* ثم ومع ذلك كلّه فلا بد من معرفة قضية أخيرة هنا.. وهي أن هذا الصدع بإظهار العداوة والبراءة من الكفّار المعاندين وإبداء الكفر بمعبوداتهم وباطلهم المتنوع في كل زمان، وإن كان هو الأصل في حال الداعية المسلم.. وهو صفة الأنبياء وطريق دعوتهم المستقيم الواضح.. ولن تفلح هذه الدعوات ولن يصلح مرادها وحالها ولن يظهر دين الله ولن يعرف الناس الحق إلا بالتزام ذلك واتباعه، مع ذلك يقال بأنّه إذا صدعت به طائفة من أهل الحق سقط عن الآخرين والمستضعفين منهم من باب أولى، وذلكم الصدع به، أما هو بحد ذاته فإنّه واجب على كل مسلم في كل زمان ومكان لأنّه كما أسلفنا من لا إله إلا الله التي لا يصح إسلام امرىء إلا بها، أما أن يهمل ويلغى الصدع به كلية من حساب الدعوات مع أنّه أصل أصيل في دعوات الأنبياء، فأمر غريب محدث ليس من دين الإسلام في شيء، بل دخل على هؤلاء الدعاة الذين يدعون بغير هدي النبي e بتقليدهم ومحاكاتهم للأحزاب الأرضية وطرائقها التي تدين بالتقية في كل أحوالها ولا تبالي بالمداهنة أو تتحرج من النفاق..
* واستثناؤنا هذا غير نابع من الهوى والتكتيكات العقلية بل من النصوص الشرعية النقلية الكثيرة.. والمتأمل لسيرة النبي e في عهد الاستضعاف يتجلى له ذلك واضحاً.. وانظر على سبيل المثال لا الحصر.. قصة إسلام عمرو بن عبسة السلمي في صحيح مسلم ومحل الشاهد منها قوله، قلت: "إني متبعك". قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني.. الحديث" قال النووي: "معناه قلت له إني متبعك على إظهار الإسلام هنا وإقامتي معك. فقال: لا تستطيع ذلك لضعف شوكة المسلمين ونخاف عليك من أذى كفار قريش ولكن قد حصل أجرك فابق على إسلامك وارجع إلى قومك واستمر على الإسلام في موضعك حتى تعلمني ظهرت فأتني..." أهـ. فهذا واحد قد أذن له النبي e في عدم إعلان وإظهار الدين.. لأن دين الله ودعوة النبي e كانت مشتهرة معروفة ظاهرة في ذلك الوقت ويدلك على ذلك قوله e في الحديث نفسه: "ألا ترى حالي وحال الناس".
وقصة إسلام أبي ذر في البخاري أيضاً، ومحل الشاهد منها قوله e له: "يا أبا ذر أكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل..." الحديث ومع هذا فقد صدع به أبو ذر بين ظهراني الكفّار متابعة منه لهدي النبي e وطريقته في ذلك، ومع أنهم ضربوه ليموت كما جاء في الحديث، ومع تكراره لذلك الصدع، فإن النبي e لم ينكر عليه فعله ذلك، ولا خذّله ولا قال له كما يقول دعاة زماننا إنّك بفعلك هذا ستبلبل الدعوة وستثير فتنة، وتضر مصلحة الدعوة أو أخرت الدعوة مائة سنة.. حاشاه من أن يقول مثل ذلك.. فهو قدوة الناس كافة وأسوتهم إلى يوم القيامة في هذا الطريق.. فاستخفاء بعض المستضعفين من اتباع الدعوة شيء وظهور الدين وإعلانه شيء آخر، ودعوة النبي e كانت ظاهرة معروفة مشتهرة، والكل يعرف أن أصلها وقطب رحاها الكفر بطواغيت ذلك الزمان وتوحيد العبادة بكل أنواعها لله عز وجل.. حتى أنّه ليحذر منها وتحارب بشتى الوسائل.. وما احتاج أتباعه المستضعفين أصلاً للاستخفاء والهجرة وما حصل لهم من الأذى والاستضعاف ما حصل إلا بسبب وضوح الدعوة واشتهار أصلها، ولو كان عندهم من المداهنة قليلاً مما عند أهل زماننا لما حصل لهم ذلك كله.
