عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17-03-2007, 05:53 PM
الصورة الرمزية رائد الصعوب
رائد الصعوب رائد الصعوب غير متصل
قلم مميز
 
تاريخ التسجيل: Sep 2006
مكان الإقامة: jordan
الجنس :
المشاركات: 1,958
الدولة : Jordan
افتراضي

شهادة صادقة على عروبة العراق ووحدته

بقلم معن بشور




أوصيكم أن يكون مدفني في مدينة كربلاء في المدفن الخاص بنا بجانب المرحومة والدتكم وبحجم ضريحها وان يرسم على وجه الضريح خارطة الوطن العربي بحدودها الخارجية وان يكتب على الضريح بالعربية الواضحة: (أيها المواطنون: عليكم بوطنكم العربي وحدوده في دولة قوية تقدمية فليس غير الوحدة العربية ما يحقق لكم الأمن والنهضة والتقدم، وهي لا بد متحققة بإذن الله وجهادكم).



بهذه الكلمات خاطب الدكتور سعدون حمادي أولاده (محمد أسامة، وائل، سهيل، مازن، غسان) في وصيته التي كتبها بخط يده وأودعها صديق العمر د. خير الدين حسيب، وهو يحضّر نفسه للرحيل النهائي بعد أن نهشه المرض العضال ولم تستطع مستشفيات ألمانيا أن تحاصره وتمنع انتشاره، وكأنه بهذه الكلمات يريد أن يبقى ضريحه شاهداً على دعوته المستمرة من اجل الوحدة العربية التي افني عمره نضالاً وبحثاً وفكراً في سبيلها، خصوصاً انه أوصى أيضا بان يحوّل كل جني عمره (26الف دولار أمريكي) ليكون وقفاً للوحدة العربية تخصص عائداتها (ألف دولار سنويا) لعمل من اجل الوحدة .. كم كانت ثروته صغيرة، وكم كان الرجل كبيراً.



لقد استقبلت بيروت سعدون حمادي مرات ثلاث، أولها في أوائل الخمسينات حين أتاها في بعثة جامعية حكومية من مسقط رأسه في كربلاء ليدرس الاقتصاد في الجامعة الأمريكية، ولكي يؤسس مع الطبيب المتخرج حديثاً من دمشق الدكتور علي جابر، وأستاذ الأدب العربي في الليسه الإنجيلية الوطنية إنعام الجندي الخلايا الأولى لحزب البعث الذي تدرج في صفوفه بعض من عرفهم لبنان فيما بعد مناضلين ومفكرين وكتاباً، وزراء ونوابا ومديرين عاماً وبشكل خاص عرفهم شهداء أبطال في ميادين الكفاح الشعبي والمقاومة الوطنية.



المرة الثانية التي استقبلت فيها العاصمة اللبنانية سعدون حمّادي كانت في أوائل الستينات حين أتاها بعد أن سجن في ليبيا السنوسية لعمله على تأسيس تنظيم للبعث هناك، وحين استحالت عليه العودة إلى بغداد آنذاك بسبب الملاحقات الدموية القاسية التي كانت تشمل أبناء التيار القومي العربي من بعثيين وقوميين عرب في عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.



ويروي صديقه الصحافي اللبناني الكبير الراحل ميشيل أبو جوده في إحدى افتتاحياته التي كان لها صدى في الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج: أن سعدون حمادي قد غادر بيروت عشية سقوط نظام قاسم وقد جهز نفسه لدخول السجن، بارتدائه البيجاما تحت ملابسه مدركاً انه سيساق من المطار إلى السجن الذي لم يبق فيه طويلا بسبب الإطاحة بالنظام كله.



أما المرة الثالثة التي استقبلته فيها بيروت فكان في خريف عام 2004 بعد أن خرج من سجون الاحتلال الأمريكي، اثر تدهور صحته وتحرك منظمات عربية ودولية بما فيها الأخضر الإبراهيمي نفسه (ممثل الأمم المتحدة في العراق آنذاك) للإفراج عنه.



وإذا كان فارق السن لم يسمح لي أن أتعرف على سعدون حمادي في الزيارتين الأوليتين لبيروت، إلا أنني عرفت عنه الكثير من أصدقائه الكثر في بيروت كبشير الداعوق، منح الصلح، فاروق البربير، وجهاد كرم، والصديق الراحل أيلي بوري، وغيرهم وسمعت بشكل خاص ما يفيد أن الرجل كان صلباً في إيمانه، جاداً في سلوكه، جدياً في عمله، وفياً في علاقاته، وحدويا في ممارساته،علمياً في تفكيره، قليلاً في كلامه.



