مهندس / حسين عبده طنطاوي(1)
قال الله تعالى:)هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم. وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ([البقرة: 29 ـ 30].
هذه بداية قصة الإنسان... هو قول الله خلق لكم أي: من أجلكم، وقوله: )إني جاعل في الأرض خليفة (أي: قوماً يخلف بعضهم بعضا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأن الله جعل ما في الأرض والسماوات وما بينهما منعماً به عليهم ومسخراً لهم )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ([الجاثية: 13].
فلم يخلق شيء عبثاً، فلا بد له من منفعة لا يصح رجوعها إلى الله لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلى البشر ليخبروا بذلك.
ولقد تضمن القرآن الإشارة على كل الثروات في كل الكون الذي خلقه الله، وما جعله الله للإنسان من إمكانيات الانتفاع بما منحهم من قدرات عقلية وفكرية وجسدية ليعمل بها في هذه الثروات للانتفاع متعاونون ومتكافلون، وهذا التعاون يربط مصالح الفرد بمصالح الجماعة، وإن اختصاص الفرد لهذه الثروات بالملكية رهين بجهده، ومكلف من الله تكليفاً شخصياً ومسؤول بصفته عن أمور الدنيا بالسلوك الديني )كل نفس بما كسبت رهينة (.
ولقد وضع القرآن والسنة للإنسان القواعد العامة للملكية والتصرف ليحقق الإنتاج وتنميته وقواعد التصرف والملكية ومنع الاغتصاب والسرقة، وعلم كيفية التعامل والتجارة وشؤون المحاسبة، والأجور والإدارة.... الخ.
وفي الواقع: فإنه نتيجة لأعمال أفراد الشعوب بقدراتها العقلية والفكرية والجسدية، وسلوكياتهم العامة في مختلف المجالات يقاس مقدار تحضرها أو تخلفها وارتفاع مستواها أو انخفاضه عن الحياة اللائقة للبشر فلذا كان علينا أن نهتدي بما احتواه القرآن والسنة النبوية عن تنمية الإنتاج، وأوجه الاستثمار لنقيس به أعمالنا لنعرف مواقع التقدم أو التخلف وأسبابه.. وما هو مدى تحقيق المسلمين لقول الله: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ([آل عمران: 110].
ولما كان هذا الموضوع بالذات هو مشكلة المسلمين في حاضرهم الراهن ومستقبلهم المجهول بالنسبة للأفراد والمجتمعات محلياً وعالمياً لذا وجب علينا التركيز لتوضيح النمط الذي حدده القرآن والسنة النبوية، خاصة بعد واقع تخبط الشعوب الإسلامية بإتباعها أنظمة من دول تدعى التقدم في ظل مسميات نظام رأسمالي وآخر اشتراكي وذلك شيوعي. فتاهت وتخبطت في واقعها لأنها مجهولة الهوية عن تركيبة معتقداتنا فوقع التخلف فينا والإسلام بريء منه. إذ كيف نكون شعوباً إسلامية تكويناً وإدراكاً ثم نتبع تكويناً مخالفاً وإدراكاً مخالفاً ثم لا يلحقنا تخلف؟.
وسنسرد نموذج من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المرشدة لجوانب التنمية الإنتاجية والاستثمار لو قسنا بها ما يقوم به بعض أبناء الأمم الإسلامية لأتضح لنا انعدام العقيدة الإسلامية في سلوكياتهم، وطبقوا في غفلة من العقول نظريات انقادت لها الشعوب مستسلمة بحجة التطور فأصبحت متخلفة بعد أن كانت بغداد والقاهرة والأندلس ودمشق وقرطبة وسمرقند منارات الحضارة الإسلامية ومرتكز للتقدم العلمي. وقد ازدهرت تلك الحضارات على فترات متقطعة من التاريخ لكن يحكمها قانون سلوكي موحد إذ ازدهرت بالنهضة الإيمانية وخبت إذ طغت الشهوات المادية. وفي ذلك يقول المستشرق الإيطالي ( ليبرتيني ) في كتابه: ( الإسلام في أمجاده ) ( أنني أكاد أعتبر أقطاب الأندلس وجزيرة العرب عندما أضاء سناء الحضارة بفضل جهادهم والعلم المنتشر في ربوعهم ـ أكبر أعداء العالم ـ لأنهم لم يكتفوا بإفناء بعضهم بعضاً بل تعدوا ذلك إلي وأد ألمع حضارة أوجدها إنسان على وجه الأرض، وكانت لم تزل تترعرع في أحضان النهضة الإسلامية الخارقة. فلو ارتاح لها أربابها والعاملون على إشعال قبسها الوضاء الباهر أن تمشي في سبيلها إلى التكامل لما بقي على الأرض إلا كل عربي أو مستعرب، ولما كان غير الإسلام ديناً ). ببساطة تساوينا في الأسلوب فسبقونا بمؤامراتهم، فتخلت عنا هداية السماء فسرقوا ثرواتنا وما زالوا يسرقونها حتى اليوم. وسرقوا تراثنا العلمي واستسلمنا لمشيئاتهم وأصابنا الوهن وتسابقنا على الرزق وناسين الرزاق.
قال الله سبحانه وتعالى: )هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (.
أي: جعل لكم الأرض ساكنة لا تميد بما عليها من الجبال، وأنبع فيها العيون، وسلك فيها السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات وأن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم، والسعي لا ينافي التوكل على الله.
وتأسيساً على نظام وسنة الحياة من السعي للإنتاج وما يتلوه من الرزق والثمرات، فخاطب سبحانه وتعالى العقول )وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ([الدخان: 38 ـ 39].
إذن السماوات والأرض وليلها ونهارها وما أنزل الله من السماء من ماء، والأرض وما حملته من جبال ومحيطات وأنهار، ومكوناتها، واختصاص أولي الألباب بما يعني التخطيط والتنظيم وهما أساس العلم، فإن هذا من عناصر الإنتاج.
ولقد فصلت سورة النمل الثروات التي وهبها الله للإنسان ومفتاح الأعمال المثمرة والتي منها ما يلي:
رقم الآية
النص
بعض ما تدل عليه الآية
3
)خالق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (
الطبيعة
4
)خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (
الثروة البشرية
5
)والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (
الثروة الحيوانية
6
)ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (
النقل والمواصلات
7
)وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم (
=
البرية
8
)والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (
وسائل المواصلات
9
)وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (
الاقتصاد من الدين
10
)هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (
الثروة المائية
11
)ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (
الثروة الزراعية
12
)وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (
الطاقة الشمسية والفلك
13
)وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (
الثروة المعدنية
14
)وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (
الثروة السمكية والمعدنية والنقل البحري والتجارة
15
)وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون (
الجبال والطرق النهرية والبرية
16
)وعلامات وبالنجم هم يهتدوون (
الثروة العلمية الفلكية
17
)أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (
الله هو الخالق لكل شيء
18
)وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (
نعم الله لا تحصى كثرة ومنها المواد الطبيعية
65
)والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون (
مصادر المياه والمحافظة على خصوبة الأرض واستصلاحها
66
)وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين (
صناعة الألبان في أجسام الأنعام
67
)ومن ثمرات النحيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (
الصناعات الغذائية والمحفوظة والتي علمها الله للإنسان
68
)وأوحى ربك إلى النخل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون (
بعض ما تدل عليه الآية إنتاج العسل والأدوية سنة
69
)ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (
80
)والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين (
التعمير وتأثيث السكن
81
)والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (
صناعة المظلات وتوفير الحصون وصناعة الملابس ودروع الحرب
تعريف الثروة في الاقتصاد الإسلامي:
هي كل مال نافع لا ضرر في استعماله آل إلى مالكه بالطريقة المشروعة دينياً وبنص الكتب السماوية ومصدرها ما هيأه الله في الأرض والسماء وما بينهما إلا ما حرم الله بنص القرآن والسنة النبوية. ومن ثم تعتبر الخمر والمخدرات والربا وما أخذ بالسرقة والاغتصاب ليست بثروة لضررها.
أما في الاقتصادي الرأسمالي هي الأموال الاقتصادية التي تنضوي تحت شروط ثلاثة:
أـ المنفعة.
ب ـ الندرة.
جـ ـ التبادل.
أ ـ فبالنسبة للمنفعة:هي صلاحية المال وقدرته على إشباع الحاجة. والحاجة عندهم هي إحساس داخلي يؤدي إلى الألم والضيق ما لم يتم إشباعها ولا يلزم أن تتفق مع الدين والخلق وأن المال الاقتصادي اللازم لإشباعها محايد ولذا كانت الخمر والمخدرات والخنازير عندهم ثروة.
