الدكتور عبد الرحمن البزاز، كان شخصية هادئة وخجولة، وكان على علاقة صداقة بقيادات بعثية منها السوريان ميشيل عفلق وصلاح البيطار، والأخير كان رئيسا لوزراء سوريا إبان حكم حافظ الأسد لسوريا، وكنت شخصيا قد إلتقيته خلال زيارتي لدمشق في الخريف السابق. كان حديث البزاز عاما تناول فيه الموقف الإسرائيلي وعدائه للعرب، وكذلك عن حركة (التمرد) الكردية في شمال العراق.. هنا طلب (جو) أن نقوم بسفرة الى منطقة كردستان للإطلاع على الوضع هناك.. وافق البزاز ولكنه قال لنا إن ترتيب ذلك سوف يأخذ بعض الوقت..، وإنتبهت الى إشارة من عين عدنان تفيد بأن لا نتكلم في هذا الموضوع..!
لاحقا وبعد خروجنا من مكتب البزاز، قال عدنان: إن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يرتب لكم رحلة الى الشمال وبسرعة هو رئيس الجمهورية نفسه، والذي سوف تقابلوه غدا على العشاء.. وفعلا أخبرنا الرئيس عارف أن طائرة هليوكوبتر ستقلنا صباح الغد الباكر من بغداد الى شمال العراق مع بعض المرافقين لنا...
في اليوم الثاني، كنا مع الفجر على متن الطائرة التي أقلتنا أولا الى السليمانية، ثم كركوك، ثم دهوك، وأخيرا أربيل، حيث قضينا حوالي ساعتين في كل منطقة تخللتها بعض المحادثات مع مسؤوليين اكراد.. وقد أوضح الجانبين العراقي والكردي عن النية في وقف قريب لإطلاق النار، وإعطاء الكرد حقوقهم.
كنا نعلم يقيناً، أن هناك في الشمال بعض الخبراء الإسرائيليين من عسكريين وأجهزة مخابرات قد أُرسلوا من تل أبيب مع أموال وأسلحة لإظهار نوع من التضامن والتعاطف مع الأكراد وكذلك إبقاء الضغط على حكومة بغداد وهو الأهم.. ولكن لم يتطرق أحد الى هذا الموضوع...!
بعد عودتي الى بيروت.. بدأت أبحث في كتب التاريخ في مكتبة الجامعة الأمريكية، وكذلك التحدث مع خبراء في شؤون العالم العربي.. لقد كان هناك حذر وخوف من إحتمال نشوب حرب جديدة بين إسرائيل والعرب بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وهي الأولى منذ عام 1956، حين تدخل الرئيس الأمريكي آيزنهاور لوقف الهجوم الإسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي على مصر بسبب أزمة تأميم قناة السويس من قبل الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر. لقد حدثت بعض المناوشات على الحدود الأردنية ـ الإسرائيلية، حين أغار الجيش الإسرائيلي على موقع لفدائيين فلسطينيين، تطلق عليهم إسرائيل (الإرهابيين) ويسميهم العرب (مقاتلون من أجل الحرية)، كذلك حدث نوع من التصادم بين الإسرائيليين والسوريين قرب مقر الأمم المتحدة في الجليل الأعلى ومرتفعات الجولان.. كما كانت هناك عمليات شد وتبادل للتهم بين عبد الناصر وليفي إشكول رئيس وزراء إسرائيل عن حزب العمل.. في ذلك الوقت، تولى موشي دايان وزارة الدفاع الإسرائيلية بما يوحي بقرب سخونة الأحداث...!
أما العراق.. فقد كان بعيدا بعض الشيء من قلب الأحداث ومناطقها الجغرافية الساخنة.. ولكن، ولمعرفة كيف أصبح العراق جزءاً من الحرب التي شنتها إسرائيل صبيحة الخامس من حزيران 1967 على كل من مصر والأردن وسوريا لتتغير بعدها خريطة الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، لابد من الرجوع الى الوراء وقراءة الأحداث في المنطقة العربية ومنذ مطلع القرن العشرين...!)
عند حلول القرن العشرين، كان لبريطانيا مستعمرتين رئيسيتين.. الأولى تضمن تجهيز النفط الذي تحتاجه بريطانيا لأساطيلها البحرية، وإدارة عجلات الصناعة.. والثانية لحماية الطرق البحرية، ولاحقا الجوية الى الهند.. العراق كان المفتاح لكلا المستعمرتين (الهند والعراق) بسبب نفطه وموقعه الجغرافي...!
في 1910 بدأ النفط يتدفق من حقل مسجد سليمان في جنوب إيران.. وكانت شركة النفط البريطانية ـ الفارسية، تمثل مورداً إستراتيجياً، بالإضافة الى شركة الهند الشرقية في البصرة ونفوذها ودورها السياسي الإمبريالي لبريطانيا في جيل ما قبل النفط..
البصرة نفسها، تحمل أهمية خاصة لبريطانيا من حيث موقعها الجغرافي، وربط الطرق البرية والبحرية لأوربا والشرق الأوسط بالهند وما وراءها..!
يذكر أنه في عام 1903، كانت الحكومة الألمانية الحليفة لتركيا، قد وقّعت إتفاقا مع الإمبراطورية العثمانية لغرض بناء خط سكة حديد يربط بين برلين وبغداد عبر تركيا وسوريا، ولو قدّر لهذا المشروع، وبحسب النظرة البريطانية، من أن يكتمل، فإنه سيفتح أمام ألمانيا الطريق الى البصرة وبالتالي المحيط الهندي..!