ويجب أن نتبنه إلى أن سحرة الجن لا يمكن أن تقدم علم هاروت وماروت مجردًا أمام سحرة الإنس، ينهلونه غضا طريا كما أنزل، ولكن يزجون بطرف منه في السحر، حتى لا يدري الساحر أيهما هو العلم الحق وأيهما العلم الباطل، لذلك نرى أن السحرة يزجون بكلام الحق من كتاب الله تعالى في سحرهم، وهذا مما يكسبه قوة، وهي قوة المعصية، فبكل معصية يقيض الله بها شيطانا يقترن بالساحر، فيزداد سحره قوة بهذا القرين، فبدخول هذا العلم في السحر صار استخدامه باطلا، لأنه صار يستخدم فيما يضر ولا ينفع، ليحتفظ الشياطين لأنفسهم بالسيادة على سحرة الإنس فزادوهم رهقًا، وليمعنوا في إضلالهم والسيطرة عليهم، فيتيحون لهم من العلم ما يحقق مآربهم من استقطاب سحرة الإنس، وليكسبوا سحرهم ما يفتقده من قوة متوفرة في علم هاروت وماروت، وبالتالي يحقق لهم طموحاتهم في السيطرة على المسلمين من الثقلين، ليكون لهم بذلك العلو في الأرض، وهذا مما يتفق والأهداف التي يسعى اليهود لتحقيقها من السيطرة على العالم بأسره، والذين امتدت سيطرتهم من داخل نطاق الكرة الأرضية، إلى السبق في غزو الفضاء خارج مجال الجاذبية الأرضية، ومحاولة ارتياد الكواكب الأخرى، وبالتالي احتكار (علوم الفضاء) بسيطرتهم على رأس المال العالمي.
وإذا كانت الجن تتعلم من الملكين ما أنزله الله عليهما من علم شريف منيف، إلا أنه من الواضح أنه علم معجز يفوق علم السحر، وبالتالي فهو آية وحجة عليهم في مقابل السحر، ليعلموا حقيقة أن السحر كفر مبين ولا يغني من الحق شيئًا، قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18)، فهو علم يليق بجلال الله تبارك وتعالى منزل هذا العلم على الملكين، فهو علم جدير بهما كملكين كريمين، وبالتالي فهو معجز للجن ولسحرتهم خصوصا، فلا يستطيعون الإتيان بمثله، وبالتالي كان حجة عليهم كجن، وليس حجة على الإنس الذين لا يعلمون شيئا من تفاصيله، هذا عسى أن يرتدعوا وينتهوا عما بين أيديهم من السحر، ولأن هذا العلم معجز، فتأثيره أشد قوة من تأثير السحر، وبالتالي فهو فتنة لما فيه من قوة لا يضاهيها ما في أيدي سحرة الجن من علوم السحر، وبالتالي فعلم هاروت وماروت تستخدمه شياطين الجن للسيطرة على الجن أمثالهم، وخاصة في السيطرة على أكابر الجن المسلمين، ويزداد تأثير تعقيدا إذا كان سحر مشترك بين الجن والإنس ضد الإنس أو الجن المسلمين، لذلك فهذا العلم فتنة أي اختبار لمتلقيه وهذا من قوله تعالى: (وَمَا يُعَلِمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ)، فإن كان هذا العلم معجزًا، إذًا فمن المحال أن يكون الهدف من تعليمه هو الكفر، فإن لم يمكن كفرًا في ذاته، إلا أنه من الممكن استخدامه في أعمال كفرية.
فكما نسب اليهود كذبا تعليم السحر إلى سليمان عليه السلام، فكذلك كذبوا فنسبوا تعليم السحر إلى الملكين هاروت وماروت، وهذا نقلا عن شياطين الجن، وهذه هي طامة النقل عن الجن بغير بينة من الشريعة والعقل، فسرب اليهود ضلالات شياطين الجن ويحسبون أنهم مهتدون، رغم أنه علم أنزل عليهما، والإنزال لا يكون إلا من الله عز وجل، لقوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)، فنفى الله عز وجل الكفر عن سليمان عليه السلام، فقال: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)، ونسب تعليم الناس السحر وهو كفر إلى الشياطين، فقال: (وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)، وأثبت أن علم هاروت وماروت منزل عليهما مما يقتضي سلامته من الكفر، وأنه ليس بسحر، فالشياطين لا تنقل علم الملكين إلى السحرة مستقلا عن علوم السحر، بل تطمس جميع معالمه بإدخاله في السحر.
والخلاصة أن الشياطين يستخدمون علم الملكين هاروت وماروت في أفعال الشر والضرر، وهو علم شريف منيف يمكن استغلاله في الخير كما يمكن استغلاله في الشر، فحامل هذا العلم في وضع اختبار، فأدخلوا هذا العلم في السحر، ثم نسبوا علم السحر إلى الملكين الكريمين هاروت وماروت، فالعلة ليست في علمهما ولكن العلة فيمن يستخدم علمها في الشر لا في الخير، فأساءوا بذلك إلى العلم المنزل من الله على الملكين كما أساءوا إلى سليمان عليه السلام، وما هو إلا ابتلاء للجن واختبار لهم، فاستخدموه فيما يضر ولا ينفع، هذا لأن السحر ضرر محض لا نفع فيه، قال تعالى: (وَيَتَعَلَمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ)، وهذا فيه إشارة على أن شياطين الجن كانت تدلس على سحرة الإنس من اليهود، فتضع مع علوم السحر وفنونه بين ما هو من جملة علم هاروت وماروت، خاصة وأن بعض أنواع السحر تستخدم فيه بعض الأسماء الشريفة والآيات الكريمة من الكتب المنزلة، وبذلك يدلس عليهم ويحسبون أنهم على حق، فالصوفية على سبيل المثال يتبعون ما في كتب السحر مثل كتاب (شمس المعارف الكبرى) للبوني، ولو طالعنا هذا الكتاب وما شابهه من الكتب والمصنفات، سوف نجد المؤلفين يمدحون هذا العلم ويجعلون منه أجل وأخص العلوم، فيسمونه (الحكمة) وما هو إلا عين السفاهة والبرطيل.
__________________
موسوعة دراسات وأبحاث العلوم الجنية والطب الروحي للباحث (بهاء الدين شلبي)
|