
16-02-2007, 05:11 AM
|
 |
عضو متميز
|
|
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: في ارض الله
الجنس :
المشاركات: 388
|
|
وَ كانتِ القُوَّاتُ الصَّلِيبيَّةُ التِّي حَاصَرَتْ بيتَ المَقْدِسِ، في غايةِ التَّعَبِ و الإنْهَاكِ من شِدَّةِ الحَرَارَةِ التّي لَمْ يَعْتَادُوا عَلَيهَا في بِلَادِهم، حتَّى أنَّ الماشِيَةَ وَ الأغْنَامِ هَلَكَ عددٌ كبيرٌ منهَا، بَلْ إنَّ عددَ الجيشِ الصليبيّ الذي كَانَ مُتوَجِّهًا لحِصَارِ بيتِ المقدِس لمْ يكُن كبيرًا، بِحَيْثُ يستطيعُ أنْ يصمُدَ في ظلِّ هذِهِ الظُّروفِ لَولًا خيانَة الرَّافضَة، وَ تَوَاطُئُهم معَ الصَّلِيبين. إذ بَلَغَ عدَدُهُم ألفًا وَ خَمْسَ مائةَ فارِسٍ، وَ عشرين ألفًا من المُشَاةِ، حتّى أنَّ المُؤَرِّخَةَ ابن تَغْرِيبَرْدِي قَالَ مُتَعَجِّبًا: "وَ العَجَبُ أنَّ الإفْرَنْج لمَّا خَرَجُوا إلى المُسلمينَ كانُوا في غايةِ الضَّعْفِ من الجوعِ وَ عدَمِ القوتِ، حتى أنَّهُم أَكَلُوا المَيْتَةَ، وَ كانتْ عسَاكِرُ الإسلامِ في غايَةِ القُوَّةِ وَ الكَثْرَةِ ، فَكَسَرُوا - أي الصَّليبيون - المسلمين وَ فَرَّقُوا جَمْوعَهُم". وَ بعدَ حِصَارٍ دامَ أربعين يَوْمًا تمكَّنَ الصلِيبيُّونَ من دُخولِ بيتِ المَقْدِسِ وَ احْتِلالِهَا في شَهْرِ شَعْبًان، في سَنةِ أرْبع مائةِ و اثْنَتَيْنِ وَ تسعينَ لِلْهِجْرَةِ.
وَ راحُوا يُقتِّلونَ المسلمينَ، وَ يُحَرِّقونَ مَا كَانَ ببيتِ المَقْدِسِ من مَصَاحِفٍ وَ كُتُبٍ، حتّى بلَغَ عددُ القَتْلَى مَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ألفٍ منَ المُسلمينَ منهُم الأئمَّةُ و العلماءِ وَ العُبَّادِ. وَ ظَلُّوا على هذهِ الحَالَةِ منَ التَقْتِيلِ و التنْكيلِ أُسْبُوعًا كامَِلًا لدرجة أنَّهُ لماّ أراَد قَائدُهُم الصَّليبي رِيمُونْد زِيارَة سَاحَة المَعبَدِ أَخَذَ يتلَمَّسُ طَريقَهُ تَلَمُّسًا من كثرةِ الجُثَثِ و الدِّماء التي بَلَغَت رُكبَتَيْهِ.
وَ كان من جَرَائمِ الخلَفَاء العُبَيديين أنَّهُم يتَخَلَّصُونَ من كل وَزيرٍ يُنادِي بفريضَةِ الجِهادِ، وَ يرفَعُ لُوَاءَهُ على وجهِ السُّرعَة، وَ يظْهَرُ ذلكَ من خِلًالِ الفَتْرَةِ التي حَكَمُوا بها. فَهَذا الوزيِرُ الأفضلُ لمَّا كانَ مُتحَالِفًا مع الصَّليبيينَ كانَ منهُم مُقَرَّبا، وَ لَمَّا بدَأَ يَتَحَالَفُ معَ الدَّماَشِقَة الأترَاك لمواجَهَةِ الصليبيّينَ، قَامُوا باغتيَالِهِ في عَهْدِ الخَليفَةِ الآمِر.
