعت نظري إلى السماء وعيناي ملأى بالدموع .. ركضت وأطلقت العنان لدموعي تسيل على وجهي الكئيب .. أمرني بالتوقف .. فلم أفعل .. ركضت إلى غرفتي وأقفلت الباب ورائي .. وتركته ومن معه غاضبين وعيونهم تقدح شرراً .. سمعت صدى صوته وهو ينادي !! ..
ارتعدت .. لا خيار .. سأذهب .. سأذهب !
بدا الانكسار يتجسد في ملامحي .. نظرت إليهم وأنا أهبط درجات السلم .. فبادلوني بتلك النظرة الملأى بالزهو !
ذهبت والدته معي وأمرتني واثقة وأمام النساء بأن أبدأ القراءة ..
ابتسمتُ .. ثم .. رفضت .. اعتذرت للجميع بأني أعاني ألماً حاداً في رأسي .. وتركتهن .. وعلامات الغيظ تنطق عنها وعنهن !
تبعتني بعد قليل والدته وهي مُحرجة .. وقالت بابتسامة مصطنعة تخفي وراءها غيظاً مكظوماً :
ـ حسناً .. إن لم تقرأي .. فتعالي وشاركينا اللهج بالدعاء والمجالسة .. وتعلمي .. ربما انتفعتِ .. تصنعتُ بدوري الألم في رأسي فوضعت يدي عليه وقلت لها أطمئنها :
ـ حسناً .. سألحق بك بعد قليل يا خالتي !!
دخلت .. استقبلتني نظراتهن الضيقة .. وأفسحت إحداهن لي مكاناً .. شكرتها .. ثم جلست وأنا أتنهد ..
بعد قليل دخلت امرأة تتبعها أربع من النساء وفي أيديهن كتب ! .. ما هذا ؟ .. لا بد أنها الكتب نفسها التي طالبوني بقراءتها أمامهم !! ثم .. ما هذا إنها تحمل مصحفاً ؟! صحيح ؟! لا أصدق !
جلست النسوة الأربعة مقابلات لنا وبدأت إحداهن بقراءة القرآن .. ولكن .. إنها تتغنى به ! ..
تعجبت من قراءتها !! .. انخفضت نظراتي لترى أكواب الماء منتظمة وكذلك جوالين الماء موجودة في الأرض بجانب القارئات .
عندما يصيب إحداهن النّصب والتعب تتداول الأخريات في القراءة .. وبأصوات وتغن به مختلف ..
كان هذا اليوم هو ثالث أيام العزاء ويسمى بيوم " الختم " لأنهن يختمن فيه القرآن فيهدنيه إلى الميت !!
أخيراً انتهت المرأة من القراءة .. فبدأت بالدعاء بصوت عال مرتفع .. وإنشاد مدائح للرسول عليه الصلاة والسلام من كتاب رأيته بين يديها .. كتاب ( البردة ) .. إنه كتاب يحوي مدائح غرامية في الرسول الكريم كما سمعت عنه !
فتحت هؤلاء النسوة الكتب الباقية فقرأت إحداهن :
وقال الوليّ الصالح فلان بن الفلان .. وفي الكتاب الفلاني . وقرأنا في حاشية العلاّمة العارف بربه وبأسراره الفلاني .. الخ ..
ما بال الناس مذعنون ؟ متأثرون ؟!
انتظرت مطوّلاً نصاً من حديث رسول الله .. أطلت الانتظار .. لا أمل في ذلك .. أكملت القارئة :
ـ ونحتج بفعل ذلك بعمل الولي الصالح فلان بن الفلان .. !!
تعجبت .. شعرت بشيء ما يُعلن سخطه وعدم رضاه بداخلي ! .. شعرت بأن الهزل يوشك أن يبدأ .. ثم أقنعت نفسي الرافضة لكل ما أري بأني عن قريب راحلة .. إن شاء الله ..
وددت أن أصرخ فيهن .. أن أدوّي بصيحات تجعل من أركان المجلس تهتز .. كفى .. أرجوكم .. لماذا تصرون على تحطيمي وتعذيبي لماذا ؟
ألم تتفكروا في قوله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "
آآه لشعوري بالانعزال والاضطهاد .. آآه ليقيني بما تحملون عليّ من ضغينة وأحقاد !!
أخيراً انتهت المرأة من الأذكار والقرآن .. فتمتمت بكلمات لم أفهمها ..
كنت في مد جزر مع ما يحدث حولي .. يا الله كن بي لطيفاً .. فجأة رفعت إحدى القارئات صوتها وقالت :
ـ الفاتحة على روح فلان بن فلان .. فقرأن الفاتحة .. ثم قالت مرة أخرى :
الفاتحة بنية كذا وكذا ..
( 7 ) بركات الماء والطعام !!
