واعلم ثبّتنا الله وإيّاك على صراطه المستقيم أن هذه البراءة والعداوة التي تقتضي ملة إبراهيم إعلانها وإبداءها لأهل الكفر ومعبوداتهم، تكلف الكثير الكثير..
فلا يظن ظان أن هذه الطريق مفروشة بالورد والرياحين أو محفوفة بالراحة والدعة، بل هي والله محفوفة بالمكاره والابتلاءات.. ولكن ختامها مسك وروح وريحان ورب غير غضبان.. ونحن لا نتمنى البلاء لأنفسنا ولا للمسلمين، ولكن البلاء هو سنة الله عز وجل في هذه الطريق، ليميز به الخبيث من الطيب، فهي الطريق التي لا ترضي أصحاب الهوى والسلطان لأنها مصادمة صريحة لواقعهم، وبراءة واضحة من معبوداتهم وشركياتهم.. أما غير هذه الطريق، فإنك تجد أصحابها في الغالب مترفين وللدنيا راكنين، لا يبدو عليهم أثر البلاء، لأن المرء إنما يبتلى على قدر دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.. وأتباع ملة إبراهيم من أشد الناس بلاء لأنهم يتبعون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله.. كما قال ورقة بن نوفل للنبي e: "لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.." رواه البخاري.. فإن رأيت في زماننا من يزعم أنه يدعو لمثل ما كان يدعو إليه النبي e وبمثل طريقته، ويدعي أنه على منهجه، ولا يعادى من أهل الباطل والسلطان، بل هو مطمئن مرتاح بين ظهرانيهم.. فانظر في حاله.. إما أن يكون ضالاً عن الطريق.. لم يأت بمثل ما جاء به النبي e واتخذ سبلاً معوجة.. أو يكون كاذباً في دعواه يتزيا بما ليس هو أهلاً أن يتزيّا به، إما لهوى مطاع وإعجاب كل ذي رأي برأيه.. أو لدنيا يصيبها كأن يكون جاسوساً وعيناً لأصحاب السلطان على أهل الدين.. وهذا الذي قاله ورقة للنبي e هو الذي كان مقرراً في نفوس الصحابة عندما بايعوا النبي e، حيث وقف أسعد بن زرارة يذكرهم ويقول: "رويداً يا أهل يثرب، إن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة، أو قتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله" رواه الإمام أحمد والبيهقي.
فتأمل هذا جيداً فإننا في أمس الحاجة إليه في هذه الأيام التي تلبس فيها كل من هبّ ودبّ بلباس الدعوة والدعاة.. فارجع إلى نفسك وزنها، واعرض عليها هذا الطريق وحاسبها على تقصيرها في ذلك، فإما أن تكون من قوم يصبرون على ذلك فخذها بحقها واسأل الله عز وجل أن يثبتك على ما يعقبها من بلاء.. أو إنك من قوم يخافون من أنفسهم خيفة ولا ترى من نفسك القدرة على القيام والصدع بهذه الملة فذر عنك التزيي بزي الدعاة وأغلق عليك بيتك وأقبل على خاصة أمرك ودع عنك أمر العامة.. أو اعتزل في شعب من الشعاب بغنيمات لك.. فإنه والله كما قال أسعد بن زرارة أعذر لك عند الله، نعم إن ذلك أعذر لك عند الله من أن تضحك على نفسك وعلى الناس إذ لا تقوى على القيام بملة إبراهيم فتتصدر للدعوة بطرق معوجة وتهتدي بغير هدي النبي e مجاملاً مداهناً للطواغيت كاتماً غير مظهر للعداوة لهم، ولا لباطلهم.. فوالله ثم والله، إن الذي يعتزل في شعب من الشعاب بغنيمات لهو خير وأهدى سبيلاً منك ساعتئذ.. وصدق من قال:
الصمت أفضل من كلام مـداهن نجس السريرة طيب الكلمـات
عرف الحقيقة ثم حاد إلى الـذي يرضي ويعجب كل طاغ عات
لا تعجبوا يا قوم ممن أخصبـوا في هذه الأيام بالكلمــــات
وعلوا المنابر والصحائف سودوا وتقدموا في سائــر الحفلات
والله ما قالوا الحقيقة والهــدى كلا ولا كــشفوا عن الهلكات
أنى يشير إلى الحقيقة راغــب في وصل أهل الظلم والشهوات
أو طالباً للجاه في عصريـــة التقديـــر للمشهور بالنزوات
فنصيحتي يا قوم ألا تطمعــوا في عصرنا بتوفر الرغبــات
عيشوا لدين الله لا لحضــارة محفوفة بالريب والشبهـــات