وَ هذَا الوزير رِضوَان بن الوَلْخَشِيّ كَان من أشدِّ النَّاسِ تَحَمُّسًا للجِهَادِ ضِدَّ الصليبيين حتّى أنَّهُ أَنْشَأَ ديوَانًا جَدِيدًا، أَطْلَقَ عليهِ اسم ديوانِ الجِهادِ، وَ أخَذَ يُطارِدُ الأَرْمَن، و يُقصيهِم من مَنَاصبِهِم التي توَلُّوهَا من قِبلِ الرَّافِضَة العُبَيديين، بَل إنَّهُ نَدَّدَ بالخَلِيفَةِ الحَافِظ العُبَيْدِيّ آنذاك علَى مواقِفِهِ المُستكِينًة تُجاهَ الصليبيينَ بالشَّامِ، فَعَمَدَ الخليفةِ الحافِظِ إلى تمكينِ الأرمَنِ و التَّعاون معهُم سِرًا، وَ أخَذَ يثُيرُ طوائفَ الجَيْشِ الفَاطِميّ ضدَّ الوزير ابن الوَلْخَشِيّ، الأمرُ الذي أعَاقَ سيرَ حركَةِ الجِهَادِ التّي عَزَمَ ابن الوَلْخَشِيّ على إدارَتِهَا، فَاضْطَّرَّ إلى الفِرارِ متَحَيِّزًا نَحْوَ الشَّمالِ حَيْثُ يُوجَدُ أَسَـدٌ من أُسُـودِ الجِهادِ وَ هُوً عِمادُ الدِّينِ زِنْكِيّ، لِيَستَعينَ بهِ في جِهَادِهِ ضدَّ الصليبيينَ.
وَ هذَا الوزيرُ ابنُ السَّلَار السُّنِّيّ الشَّافِعِيّ بَذَلَ قُصَارى جُهْدِه لموَاجَهَة الصَّليبيينَ، وَ حاولَ التّعاونَ مع نورِ الدِّينِ و الاتِّصالَ بهِ ليتمَكَّنوا من مُشَغَالَةِ الإفرِنجِ في جِهَةٍ، وَ ضَرْبِهِم في الجِهَةٍ أُخْرَى، إلا أنَّ الخليفَةَ آنَذَاك الظَّافِرْ دَبَّرَ لَهُ مُؤامَرَةً فاغْتَالَهُ في عامِ خَمسِ مائة وَ ثَمانيةٍ وَ أربَعِينَ للهِجْرَةِ.
79:14
وَ هذا الوزيرُ العادِل طلائعُ بنُ رُزَيْك الذي مَا لبثَ بعد تولِّيهِ الوِزَارَة أنْ رفعَ رايَةَ الجِهادِ، وَ جَهَّزَ الأساطيل و السَّرَايا لمهَاجَمَة الصليبيينَ، لكنَّه ما لَبثَ أنْ قُتِلَ قبلَ أنْ يُحَقِّقَ حُلْمَهُ في تحريرِ بيتِ المَقْدِسِ، من قِبَلِ مُؤامرة دَبَّرها له "شَاوَر السَّعْدِيّ" الذي كانَ والِيًا على الصّعيدِ في عهدِ الخلفَةِ العَاضِد عام خَمْسِ مائةٍ وَ ثمَانيَة وَ خَمْسينَ للهِجْرَةِ. وَ لمَّا خرجَ أحد قادةِ الجَيْشِ وَ هُوَ أبو الأشْبًالِ الضّرْغَام على شَاورٍ، وَ انتزَع منه الوَزَارَة وَ قَتلَ ولَدَه الأكبر طَيّ بن شَاوَر، اضطَّرّ شاوَر إلى أنْ يُرسِلَ إلى الملكِ العادِل نور الدِّين محمود زِنْكِي يَستَجيرُ بهِ، وَ يطلبُ منهُ النَّجْدَة على أنْ يُعْطِيَهُ ثُلُثَ خَرَاجِ مِصر، وَ أن يكونُ نائِبَهُ بِهَا حيثُ قالَ: " أكونُ نائِبَكَ بِها وَ أقْنَعُ بما تُعَيّنُ لي من الضِّياعِ وَ الباقي لكَ"، وَ معَ أنَّ نورَ الدِّينِ كَانَ مترَدِّدًا في إرسالِ حملَة عسكَرِّيَّةٍ مع شَاورَ إلا أنَّه استخَارَ فَأرسَلَ لَه أكبرَ قُوَّادِهِ أسدَ الدِّينِ شِرْكُوهْ، وَ أرسلَ معهُ ابن أخيهِ صَلَاح الدِّين، وَ أمرَ بإعادَةِ شَاوَرَ إلى مَنصِبِه، واستطاع أسدُ الدِّين في حَملَتِه أنْ يقضيَ على ضِرغَام، وأن يُعيدَ الوِزَارةَ إلى شَاوَر في شَهْرِ رَجَب عام خمسِ مائةٍ وَ تسعَةٍ وَ خَمْسينَ للْهِجْرَةِ.
وَ لكِنَّ الغَدرَ و الخِيانَةَ بَدَت فِي مُحـَيّا "شَاوَر"، فَأَسَاءَ مُعَامَلَةَ النّاسَ و تَنـَكّبَ عَنْ وُعُودِهِ المَعْسُولَةِ لـِنُورِ الدّين، و أرَادَ أنْ يَغْدِرَ بِأَسَدِ الدِّيْنِ شِركُوه حَيثُ طَلَبَ مِنْهُ الرّجُوعَ إِلى الشّام، دُونَ أنْ يُرسِلَ إِلَـيهِ ما كانَ قدِ اسْتَقرَّ بَينَهُ و بَيْنَ نُورِ الدّين، وَ لمـا رَفَضَ أَسَدُ الدِّينِ الرُّجُوعَ إِلى الشَّامِ أَرْسَلَ نُوّابَهُ إِلى مَدِيْنَةِ "بـَلْبِيس" فَتَسلَّمَهَا و تَحَصَّنَ بِهَا، فَمَا كَانَ مِن "شَاوَر" إِلا أَنْ يَغْدِرَ كَما هِيَ عَادَةُ الرَّافِضَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ بَيْتِ المَقْدِسِ الصّلِيبِي يَسْتَنْجِدَهُ على "شِرْكُوه" وَ يُطَمِعُهُ فِي مُلْكِ مِصْرَ إِنْ هُمْ سَاعَدُوهُ فِيْ إِخْرَاجِ "شِركُوه"، وَ بِالفِعْلِ سَارَعَ الصَّلِيْبِيُّونَ بِالتَّوَجُّهِ إِلى مِصْرَ وَ مِن ثُمَّ التَقَوا بِـ"شَاور" وَ عَسَاكِرَه حَتّى تَوَجَّهُوا جَمِيْعَاً إِلى "بَلْبيس" وَ حَاصَرُوا أَسَد الدِّيْنِ فِيهَا وَ لَكِن مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ وَ أَثْنَاء حِصَارِهِمْ لَهُم؛ وَصَلَتْهُم الأَنْبَاءُ بِهَزيْمَةِ الإِفْرَنْجِ عَلَى "حَارِم" و تَمَلـُّكِ نُورِ الدِّينِ لها، وَ تَقَدُّمِهِ إِلى "بَانِيْسَا" لأَخْذِهَا فَأَصَابَهُم الرُّعْبُ وَ اضْطُرُّوا إِلَى أنْ يُرَاسِلُوا أسَدَ الدّينِ المُحَاصَرِ في "بَلْبيس" يَطْلُبُونَ مِنْهُم الصُّلْحَ وَ تَسْلِيمِ مَا أَخَذَهُ سِلْمَاً، فَاضْطُرَّ لِمُوَافَقَتِهِم عَلَى ذَلِك، إِذْ أَنّ الأَقْوَاتَ قَلَّتْ عِنْدَهُم وَ عَلِمَ عَجْزَهُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الفَرِيْقَينِ فَصَالَحَهُم وَ خَرَجَ مِن "بَلْبيس" عام خمسمائة وتسعة وخمسين للهجرة وهو في غَايَةِ القَهْر.