انتهت القارئة من كل شيء ثم وقفت .. فقامت النساء وهاجت وماجت .. ما بهن ؟! .. أين يذهبن ؟ ..
أين أذهب أنا ؟ .. أوه .. إنهن يتنافسن في أخذ الماء المتواجد لدى القارئات ! .. ماذا دهاهن ؟ ..
والدة الزوج وأخواته أيضاً ؟ .. إنهن يتخاطفن أكواب الماء وجوالينه !!
ما هـذا ؟ .. هذه امرأة شتمت أخرى لأنها كانت سبباً في سكب بعض الماء من كوبها !!
بضع دقائق .. انتهت الفوضى ! .. عادت كل واحدة ، وكأنها تحمل كنوزاً من الذهب والفضة !! ..
قلت في نفسي :
ـ ما هؤلاء النسوة الغافلات ؟ الماء منتشر في كل مكان ! لم هذا بالذات ؟
ولم يمض وقت حتى نادت صاحبات العزاء النسوة إلى الطعام .. أيضاً إنهن يتنافسن في الدخول إلى غرفة الطعام .. مهلاً .. ما بهن ؟ .. ليس للطعام جناحان ليطير بهما !!
شدّت والدة زوجي على يدي بقوة وأخذت تُسرع وأنا خلفها .. فبدأتُ بالكلام ولكنها قاطعتني : ـ فيما بعد .. هيا الآن .. أنتِ بالذات يجب أن تأكلي وتتصدري غرفة الطعام .. بسرعة !
سألتها بفضول بريء :
ـ لماذا ؟ لا أريد طعاماً .. كُلي أنتِ يا خالتي بالهناء ! ..
قاطعتني وهي تنظر إلي بمكر ودهاء لم أعرف كنهه :
ـ بل أنتِ أولى الفتيات التي يجب أن تأكل من هذا الطعام !!
جلست هي وأجلستني بجانبها .. وأخذت تطعمني بيدها أمام النساء ! ..
احمرّ وجهي خجـلاً .. نظرات النساء سلطت علينا .. قلت لها بلطف :
ـ أرجوك يا خالتي .. كفى .. أنا سآكل .. لا تحملي همي .. أوه .. أشعر بالخجل .. أرجوك ..
ضحكت النسوة استلطافاً لما رأين .. فأشرقت عينا والدة الزوج وهي تقول :
ـ هيا كلي .. تباركي بهذا الطعام .. إنه مذبوح باسم الوليّ الصالح ..
كلي ولو لقمة واحدة .. اجعلي البركة تسير في دمائك وجسدك …. !!!!!
توقفتُ عن الطعام وأنا تحت تأثير هذه الكلمات ! ..
شعرت برغبة صارخة في التقيؤ !! لا .. لا .. لا ..
كيف استطاعوا فعل ذلك ؟ كيف ؟ .. لقد نذروا بالذبح لغير الله ؟!! .. كيف يجرؤن .. لا يمكن ! ..
يا رب .. يا رب لم تعد لي قدرة على الحياة معهم !! .. هذا فعل قبيح .. إنه شرك أكبر !! ..
ربـاه أنا لست منهم يا رب .. ربـاه أعلم قولك في كتابك الكريم ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً ) .
وقفتُ .. أقاوم جوعي وعطشي .. تركتهم وما يصنعون ! .. ذهبت مسرعة إلى أقرب دورة مياه ( أكرمكم الله ) .. أخرجت ما أكلته حراماً ! .. ولكني أشعر بالوهن والجوع ..
إنهم يستخدمون معي عقاب التجويع بأقوى درجاته حتى أؤمن .. ولكن لا .. الجـوع أرحم من طعام حرام .. الجـوع أهون من إيماني بما يدّعون .. لأُمت جوعاً .. لأجاهد نفسي ضد نفسي ..
لا بأس حسبي لقيمات قليلات بالحلال ! ..
تلفتُّ حولي بدهشة كبيرة .. أريد العودة إلى المنزل .. إني أتضوّر جوعاً .. آه وآه لما أصابني .. أريد العودة إلى أهلي ..
لحقت بي أم الزوج تنبهني بأخذ كأس من الماء من إحدى القارئات .. انتبهي إليه .. وإلا فاشربيه .. هيا يا ابنتي اشربيه .. ابتسمتُ بألم وقلت لها حتى أرد كيدها عني :
ـ شربت الآن كأساً مماثلاً أخذته من المكان نفسه !!