ولقد رأيناهم كثيراً يسخرون ممن تبينت لهم انحرافاتهم وسبلهم المعوجة، فاعرضوا عنهم وعن دعواتهم تلك التي على غير منهاج النبوة.. رأيناهم يسخرون منهم لاعتزالهم.. ويلمزونهم بالقعود والركون إلى الدنيا والتقصير في الدعوة إلى الله... وإذا كان الأمر كذلك، فأية دعوة هذه التي قصر فيها هؤلاء؟ دعوتكم هذه التي تلجون بها الجيش والشرطة، ومجالس الأمة والبرلمانات الشركية وغير ذلك من الوظائف التي تكثر سواد الظالمين، أم تلك التي تدخلون بها مجالس الفاحشة من الجامعات المختلطة والمعاهد والمدارس الفاسدة وغيرها بحجة مصلحة الدعوة فلا تظهرون دينكم الحق وتدعون فيها بغير هدي النبي e.... أم أنهم قصروا في الدعوة الحقّة التي قصر فيها الفريقان وهي (ملة إبراهيم)، ويحتجون بقول النبي e فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" ونحن نقول إن هذا الحديث في الشرق وأنتم عنه في الغرب، حيث إن المخالطة يجب أن تكون على هدي النبي e وليس تبعاً لآرائكم وأهوائكم وأساليب دعوتكم البدعية.. فإن كانت كذلك أي على هديه e حصل الأذى والأجر معاً.. وإلا فأي أجر هذا الذي ينتظره من لا يدعو بهدي النبي e وقد أهمل شرطاً عظيماً من شروط قبول العمل وهو (الاتباع)، وأي أذى ذلك الذي سيلاقيه من لا يظهر العداوة لأهل الفسق والفجور والعصيان، ولا يعلن البراءة من شركياتهم وطرائقهم المعوجة.. بل يجالسهم ويقر باطلهم ويبش في وجوههم، ولا يتمعر أو يغضب لله طرفة عين إذا انتهكوا حرمات الله، بحجة اللين والحكمة والموعظة الحسنة، وعدم تنفير الناس عن الدين، ومصلحة الدعوة وغير ذلك، ويهدم الدين عروة عروة بمعاول لينهم وحكمتهم البدعية.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالة له في الدرر السنية وهو يتكلم عن الصدع بالدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "وترك ذلك على سبيل المداهنة والمعاشرة ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين أعظم ضرراً وأكبر إثماً من تركه لمجرد الجهالة فإن هذا الصنف رأوا أن نيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك فخالفوا الرسل وأتباعهم وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم، لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبقاتهم ويسالمونهم ويستجلبون مودتهم ومحبتهم، وهذا مع أنه لا سبيل إليه فهو إيثار للحظوظ النفسانية والدعة ومسالمة الناس وترك المعاداة في الله وتحمل الأذى في ذاته وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة، فما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعاد فيه، والعقل كل العقل ما أوصل إلى رضى الله ورسوله، وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله وإيثار مرضاته، والغضب إذا انتهكت محارمه. والغضب ينشأ من حياة القلب وغيرته وتعظيمه وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم وعدم الغضب والاشمئزاز، وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته فأي خير يبقى في قلب هذا..." اهـ. من جزء الجهاد ص35.
وتجد بعضهم يضحكون على أتباعهم من الشباب ويحاربون العزلة على الإطلاق ويردّون النصوص الثابتة في ذلك.. ويتغنّون بشعر ابن المبارك رحمه الله تعالى حين أرسل إلى الفضيل يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنـا لعلمت أنّك بالعبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضـب
... إلى آخر الأبيات.
ولو أبصرهم عابد الحرمين وأبصر دعواتهم هذه المعوجة فلعله يقول: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً"...
وأنا أقول: شتان بين دعواتكم وطرائقكم هذه وبين جهاد ابن المبارك وأولئك الصالحين، حتى تنافسوا بها عبادة الصالحين.. بل وربما لو أبصر ابن المبارك دعواتهم هذه لأرسل للفضيل يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتهم لحمدت أنك بالعبادة غائب
من كان لا يدعو بهدي نبيـه فهو الجهول بدينه يتلاعب