وحاجة الإنسان للأموال لا حدود لها، وتزداد كلما تقدم إنتاجه، ومنها الضروري ومنها الكمالي، وقد يتحول الكمالي إلى ضروري بالتقدم والرفاهية.
ب ـ أما الندوة:فتكون الكمية المتاحة من الأموال أقل من الحاجة إليها وبذا يتحدد ثمن لندرتها ومنفعتها.
جـ ـ أما التبادل:فالحاجة إلى الأموال تخلق الطلب عليها وتظل كذلك طالما أنها نادرة ونافعة ويتحدد سعرها بالأسواق بفعل العرض والطلب، وهذا يعني أن تكون الأموال قابلة للتداول لكي تكون ثروة ويرفض الإسلام شرط الندرة وشروط التبادل في المال ليكون ثروة لأن من الأموال وغيرها ما يمثل ثروة رغم كثرتها واستحالة تبادلها وأمثلة ذلك:
الإنسان بإيمانه وعمله وعلمه ومواهبه ومهارته وفنه أكبر ثروة بشرية وإن استحال تبادل هذه الصفات وتقدير ثمن لها في الميزانيات في حاضرنا.
)ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ([الإسراء: 70].
وإن الجبال والأنهار والغابات وإن لم تكن ثروة فردية إلا أنها ثروة قومية رغم كثرتها وتعذر تداولها وتقدير ثمن لها.
والبحار والمحيطات وإن لم تكن ثروة فردية أو محلية إلا أنها عالمية لا تتداول ولا تقدر بثمن والماء والهواء وحرارة الشمس ثروة لكل من ينتفع بها في زيادة الإنتاج وفي توليد الطاقة وإنشاء المحطات النووية وغيرها.
والشهرة في تخصص معين والإحتياطات السرية ثروة.
والحكم العادل والقانون العادل واستتباب الأمن والنظام والعلوم والفنون التكنولوجية والدواء والعلاج والمياه الصالحة للشرب والكهرباء كل ذلك يمثل ثروة مهما زادت كميتها لمنفعتها في نمو الحياة الاجتماعية.
إذن عندما جعل الله الأرض ذلولاً من أجل الإنسان، فيجب ألا تمر هذه الإشارة بغير تبصرة لأبعاد بغير حدود للأرزاق والمياه. وذلك رداً على الذين يثيرون في المحافل والمؤتمرات العالمية التخوف من المجاعة والجفاف حتى ينفوا عن أنفسهم جريمة التسبب العمد في إحداث المجاعة والزعم بنقص المياه كأنهم هم المسيطرون. وليس هذا بعجيب على من يريدون الاستئثار لأنفسهم بالمتعة على أنقاض الآخرين. ولكن العجب كل العجب كيف ينساق المسلمون لهذه الأفكار وعندهم كتاب الله الذي يقول: )إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (صدق الله فجوف الأرض يحتوي طبقات من المعادن المختلفة، ومياه جوفية، وغازات طبيعية وبترول كما أنها تدور حول الشمس تستمد منها الطاقة والحرارة. وهي محاطة بغلاف هوائي يبلغ ضغطه 15 رطل على كل بوصة مما يؤكد استقرار كل شيء على الأرض. ومن آثاره الرياح. )ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ([الروم: 46].ويعتبر الهواء قمة الضروريات للإنسان والحيوان والنبات ولا يستطيع إنسان أن يعيش دقائق بدون الهواء قمة الضروريات للإنسان والحيوان والنبات ولا يستطيع إنسان أن يعيش دقائق بدون الهواء والماء قد جعل الله منه كل شيء حي )وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ([الشورى: 28].
أليس هذا كله بثروات من أهم الضروريات في مواطن الإنتاج لأجل البشرية، والماء بتحوله إلى بخار يصبح مصدر طاقة لتشغيل الآلات فيمكن إنتاج المصنوعات، كما أن مجاري المياه من أنهار ومحيطات وبحيرات تمكن الإنسان من قطع المسافات في أقصر الأوقات بأقل النفقات.
ولما كان الإنسان هو محور كل هذه النعم لتكون الدنيا معبر للحياة الحقيقية في الآخرة، إذن فقد كفل للإنسان بعد أن استخلفه في الأرض الوسائل ورسم له الحدود التي يعمل بها في هذه الثروات.