ـ رائع ! .. إذاً سنأخذ كأساً أخرى لا بنتي في المنزل .. خذيه وانتبهي له جيداً أرجوك .. لا تدعي قطرة منه تتسرّب
( 8 ) كيف أنجو ؟
ما العمل الآن !! سوف أعود للمنزل ! .. وسأجده هناك ينتظرني ! وسيسألني عما إذا امتثلت لما أمرني به أم لا ! .. ولكني لم أستطع ذلك .. كيف له أن يفهم ؟
كيف أنجو منه ؟ .. ما العمل يا رب ما العمل ؟ .. اللهم إني أنتظر منك فرجاً ومخرجاً من بعد ما عانيت من الضيق والبلاء !!
عدنا إلى المنزل ! .. وفي الطريق أخذت والدته الكأس من يدي وهي تحافظ عليه كما تحافظ الأم على الوليد لم أعلّق ولم أنطق .. كان تفكيري منصباً على هذا الزوج الذي ينتظرني في المنزل !
أوووه .. تذكرت .. عضضت على فمي بقوة كدت منه أن أدميه .. يا وليتي .. لقد نسيت المفتاح بالداخل .. لا بد من الصدام !!!
طرقت الباب بأنامل قد جمّدها الخوف .. استجمعت قواي .. طرقت مراراً وأنا أشعر بالهلع العظيم !!!
أخيراً .. فُتح الباب على مصراعيه .. رأيته أمامي .. تنحّى عن الباب قليلاً .. دخلنا .. نبضت خفقات قلبي بقوة أسمعت من في المشرق والمغرب .
أغلق الباب خلفه بركلة من رجله ونظراته تحدّق بي .. نقل نظراته إلى والدته التي تقف بجانبي وقال :
ـ أمّــاه .. هل فعلت ما أمرتها به ؟
لم ترد أمه .. نظرت إلي بعيني جامدتين خائفتين ..
أضاف وهو يحرقني بنظراته موجهاً الحديث لأمه :
ـ تكلمي يا أمّـاه .. هل فعلت أم لا ؟ .. بالطبع لا !!
تكلمـوا .. لم تفعل أليس كذلك يا أمي ؟!
شعرتُ بثقل يكبّل أجزائي وبقلبي يصارع في الخروج من مخبأه من وطأة الخوف !
قالت أمه بخوف أمام نظراته المثبتة عليّ :
ـ يا بني .. هدئ من روعك .. إنها .. آه .. نعم نعم .. لقد فعلت !!
مشى بخطوات عريضة تجاهي .. نظر إليّ بتحد عندما طال صمتي .. عرف أن والدته قد كذبت عليه ..
فأمّعن النظر في وجهي وكزّ على أسنانه بقوة جبارة .. أما أنا فقد أدركت بأن شعوري بالأمان في هذه اللحظة قد ابتعد عني بعيداً جداً في الأفق !!
هزّني بعنف .. وصفعني صفقـة قاسية جـداً أفقدتني الذاكرة لبضع دقائق .. فبدا لي وكأنه يُقهقه ضاحكاً من شدة القهر والغيظ .. والخيبة فيما يرجو !!!!!
صرخ قـائـلاً :
ـ لا فائدة ترجى منها في هذا المجال يا أمي .. ماذا عساي أن أصنع بها ؟ ..
لقد أمَّلتُ فيها خيراً كثيراً ولكن يبدو أنني كنت مخطئاً ! .. أخبروني ماذا أفعل معها ؟ .. أقتلهـا ؟ ..
سأصبح عما قريب إماماً للأولياء والصوفية .. وزوجتي هي العدّو الأول لي في مذهبي !! ..
كيف سيصوّت الجميع لي وهي بهذه الطريقة ؟ كيف ؟ كيف ؟ .. انفجرتُ باكية حينها :
ـ إذاً .. أطلق سراحي .. والآن .. أنا لا أريدك .. لا مجال للعيش بيننا .. هيا .. افعل .. لا تعذبني ..
لماذا تصرّ على بقائي معك ؟ .. أنا سأضرك أكثر من أن أنفعك ! ..
كانت أنفاسه تتردد بصوت مسموع لكنه قال بهدوء : وهل تظنين بأني فاعل ؟ أرجو ألا يراودكِ الأمل في ذلك مطلقاً ! .. لن أتركك أبداً مهما طال النزاع بيننا !! ..
ثم انسحب بسرعة ودون أن يضيف شيئاً آخر …
ارتميت على الأريكة وامتلأت عيناي حسرة وحزناً على حالي ! .. يا إلهي أنت ملاذي وملجأي فساعدني ..
ذهب الجميع .. بقيت وحدي .. ولكن لن أقول سوى الحمد لله على كل حال !
أتت والدته بعد قليل وكأنها تتشفى مما حدث .. اقتربت مني وأنا أرتجف كطائر جريح لم يجد له راعياً ومطمئناً .. وقفت قليلاً ثم ابتعدتُ عنها وحاولت التظاهر بالتفتح والنسيان فقلت لها :
ـ لا بأس .. كل شيء على ما يرام يا خالتي !! .. لا تقلقي سيعتدل الوضع قريباً .. سيعتدل ..
تركتها بخطوات زاحفة .. شعرت بأنها تريد أن تقول شيئاً ما .. ولكني لم أفضل البقاء ! ..
توجهت نحو غرفتي .. استلقيت على فراشي .. أخذت أفكر ملياً بالوضع .. آآه يا رأسي إنه يؤلمني من كثرة البكاء .. والأنين .. ما سر حقدهم المتناهي عليّ ؟ هل لأنني سنية ؟ .. ولكن لو كان طريقهم يؤدي إلى الجنة وإلى رضوان الله فأنا مستعدة لاتباعه ..
ابتسمت متحسرة .. الحمد لله الذي نجاني مما هم فيه !
سمعت صوتاً ينادي ! .. لم أجب ! .. أشعر برغبة في الانفراد والانعزال ! ..
نحن لا نتفق فما الذي يجبرني على البقاء ؟ .. يجب أن أذهب بأي طريقة ! ليس لي مكان في هذا المكان !!!!
سمعت الصوت مرة أخرى .. إنه صوته .. سكتّ ! .. ثم أجبت : ماذا بعد ؟! ماذا يريدون بي ؟
نزلت إلى الطابق السفلي .. وآثار الصفعة الموجعة ما زالت تعلن عن إصرارها على البقاء على وجهي الحزين .. شعرت بوجوده دون أن أنظر إليه .. أجبته وأنا أنظر إلى أصابعي المرتعشة :
ـ نعم .. بم تأمرني ؟!!!!!
نظر إلى ما تركه من أثر في وجهي .. اقترب قليلاً ليتأكد منه .. ثم تنهد .. ومشى بخطواته الثقيلة إلى مكان وجود أكواب الماء وأخذ كوباً وقدّمه إلي وهو ينظر بمكر دون أن يحاول إخفاء نبرة البرودة التي تشعّ من صوته .. ثم جاء بجالون ماء كبير وسكب في كأسي وقال آمراً ..
ـ تفضلي بشرب هذا الماء ..
نظرت إلى الجالون في يده .. عدت بذاكرتي إلى الوراء قليلاً .. أين شاهدته ؟
لقد رأيته في مكان ما بهذه الإشارة الحمراء .. نعم .. نعم تذكرت !! ..
إنه الماء الذي تخاطفته النسوة في العزاء ! .. كيف أتى به إلى هنا ؟ ماذا حدث ؟
شعرت بأنها محاولة منه لامتحان ذكائي وقدرتي على الملاحظة .. لأنه وضع الجالون أمام عيني .
حاولت التصرف برزانة .. فقلت وقد رفعت نظري إليه :
ـ عذراً .. لا رغبة لي في شرب الماء الآن .. لقد شربت للتوّ كأسين من الماء .. أعتذر عن شربه ..
قاطعني بحـدة :
ـ ولكنك ستشربين .. أليس كذلك .. ؟!
دخلت أمه وأخوته في هذه اللحظة .. مسحت جبيني بالمنديل .. وهممت بالاحتجاج ..
وهنا بادرني كمن قرأ أفكاري .
ـ قلت : ستشربين !! أم أنك ستعارضيني على ذلك أمام أهلي جميعاً ؟!
أشعر بأن هذا الماء يحوي شيئاً ما لا أعرفه ! .. أردت الاعتذار ثانية .. وفعلت .. ولكن اعتذاري هذه المرة كان عن طريق عيني اللتين تضرعتا للجميع بأن يقنعوه بأن يتركني وشأني ..
وعرفت أن لا فائدة ترجى منه أو منهم !!
شربته !!!!!! .. لم أبقِ فيه قطرة واحدة .. فلمعت عيناه بالانتصار العظيم .. وازداد انكسار قلبي وألمه .. فقال مبتهجاً ضاحكاً :
ـ صدقيني .. أتوقع أن تفوق النتيجة آمالنا !
حدّقتُ فيه ثم قلت بهدوء وأنا أمسح وجهي المعروق بظاهر يدي :
ـ كي تحصل على ما تريد فإنك تدوس على مشاعر الآخرين دون أن تهتم بقليل من اعتبارهم .. أليس كذلك ؟!!
قال بمرح دون أن ينظر إلي وهو يستدير ليعيد الماء إلى مكانه :
ـ نعم .. أصبتِ .. أصبتِ .. !
في اليوم التالي مباشرة علمت أن الماء الذي شربته كان لأحد أوليائهم !! ..
لقد غسّلوا فيه هذا الولي الذي حضرنا عزاءه بعد موته !!!!!!! .. إي أنه غسول ميت !!!! .. والغرض بالطبع منه أن تسري بركته في جسدي مجرى الدم فأتأثر وأصبح صوفية !!!!!!!!!!