* وبمعرفتك لهذه النكتة تتضح لك فائدة أخرى مهمة: وهي جواز مخادعة الكفّار وتخفي بعض المسلمين بين صفوفهم أثناء المواجهة والقتال إذا ما كان الدين ظاهراً وأصل الدعوة مشتهراً.. ففي هذه الأحوال يصح الاستشهاد بحادثة قتل كعب بن الأشرف وأمثالها.. أما أن يضيع كثير من الدعاة أعمارهم في جيوش الطواغيت موالين مداهنين يحيون ويموتون وهم في خدمتهم وخدمة مؤسساتهم الخبيثة بحجة الدعوة ونصر الدين.. فيلبسوا على الناس دينهم ويقبروا التوحيد.. فهذه السبل في المغرب ودعوة النبي e وهديه عنها في أقاصي المشرق.
سارت مشرِّقةً وسرت مغرّباً شتّان بين مشرِّقٍ ومغرِّبِ
فملة إبراهيم إذاً هي طريق الدعوة الصحيحة.. التي فيها مفارقة الأحباب وقطع الرقاب.. أما غيرها من الطرائق والمناهج الملتوية والسبل المعوجة المنحرفة تلك التي يريد أصحابها إقامة دين الله دون أن يستغنوا عن المراكز والمناصب، ودون أن يغضبوا أصحاب السلطان.. أو يفقدوا القصور والنسوان والسعادة في الأهل والبيوت والأوطان، فليست من ملة إبراهيم في شيء. وإن ادعى أصحاب هذه الدعوات أنهم على منهج السلف ودعوة الأنبياء والمرسلين.. فوالله لقد رأيناهم.. رأيناهم كيف يبشون في وجوه المنافقين والظالمين بل والكفّار المحادين لله ورسوله لا لدعوتهم ورجاء هدايتهم، بل يجالسونهم مداهنةً وإقراراً لباطلهم ويصفقون لهم ويقومون لهم إكراماً يبجلونهم ويدعونهم بألقابهم.. نحو: صاحب الجلالة والملك المعظم والرئيس المؤمن وصاحب السمو بل وإمام المسلمين وأمير المؤمنين مع أنهم حرب على الإسلام والمسلمين([1]).. نعم والله لقد رأيناهم يغدو أحدهم ويروح.. يبيع دينه بأقل من جناح بعوضة.. يمسي مؤمناً يدرس التوحيد وربما درّسه ويصبح يقسم على احترام الدستور بقوانينه الكفرية، ويشهد بنزاهة القانون الوضعي.. ويكثر سواد الظالمين ويلقاهم بوجه منبسط ولسان عذب.. مع أنّهم يمرون بآيات الله الليل والنهار تنهاهم عن الركون للظالمين أو طاعتهم والرضى عن بعض باطلهم.. فهم يقرأون هذه الآيات، كقوله تعالى: )ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ([هود: 113]، وقوله عز وجل: )وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم... ( الآية [النساء: 140].
* يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في معنى قوله تبارك وتعالى: )إنكم إذاً مثلهم (، "الآية على ظاهرها وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فهو كافر مثلهم وإن لم يفعل فعلهم.." اهـ من الدرر جزء الجهاد ص79.
وقوله عز وجل: )وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ([الأنعام: 68].
* قال الحسن البصري: لا يجوز له القعود معهم خاضوا أو لم يخوضوا لقوله تعالى: )وإمّا ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ([الأنعام: 68]، وكذا قوله تعالى: )ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً ([الإسراء: 74].
* يقول الشيخ سليمان بن عبد الله: "فإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلوات الله وسلامه عليه فكيف بغيره" اهـ. من الدرر جزء الجهاد ص47.
ويقرأون قوله تعالى واصفاً المؤمنين: )والذين هم عن اللغو معرضون ([المؤمنون: 3]، وقوله: )والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مَرُّوا كِراماً ([الفرقان: 72].
ويزعمون أنهم على منهج السلف، والسلف كانوا يفرون من أبواب السلاطين ومناصبهم في عهد أرباب الشريعة والهدى لا في عهود الجور والظلمات.. ووالله ما وضع السيف على رقابهم ولا علقوا من أرجلهم وما أجبروا على ذلك.. بل فعلوه مختارين ومنحوا عليه الأموال الطائلة.. والحصانات الدبلوماسية.. فنعوذ بالله من هوى النفوس وطمس البصائر.. وليتهم أعلنوها وقالوا: فعلناها حرصاً على الدنيا.. بل يقولون مصلحة الدعوة ونصر الدين.. فعلى من تضحكون يا مساكين.. أعلينا نحن الضعفاء؟؟ فإننا وأمثالنا لا نملك لكم ضراً ولا نفعاً... أم على جبار السموات والأرضين، الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم سركم ونجواكم..
