قواعد مهمة في الاتباع:
لتقرير ما سبق حول مفهوم الاتباع وحقيقته أذكر القواعد التالية:
أ- إن مبنى دين الإسلام على الوحي والنقل الصحيح لا العقل والاستنباط، فما جاءنا من أمر ونهي في كتاب الله –تعالى- أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجب علينا قبوله والمبادرة إلى امتثاله فعلاً أو تركاً.
ولذا كان السلف رحمهم الله يدورون مع النصوص حيث دارت ويحكمون على الرجل بأن على الطريق ما كان على الأثر [19]، قال الزهرى: « من الله الرسالة، وعلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- البلاغ، وعلينا التسليم » [20].
وقال ابن أبي العز شارحًا قول الطحاوي: « ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام: أي لا يثبت إسلام من لم يُسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يتعرض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه » [21].
وما أجمل مقولة الخليفة الراشد علي -رضي الله عنه- حين قال: « إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لابد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء. وأشار إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام » [22].
ومقولة أبي الزناد -رحمه الله- « إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها، من ذلك: أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة » [23].
ب- يجب على المسلم البحث عن الحكم الشرعي والتثبت فيه قبل إتيان العمل في جميع شئون حياته لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [24]، وتطبيق ذلك هو حقيقة الاتباع والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، يقول الشاطبي حول ذلك: «كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل» [25].
ج- المراد باتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- العمل بكل ما جاء به من أوامر ونواهي في القرآن الكريم باعتباره وحيًا من الله –تعالى- إليه -صلى الله عليه وسلم-، والعمل بالسنة المطهرة؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) [26]، قال عطاء: « طاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنَّة » [27]، وقال العلامة السعدي: « وإن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه ولا تحل مخالفته، وإن نص الرسول على حكم كنص الله –تعالى- لا رخصة لأحد ولا عذر في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله » [28].
د- ما تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- من جنس العبادات ولم يفعله مع وجود المقتضي لفعله على عهده -صلى الله عليه وسلم- ففعله بدعة، وتركه سنة، كالاحتفال بالمولد وإحياء ليلة الإسراء والمعراج، والهجرة، ورأس السنة، ونحوها، يدل لذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [29]، يقول الإمام مالك -رحمه الله-: « فما لم يكن يومئذٍ دينا فلا يكون اليوم دينًا » [30]، ويقول ابن تيمية: « والترك الراتب سنة، كما أن الفعل الراتب سنة » [31] ويقول ابن كثير: « وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل أو قول لم يثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه » [32].
هـ- كل ما يحتاجه الناس في أصول وفروعه، في أمور الدنيا والآخرة من العبادات والمعاملات في السلم أو الحرب، في السياسة أو الاقتصاد.. إلخ جاءت الشريعة ببيانه وإيضاحه؛ قال الله –تعالى-: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89] وقال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي: قد علمكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى الخراءة، فقال: ( أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول... ) الحديث [33].
و- أن الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشرع في ستة أمور، هي:
1- السبب: فإذا تعبد الإنسان لله تعالى بعبادة مقرونة بسبب ليس شرعياً فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بالتهجد يدَّعون أنها ليلة الإسراء والمعراج [34] ، فالتهجد في أصله عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة، لكونه بني على سبب لم يثبت شرعاً.
2- الجنس: فإذا تعبد الإنسان لله تعالى بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة، كالتضحية بفرس؛ لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام وهي الإبل - البقر - الغنم.
3- القدر: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة؛ لأنها مخالفة للشرع في المقدار أو العدد.
4- الكيفية: فلو نكس إنسان الوضوء أو الصلاة لما صح وضوؤه ولا صلاته ؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية.
5- الزمان: فلو ضحى إنسان في رجب، أو صام رمضان في شوال، أو وقف بعرفات في التاسع من ذي القعدة لما صح ذلك منه؛ لمخالفته للشرع في الزمان.
6- المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد ، أو وقف يوم التاسع من ذي الحجة بمزدلفة لما صح منه؛ لمخالفته للشرع في المكان [35].
ز- الأصل في العبادة بالنسبة للمكلف التعبد والامتثال دون الالتفات إلى الحكم والمعاني، وإن كانت ظاهرة في كثير منها، يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- مقررا ذلك: « يجب أن نعلم أن ما أمر الله به ورسوله، أو نهى الله عنه ورسوله فهو الحكمة، فعلينا أن نسلم، ونقول إذا سألنا أحد عن الحكمة في أمر من الأمور: إن الحكمة أمر الله ور سوله في المأمورات، ونهي الله ورسوله في المنهيات، ودليل ذلك من القرآن الكريم : قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، وسئلت عائشة -رضي الله عنها- (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاءالصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة) [36] فاستدلت بالسنة ولم تذكر العلة، وهذا هو حقيقة التسليم والعبادة، أن تكون مسلِّماً لأمر الله ورسوله عرفت حكمته أم لم تعرف، ولو كان الإنسان لا يؤمن بالشيء حتى يعرف حكمته لقلنا: إنك ممن اتبع هواه فلا تمتثل إلا حيث ظهر لك أن الامتثال خير » [37].
ولله در الفاروق عمر -رضي الله عنه- حين قال: « فيم الرَمَلان والكشف عن المناكب وقد أطَّأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- » [38].