هَذَا الأَمْرُ وَ هَذِهِ الخِيَانَةُ مِنْ قِبَلِ "شَاوَر" وَ تَحَالُفِهِ مِعَ الصّلَيْبِيـين جَعَلَ المَلِكَ الصّالِحَ نُوْرُ الدّيْنِ مَحْمُود، يُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلى غَزْوِ مِصْرَ ثَانِيَةً لِلْقَضَاءِ عَلَى مَصْدَرِ الفُرْقَةِ فِيْ العَالَمِ الإِسْلامِيِّ وَ مَنْبَعِ الخَيَانَةِ لِلأُمّة أَلا وَ هِيَ الخِلافَةُ الفَاطِمِيَّةُ بِالإِضَافَةِ إِلَى رَغْبَتِهِ فِيْ نَشْرِ المَذْهَبِ السُّنّي وَ القَضَاءِ عَلَى مَذْهَبِ الرَّفْضِ فَخَرَجَت حَمْلةٌ مِنْ "دِمْشْقَ" فِي مُنْتَصفِ شَهْرِ رَبيعٍ الأَوّل مِن عَامِ خمسُمَائة و اثْنَين وَ سِتِّيـنَ لِلْهِجْرَةِ بِقِيادَةِ أَسَدِ الدِّيْنِ وَ ابْنِ أَخِيْهِ صَلاحِ الدِّينِ وَ كَانُوا عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ النَّصْرِ، وَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا النَّصْرِ وَ إِرْهَاصَاتـِهِ أَنْ قَذَفَ اللهُ الرُّعْبَ فِيْ قُلُوبِ أَعْدَاءِه مِنَ الصَّليبيـينَ و الرّافِضِةِ المُرْتَدّين، وَ برِغمِ تَحَالُفِ "شَاوَر" و قُوّاتِهِ مَعِ قُوَّاتِ الصّلِيبيـين وَ اسْتِنْجَادَهُ بِهِمْ إِلا أَنَّهم قَدمُوا وَ الرَّجَاءُ يَقُوْدُهُمْ وَ الخَوْفُ يَسُوْقُهُم.
فَبَدَأَتْ أُوْلَى المَعَارِكِ بَيْنَ قُوّاتِ أَسَدِ الدِّيْنِ وَ قُوَّاتِ الصّليبيـّينَ المُتَحَالِفِيـنَ مَعْ "شَاور" فِي مِنْطَقَةِ الصَّعِيدِ بِمَكَانٍ يُعْرَفُ بِاسْمِ "البَابَيـْنِ" فَدَارَت مَعْرَكةٌ حَاسِمَةٌ انْتَهَتْ بِهَزِيمَة الصّلِيبيـينَ وَ الفَاطِمِيـّينَ أَمَامَ جُنُودِ "شِرْكُوه"، فَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يُؤَرَّخُ أَنّ أَلْفِي فَارِس عَدَدُ أَفْرَادِ جَيْشِ "شِركوه" تَهْزِمُ عَسَاكِرَ مِصْرَ وَ فِرِنْجَ السّاحل.