ولقد تأكدت من هذه الصفات التي كان يتحلى بها سعدون حمادي حين أتيح لي التعرف إليه فيما بعد في دمشق في أواسط الستينات، ثم في بغداد في زيارات التضامن مع الشعب العراقي في أوائل هذا القرن، كما تأكدت منها خصوصاً خلال الأسابيع القليلة التي أمضاها في بيروت بعد خروجه من سجون الاحتلال، وقبل انتقاله إلى الدوحة في مطلع 2005 حيث أمضى سنواته الأخيرة متنقلاً بين كتابة لم ينصرف عنها، ومستشفيات لم تنجح في محاصرة المرض الذي فتك به، ولقاءات مع أصدقاء يزورون قطر كان سعدون حمادي يضخ فيها الأمل بتحرير العراق ووحدة الأمة.



في زيارته البيروتية الثالثة، لفتني إلى أن طموح هذا الرجل الكبير، الذي كان وزيراً ورئيساً للوزراء ورئيساً للبرلمان وقيادياً بارزاً، بات يتلخص في سنواته الأخيرة أن يكون باحثاً في مركز دراسات الوحدة العربية الذي ساهم مع خير الدين حسيب وجاسم القطامي، وبشير الداعوق ، وأديب الجادر، والراحلين د. عبد الله الطريقي ويوسف صايغ ، ونخبة من الشخصيات في تأسيسه عام 1976 وتولى رئاسة مجلس أمنائه حتى عام 1991.



وفي لقائي الأخير به في بيروت قبل ساعات من المغادرة إلى قطر، كان سعدون حمادي مسكوناً بفكرة تشكيل خلية عمل من اجل الوحدة العربية، تسعى إلى متابعة كل القضايا المتصلة بالوحدة، فلا تنغمس في الشأن الداخلي لأي قطر من الأقطار، ولا تغوص في الخلافات الدائرة بين القيادات والأحزاب والفصائل، بل تركز على مشاريع محددة تؤدي إلى تحقيق هدف الوحدة على غرار تلك الخلية التي قامت في أوروبا بعد الحرب العالمية للعمل من اجل الوحدة العربية، وبدأت مع جان مونيه بمشروع اتحاد الصلب والحديد الأوروبي الذي كان أللبنه الأولى في مسار الوحدة الأوروبية.



خرجت من ذلك اللقاء، وقد ازداد إعجابي بالرجل الذي لم تغيره السنون، ولم تحبطه السجون، ولم تضعف عزيمته رغم الأهوال والخيبات التي مرت بها الأمة، وتعرفت أكثر من خلاله على نوع من المؤمنين الصادقين الصابرين الذين كلما ازدادت المصاعب أمامهم كلما ازداد إيمانهم بانتصار أمتهم.



وبقدر ما كان سعدون حمادي صادقاً في إيمانه، كان مخلصاً في صداقاته، حتى أن الثلاثي سعدون حمادي، وخير الدين حسيب، وبشير الداعوق بقي علامة فارقة في ثبات العلاقات الإنسانية رغم تنوع الاجتهادات والمواقف والمشارب بل والمسارب السياسية اليومية.



ومما اذكره دائماً قول لبشير الداعوق (الأستاذ اللبناني في علم الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت و"صاحب دار الطليعة") حول هذه العلاقة: لي صديقان في العراق هما خير الدين حسيب وسعدون حمادي، ولكنني لا اذكر إنني استطعت أن اجتمع بهما سوياً في بغداد، لأن حين يكون احدهما خارج السجن يكون الآخر داخل السجن، وحين يكون احدهما داخل العراق يكون الآخر خارجه.



سعدون حمادي ابن كربلاء العراقية العربية الآبية، وجه لن تنسينا إياه الأيام، انه شهادة حية في حياته ومماته، على عروبة العراق وعلى وحدة العراق، لا سيما في زمن حرب الاحتلال المستمرة على عروبة هذا البلد العظيم وعلي وحدة ابنائه.


وقد لا تسمح الظروف الأليمة اليوم بأن يدفن ابن كربلاء في مدينته العابقة بالمراقد والمقامات والرموز المقدسة، ولكن حتماً سيأتي يوم يستقبل فيه كل العراقيين رفات سعدون حمّادي بما يستحق من حب وتقدير وإعجاب ويلفونها بدموع الفراق وفرح التحرير معاً.
__________________
 
[حجم الصفحة الأصلي: 17.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.01 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (3.52%)]