4- الإيثار على النفس :-
تأمل معي هذه القصة التي مهما نسى المسلمون كل تاريخهم الحافل فلن ينسوا ذلك الموقف الرائع الذي ختمت به معركة اليرموك، ذلك أنه عندما انجلت تلك الواقعة الفاصلة عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين، كان يتمدد على الأرض ثلاثة أبطال أثخنتهم ـ أضعفت وأوهنت قواهم ـ الجراح، هم الحارث بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ، فدعا الحارث بماء ليشرب فلما قدم له نظر إليه عكرمة فقال الحارث: "ادفعوا إليه"، فلما قربوه من عكرمة نظر إليه عياش، فقال: "ادفعوه إليه"، فلما دنوا من عياش وجدوه قد قضى نحبه، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به.
5- غنى النفس (الزهاده) :-
حدث لأحد أعيان مكة، قال: دخلت بستاناً من بساتين المدينة، فوجدت رجلاً حبشياً يجلس إلى جذر البستان وفى يده رغيف من الخبز وأمامه كلب مقع ـ جلسة الكلب على رجليه الخلفيتين ـ فكلما اقتطع من الرغيف لقمه اقتطع أخرى ودفع بها إلى الكلب.
فدنوت منه وقلت: أهذا كلبك؟
قال : لا.
قلت: فلم تطعمه وما معك غير هذا الرغيف.
قال: لأننا أمرنا ألا نأكل وذو عين ينظر إلا أطعمناه مما نأكل.
فقلت: أحر أنت أم عبد.
فقال: بل أنا لآل فلان.
فقلت: وهذا البستان؟
فقال إنه لهم، وأنا أعمل فيه.
فمضيت إلى سيده فشريته وشريت البستان أيضاً، ثم عدت إليه فإذا هو يعمل في شجره، فقلت له: لقد اشتريتك من سيدك وأعتقتك لوجه الله، واشتريت منه هذا البستان ووهبته لك ابتغاء مرضات الله، فما زاد على أن قال: الحمد لله الذي أعتق رقبتي، والشكر له على ما وفقك لهذا الخير، أما البستان فاشهد أنى تصدقت به على فقراء المدينة، فقلت: على رغم حاجتك؟
فقال: هداك الله، لقد أنعم عليّ الله، أفلا أكون عبداً شكوراً.