وَ اسْتَمَرَّ الكَرُّ وَ الفَرُّ بَيْنَ الفَرِيْقَينِ حَتّى كَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى أَنْ بَثَّ اللهُ الفُرْقَةَ وَ النـِّزَاعَ بَيْنَ "شَاور" وَ الخَلِيفَةِ الفَاطِمِيّ "العَاضُد" مِنْ جِهَةٍ وَ تَنَكُّرِ الصّلِيبيـْينَ للوَزِيْرِ "شَاور" مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.
كُلُّ ذَلِكَ بِالإِضَافَةِ إِلـَى العَزْمِ الصَّادِقِ عَلَى جِهَادِ الصَّليبيـّينَ وَ نَشَرِ الدِّيْنِ الإِسْلامِيّ الصَّافِيْ عَلَى مَنْهَجِ الجَمَاعَةِ الأُوْلَى, مَا عَلَيْهِ الرَّسُوْلُ صَلى الله عَلَيهِ وَ سَلّم وَ أَصْحَابَهُ أَدّى بِالنّهَايةِ إِلى انْتِصَارِ حَمْلَةِ نُورِ الدّيْنِ بِقِيادِةِ أسَدِ الدّيْنِ وَ ابْن أخِيْهِ صَلاحِ الدِّيْنِ وَ اسْتِيْلائِهِم عَلَى مِصْرَ فِيْ نِهَايَةِ المَطَافِ، وَ لَكِنَّ الحِقْدَ الرَّافِضِيَّ لَمْ يَنْتَهِي إِلى هَذَا الحَدِّ بَلْ رَاحَ الرَّافِضَةُ يُدَبِّرُونَ المُؤَامَرَاتِ وَ المَكَائِد بَعْدَ سُقُوطِ الدّوْلَةِ العُبَيدِيّةِ الفَاطِمِيّةِ للتّخَلُّصِ مِنْ أَسَدِ الدِّيْنِ الذِيْ تَولـّى الوَزَارَةَ فِيْ مِصْرَ وَ مَنْ بَعْدِهِ ابنُ أخَيهِ صَلاح الدِّيْنِ الذِيْ قَطَع الخُطْبَةَ للخَلِيفَةِ الفَاطِمِيِّ فِيْ ثَانِيْ جُمْعةٍ مِنْ المُحَرَّمِ عَام خَمْسمائةٍ وَ سَبعةٍ وَ سِتّينَ للهِجْرةِ وَ خَطَبَ للخَلِيْفَةِ العَبَّاسِي المُسْتَضِيءِ بِأمْرِ الله.
فَتَمَّتْ عِدّةُ مُحَاوَلاتٍ لاغْتِيالِ القَائِدِ صَلاحِ الدّين، فَفِيْ عَامِ خمْسِمَائة وَ أَرْبعةٍ وَ سَبْعينَ لِلهِجْرِةِ مِنْ شَهْرِ ذِيْ القِعْدَةِ اتَّفَقَ مُؤْتِمِنُ الخِلافَةِ وَ هُوَ خَصِيٌّ كَانَ بِقَصْرِ العَاضُدِ وَ كَانَ الحُكْمُ فِيْ القَصْرِ إِليْهِ مَعْ جَمَاعَةٍ مِنَ المِصْرِييـْنَ عَلَى مُكَاتَبَةِ الإِفْرَنْجِ مَعْ شَخْصٍ يَثِقُوْنَ بِهِ يَقْتَرِحُوْنَ فِيْهِ عَلَيْهِم أَنَّ يَتَوجَّهَ الصّلِيبيـّون إِلى الدِّيَارِ المِصْرِيّة، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَ أَرَادَ صَلاحُ الدّينِ الخُرُوجَ إِلَيْهِم قَامَ هُوَ وَ مَنْ مَعَهُ مِنَ المِصْرِييـنَ فِيْ الدَّاخِلِ بِقَتْلِ مُخَالِفِيهِمْ مِنْ أَنْصَارِ صَلاح الدّين، ثُمَّ يَخْرُجُوْنَ جَمِيْعَاً فِيْ إِثْرِهِ حَتَّى يَأْتُوْنَهُ مِنَ الخَلْفِ فَيَقْتُلُونَهُ وَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الَعَسْكَر، وَ لَكنَّ الله تَعَالى أَفْشَلَ مُخَطّطهُم ذَلكَ وَ انْكَشَفَ حَامِلُ الرِّسَالة، فَأَرْسَل صَلاحُ الدِّينِ مِنْ فَوْرِهِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلى مُؤْتَمِنِ الخِلافَة، حَيثُ كَانَ يَتَنـزّهُ فِي قَرْيَةٍ لَهُ فَأَخَذُوهُ و قَتَلُوهُ وَ أَتَوا بِرَأْسِهِ وَ عَزَلَ جَمِيعَ الخَدَمِ الذينَ يَتَولّونَ أَمْرَ قَصْرِ الخِلافَة.