ولقد سمعناهم يرمون من خالفهم أو انكر عليهم ذلك، بضحالة الفكر وقلة الخبرة وأنهم ليس عندهم حكمة في الدعوة ولا صبر في اقتطاف الثمر أو بصيرة في الواقع والسنن الكونية.. وأنهم ينقصهم علم بالسياسة وعندهم قصور في التصورات.. وما درى هؤلاء المساكين.. أنهم لا يرمون بذلك أشخاصاً محددين، وإنما يرمون بذلك دين جميع المرسلين وملة إبراهيم.. التي من أهم مهماتها إبداء البراءة من أعداء الله والكفر بهم وبطرائقهم المعوجة وإظهار العداوة والبغضاء لمناهجهم الكافرة.. وما دروا أن كلامهم ذلك يقتضي أن إبراهيم والذين معه لم يكن عندهم حكمة بالدعوة ولا دراية بالواقع.. وأنهم كانوا متطرفين متسرعين.. مع أن الله عز وجل قد زكاهم وأمرنا بالتأسي بهم.. فقال: ) قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ([الممتحنة: 4]، وقال سبحانه: )ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً ([النساء: 125]، ونزه سبحانه إبراهيم من السفه فوصفه بالرشد فقال: )ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ([الأنبياء: 51]، ثم ذكر دعوته، بل بيّن سبحانه كما قدمنا أن ملة إبراهيم لا يرغب عنها إلا السفيه.. وأنى للسفيه حكمة الدعوة ووضوح التصورات وصحة المنهج واستقامة الطريق المزعومة..؟؟
([1]) فائدة مهمة تفضح علماء الحكومات: اعلم عافانا الله وإياك من تلبيس الملبسين أن ما يفعله كثير من الجهال وإن لقبوا بالمشايخ وتمسّحوا بالسلفية من تلقيب كثير من طغاة هذا الزمان بلقب أمير المؤمنين أو إمام المسلمين.. إنما ينهجون بذلك نهج الخوارج والمعتزلة في عدم اعتبار شرط القرشية في الإمام.. راجع في ذلك صحيح البخاري: كتاب الأحكام (باب: الأمراء من قريش)، وغيره من كتب السنة والفقه والأحكام السلطانية فإنه أمر معروف لن تجد عناء في مراجعته.. ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن القاضي عياض قوله: اشتراط كون الإمام قرشياً مذهب العلماء كافة وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيه خلاف وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار. قال: ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم في المعتزلة" اهـ (31/91).
* ثم رأيت الشيخ عبد الله أبا بطين وهو من علماء الدعوة النجدية يرد على بعض المعارضين المنكرين لتلقيب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعبد العزيز بن محمد بن سعود بلقب الإمام وهما غير قرشيين.. يقول: "ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما ادعى إمامة الأمة، وإنما هو عالم دعا إلى الهدى وقاتل عليه ولم يلقب في حياته بالإمام ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود ما كان أحد في حياته منهم يسمى إماماً، وإنما حدث تسمية من تولى إماماً بعد موتهما" أهـ. انظر الدرر جزء الجهاد ص240، فانظر إلى هذا العالم الرباني كيف يتبرأ من ذلك وينكره رغم أن المذكورين كانا من دعاة الهدى، ولا يكابر مكابرة كثير من مشايخ الحكومات في هذا الزمان الذين يصرون على تسمية طواغيتهم بالإمام وأمير المؤمنين.. فبشراهم بأنهم على نهج الخوارج سائرون.. ذلك الوصف الذي طالما رموا به طلبة العلم ودعاة الحق الذين ينابذون طواغيتهم..
ورموهمُ بغياً بما الرامي بـه أولى ليدفع عنه فعل الجاني
يرمي البري بما جناه مباهتاً ولذاك عند الغرّ يشتبهــــان
وهذا كله بالنسبة لشرط القرشية، فكيف إذا انضم إلى ذلك انعدام العدالة والعلم والحكمة وغير ذلك من شروط الإمامة؟ وكيف إذا عُدم الإسلام والإيمان؟ كيف، كيف؟