المطــــاردة
( يونس ويونس ) ، أو ( اليُونُسَان )
حدثني ( ابن خلدون الراقي ) قال : جاءوني بشاب مريض ( من حفاظ كتاب الله ) ، ( الدمع منه في المآقي ) ، فقالوا : ( ذهب إلى المزرعة وحيداً فريدا ، فعاد إلى البيت سقيماً مريضا ) ، عندما دخلها وجد رجلاً في وضح النهار ؛ يسرق من الأشجار الثمار ، فأخذ صاحبنا مجموعة أحجار ، وهجم عليه من غير إعذار أو إنذار(!) ، ولم يتأنَّ عليه ، أو يمهله ليقدم العذر في سرقته بين يديه(!).
فلما أن رآه ( الرجل اللص )( وأبصره ) بنظر ( صحيح ) ، ومكان ( فسيح ) ، أطلق على التَّوِّ ساقيه ( للريح )(!) ؛ فأخذ ( يونس ) يطارده بعزم ( الْمُشِيْح )(1) ، وساق ( صحيح ) ، من غير أن يَكِلَّ ، أو ( يستريح )(!) ، فانتهت بهم المطاردة إلى حفرة في الأرض عميقة ، لما رآها ( الرجل اللص ) شَقَّ إليها للنجاة طريقا(!).
وما إن وصل ( اللص ) إليها ، حتى قفز ، ورمى نفسه فيها ، وجاء ( يونس ) على إِثْرِهِ يَسْعَى ، لا يريد أن يعطيه للفرار فُسْحة ، وظنَّ أن قد حصل في الحفرة عليه ، ووقع بقفزه فيها بين يديه(!) .. ولكن هيهات .. ما إن وقف ( يونس ) كذلك عليها ، لم يجد ( اللص ) الذي قفز فيها(!) ؛ فأخذته على الفور رِعْدةٌ ، وقُشَعْرِيْرَة ، وأحس كأنَّ في جسده بَرْداً ، زَمْهَرِيرا ، وارتعب وخاف ، ونزل به ما ليس بخاف.
قال ( ابن خلدون ) : فقرأت القرآن عليه ، ونطق ( الجني ) الذي فيه ؛ فقلت : من أنت(؟)
فقال : أنا ( يونس )
(!) فقلت : إنسي أنت ، أم جني(؟؟)
فقال : جني(!) ،
قلت : مسلم(؟)
قال : مسلم(!)
فقلت : أنت ( يونس ) ، وهذا الشاب اسمه ( يونس )(؟)
قال : نعم(2)(!)
فقلت : كيف جئت(؟)
قال : كنت متشكلاً في صورة إنسي(3) ، وكنت أسرق الثمار ... وقَصَّ القصة وما كان ، ولا تسأل بعدها عمَّا حلَّ بـ ( يونس ) الجان ؛
فـ ( ابن خلدون الراقي ) ، تبلغ عنده أرواح الجن أثناء الرقية التراقي(!) ، و ( ابن خلدون ) على الجن الصائل ؛ ( كَرَيْبِ الْمَنُون ) ، من أشد المعالجين ، وكل جني يقع بين يديه فمسكين بن مسكين(!) ، إنْ هي إلا رَفْسَةٌ منه للجني وعَفْسَة ؛ تُفَرِّقُ أضْرَاسَه ، وتخرج نَفْسَه(!).
وكما أطلق الجني ( اللص ) ساقيه للريح في طلب النجاة أول مرة ، أطلقهما ثانية ، ولكن ؛ يجرهما من بطش ( ابن خلدون ) جرّا.
ـــــــــــ
(1 ) ( الْمُشِيْحُ ) : ( الجادُّ ، الحذرُ )( لسان العرب ).
(2 ) ( هذا من العجائب الغرائب ولعل الجني كان صادقاً في دعواه الاسم ، فقد ( يقع الحافر على الحافر ) وهذا وإن كان يقال في توافق المعنى ، وتشابه الخواطـر ، وبنات الأفكـار ، فتوافـق الاسمين هنا ليس بممتنع مستحيل الوقوع ، ومن خلال تجاربي الخاصة ؛ فإني ألتقي أحياناً بجني يحمل اسم المريض ؛ بل ويتقمَّصُ شخصيته ، وهذا معلوم واقع ، وأحـياناً قد يحمل الجـني اسم من بالسحر أرسله ، أو يحمل اسم الساحر ، ( وهكـذا ) ، وإني لأذكر في حالة ؛ نطق فيها الجني من تلقاء نفسه ، فسألته : ما اسمـك(؟) فذكر لي اسم امرأة ميتة ، وتكلم بصوتها(!) ؛ ما إن سمعته أم المصروعة المريضة بأذنيها حتى قالت ـ وهي مشدوهة مسلوبة العقل والفؤاد ـ : ( هذه روح أمي ، وهذا صوتها )(!) ، وكانت المرأة نصرانية ، ( والمرأة الميتة أمها ، فهي جدة المسحورة )(!) ، وسبب دعوى ( الروح ) هذه ، وتقمصها لشخصية امرأة ميتة ، والتحـدث بصوتها ؛ أن المريضة المصروعة سُحِرَتْ ( بماء جنازتها )(!) ، ولعل الجني ( الشَّيطانَ الصَّارِعَ خَادِمَ السِّحْرِ ) أراد بذلك أن يُلَبِّسَ على النصارى أمرهم ، ولذلك قلت للمرأة عـندما قالت : ( هذه روح أمي ، وهذا صوتها )(!) ؛ بل ، هذا شيطان ، وأمك في النار(!) ، فسكتت ولم تنطق بعـدها ، وكان من فضل الله تعالى على هذه البنت النصرانية بعد أن عافها الله من السحر والمس ، وصرف عنها تلك البلية ؛ أن أسلمت في جلسة الرقية الشرعية ، وأمنت وصدقت ورضيت الإسلام ديناً ، ولم تمانع أمها ، فدخلت عليها مصيبتها بنعمة الإسلام ، وكان هذا في حضور ( خطيبها المسلم ) و ( الأخ الوسيط ) ، الذي رتَّبَ للرقية ، وحدد الموعد.