ثُمّ جَاءَتِ المُحَاوَلَةُ الثّانِيَةُ لاغْتِيالِ صَلاح الدّيْنِ مِنْ قِبَلِ الرّافِضَةِ لَمّا ثَارَ جُنْدُ السُّودَانِ الذين كَانُوا بِمِصْرَ لمَقْتَل مُؤْتَمن الخِلافة لأَنّه كَانَ يَتَعصَّبُ لَهُم فَجَمَعُوا خَمْسِين ألفاً مِنْ رِجَالِهِم وَ سَارُوا لِحَرْبِ صَلاحِ الدِّينِ فَدَارَتْ بَيْنَهُم عِدّةُ مَعَارِك وَ كَثُر القَتْلُ فِيْ الفَرِيقَيـنِ، فَأرْسَل صلاح الدّيْنِ إِلى مَحَلّتِهِم المَعرُوفَةِ بِالمنْصُورَةِ فَأَحْرَقَها عَلَى أَمْوَالِهِم وَ أَوْلادِهِم وَ حَرَمِهِم، فَلَمّا عَلِمُوا بِذَلِكَ وَلّوا مُنْهَزِمِينَ فَرَكِبَهُم السَّيْفُ وَ ظَلّ القَتْلُ فِيْهِمْ مُسْتَمِرّاً إِلى أَنْ قَضَى عَلَى آخِرِهِمْ "تُورَان شَاه" أَخُو صَلاحِ الدّين فِيْ مِنْطَقَةِ الجيزة.
وَ لَمْ يَسْتَكِنْ الرّافِضَةَ إِلَى هَذَا الحَد بَلْ اتّفـقَ جَمَاعَةٌ مِنْ شِيْعَةِ العَلَوييـّنَ بِمِصْرَ وَ مِنْهُم "عَمارة اليَمَنيّ" الشّاعِرُ المَعْرُوفُ وَ "عَبْدُ الصّمد" الكَاتِبُ وَ القَاضِيْ "العُوَيْرِسِيّ" وَ دَاعِيْ الدُّعَاة "عَبْد الجَبّارِ بْن إِسْمَاعِيْل بن عَبْدِ القَوِي" وَ قَاضِيْ القُضَاةِ هِبةُ اللهِ بْنُ كَامِل وَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ صَلاحِ الدّينِ وَ جُنْدِهِ وَ اتّـفَقَ رَأْيُهُم عَلى اسْتِدْعَاءِ الفِرِنِج مِنْ "صِقِلّيةِ" وَ مِنْ سَاحِلِ الشّامِ إِلى الدِّيَارِ المِصْرِيّةِ عَلَى شَيءٍ يَبْذُلُونَهُ لَهُمْ مِنَ المَالِ وَ البِلادِ، فِإِذَا قَصَدُوا البِلادَ وَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ صَلاحُ الدِّيْنِ لمِقَاتَلَتِهم ثَارُوا هُمْ مِنَ الدَّاخِلِ فِيْ القَاهِرَةِ وَ مِصْرَ وَ أَعَادُوا الدَّوْلَةَ الفَاطِمِيَّةَ، وَ لَكِنْ مِنْ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى بِأُمّةِ الإِسْلامِ أَنْ كُشِفَ مُخَطّطَهُم قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ حَيْثُ كَانَ مِنْ ضِمْنِ مَنْ أَدْخَلَوهُ مَعَهُمْ فِيْ المُؤَامَرَةِ وَ أَطْلَعُوهُ عَلَى خَبِيْئَتِهِم الأمَيرُ زَيْنُ الدِّيْنِ عَليّ بنُ الوَاعِظِ الذِيْ أَبَتْ نَفْسُهُ أَن تَقْبَلَ بِهَذِهِ الدّنِيْئِة، وَ هَذِهِ الخَيَانَةُ فَأَخْبَرَ صَلاحَ الدّينِ بِمَا تَعَاقَدَ عَلَيه القَوْمُ فَكَافَأهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَدْعَاهُمْ وَاحَداً وَاحَدا، وَ قَرَّرَهُم بِذَلِكَ فَأقرُّوا ثُمَّ اعْتَقَلَهُم وَ اسَتَفْتَى الفُقَهَاءَ فِيْ أَمْرِهِمْ فَأفتـُوهُ بِقَتْلِهِم، فَقَتَل رُؤوسَهُم وَ أَعْيَانَهُم وَ عَفَى عَنْ أَتْبَاعِهِم وَ غُلْمَانِهِم وَ أَمَر بِنَفْيِ مَنْ بَقِيَ مِنْ جَيْشِ العُبَيْدِييـنَ إِلَى أَقْصَى البِلاد.
وَ بِذَلِكَ تَكُوْنُ مِصَر قَدْ بَدَأتْ صَفْحَةً مُنِيْرَةً مِنْ تَارِيْخِِها، إِذْ أَعَادَ صَلاحُ الدِّيْنِ البَلادَ إِلَى المَذْهَبِ السُّنّي مِنْ جَدِيد وَ أَرْجَعَ تَبَعِيَّتَهَا للدّوْلَةِ العَبّاسِيّةِ ثُمّ رَاحَ يُرَتّبُ صُفُوفَهُ مِنْ جَديدٍ وَ لولا مُشَاغَلَةُ الرّافِضَةِ لَهُ وَ مُحَاوَلَاتَهُم العَدِيدَةَ فِيْ تَدْبِيرِ المُؤْامَرَاتِ لاغْتِيَالِه لمـَا تَأخـّرَ بَعْدَ ذلَكَ النّصْرُ الكَبِيـرُ لِلأمّةِ الإِسْلامِيّةِ إلى عَامِ خمسمائة وَ ثَلاثةٍ وَ ثَمَانِينَ للهِجْرَةِ حَيْثُ انْشَغَلَ صَلاحُ الدّيْنِ بِقِتَالِ الرّافِضَةِ وَ لمـَّا تَمَكّنَ مِنَ القَضَاءِ عَلَيَهِمْ كَدَولَةٍ وَ كَقُوّةٍ اسْتَطَاعَ بَعْدَهَا أَنْ يَتَفرَّغَ لِقِتَالِ الصّليبييـنَ، وَ مِنْ ثَمَّ اسْتِعَادَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِيْ مَوْقِعَةِ "حِطّيْنَ" الفَاصِلَةِ وَ لِهَذَا كُلَّـه فِإِنّ شَخْصِيةَ صَلاحِ الدّيْنِ رَحِمَهُ الله تَعَالى بِقَدْرِ مَا هِي تُمَثّلُ الرَّمْزَ النّاصِرَ لِدِينِ اللهِ و المُجِدِّدَ لعِزّ هَذِهِ الأمّـةِ عِنْدَ أَهْلِ السّنةِ.. بِقْدرِ مَا تَغِيظَ مِنْهَا رُؤُوسُ الرّافِضَةِ وَ بِقَدْرِ مَا يُبغِضُونَ هَذِهِ الشّخْصِيّة.
|