وفي الجن نوع ضعف أمام بني آدم ، فما إن يتلبس جني بإنسي حـتى يحاول أن يقلده ، أو يتقمص شخصيته ، أو يتأثر به في أخلاقه ، وسلوكه ، وَفِعَالِهِ ، وقد يحدث في جزء مما ذكرت العكس فيتأثر الإنسي بأخـلاق الجـني ؛ ربما من حيث لا يشعر ؛ فتظهر عليه سلـوكيات الجـني ، وحركاته ، وانفعالاته ، وفي إحدى الحالات كانت الجنية الصارعة راقصة من راقصات الجن ما إن قرأت على المريضة ـ وكانت مصروعة مسجاة وممددة على صالون البيت عند من دعاني لعلاجها ـ وحضرت الجنية حتى بدأت ترقص ، وتهتز ، وتضطرب ، وتقوم بحركات الرقص النسائية المعروفة ، وأخذت تتمايل وتتثني بجسدها كما الأفعى وكأنَّ جسد المرأة لحم لا عظم فيه ـ والمرأة صريعة لا تدري عن شيء البتة ـ فهالني المنظر ، وأعظمته ، فزجرتها ، وهددتها ، وأمرتها بالخروج وترك هذا الجسد ، فأخذت تَهِرُّ عليَّ كالقطة ، وتحاكيها في حركاتها ، وتصرفاتها ، فاشتد عجبي مما ( أبصر ، وأرى ) وبعد صراع مرير ( بالرقية الشرعية ، والبخَّاخَات المائية ؛ مع الراقصة الجنية ) ؛ خرجت ، وتعافت المريضة في الحال ؛ فقيل لها في ذلك فَتَعَجَبَتْ وقالت : في المدة الأخيرة التي مرضت فيها كنت أجد ميلاً شديداً إلى الرقص ، وكنت أرقص ، وأتعجب من نفسي أني أرقص ، وأنكر ذلك(!) ... هذا ، ولو أخذت أروي ما رأيت من أحوال المرضى الممسوسين وتأثرهم بالجن المتلبسين لقَرَيْتُ الأُذْنَ بالعجب(!).
(3) تشكل الجني أو الشيطان وتصوره في صورة الإنسان أمر معلوم لا يحتاج إلى إقامة حجة أو برهان ؛ فمن ذلك ما رواه ابن سعد في ( الطبقات الكبرى ) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : قد قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنس والجن.
فقيل له : ما هذا(؟!) ، قاتلت الإنس ، فكيف قاتلت الجن(؟) ، قال : نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً ، فأخذت قِرْبَتِي ودَلْوِي لأستقي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أَمَا إنه سيأتيك آتٍ يمنعك من الماء ) ، فلما كنت على رأس البئر إذا رجل أسود كأنه مرس فقال : لا والله لا تستقي اليوم منها ذَنَوباً واحداً ؛ فأخذته وأخذني ؛ فصرعته ، ثم أخذت حجراً ؛ فكسرت به أنفه ، ووجهه ، ثم ملأت قِرْبَتِي ؛ فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أتدري من هو ) (؟) ، قلت : لا ، قال : ( ذاك الشيطان جاء يمنعك من الماء ).
ومن ذلك قصة ( أبي هريرة رضي الله عنه مع الجني سارق تمر الصدقة ) ، ومن ذلك أيضاً ما رواه ( أبي بن كعب أن أباه كعباً كان له جرين فيه تمر وكان يتعهده ، وكلما تعهده وجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة كهيئة الغلام المحتلم ، قال : فسلم فرد السلام ، فقال : ما أنت جنٌ أم إنس(؟) قال : جن ، فقلت : ناولني يدك ، فإذا هي يد كلب وعليها شعر كلب ) ، وقصة ( مصارعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل من الجن ؛ فهذا كله واقع مشاهد في عالم الإنس ، فكيف تم لهؤلاء النفر من الصحابة رضوان الله عليهم رؤية الجن ، والشياطين ، ومحادثتهم ، ومصارعتهم ؛ إن لم يكونوا متشكلين متصورين (!) فهذا واقع مشهود.
موقع الجنة من الجنة