* الأولى: وهي البراءة من الطواغيت والآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل والكفر بها، فهذه لا تؤخر ولا تؤجل.. بل ينبغي أن تظهر وتعلن منذ أول الطريق.
* الثانية: البراءة من الأقوام المشركين هم أنفسهم إن أصروا على باطلهم. وإليك التفصيل والبيان:-
القضية الأولى: وهي الكفر بالطواغيت التي تعبد من دون الله عز وجل، سواء اكانت هذه الطواغيت أصناماً من حجر، أو شمساً أو قمراً، أو قبراً أو شجراً، أو تشريعات وقوانين من وضع البشر.. فملة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين تستلزم إظهار الكفر بهذه المعبودات كلها وإبداء العداوة والبغضاء لها، وتسفيه قدرها والحط من قيمتها وشأنها وإظهار زيفها ونقائصها وعيوبها منذ أول الطريق. وهكذا كان حال الأنبياء حين كانوا يبدأون دعوتهم لأقوامهم بقولهم: )اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ([النحل: 36]، ومن هذا قول الله تعالى عن الحنيف إبراهيم عليه السلام: )قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ([الشعراء: 75].
وقوله في الأنعام: )قال يا قوم إني بريء مما تشركون ([الأنعام: 78]، وقوله: )إذا قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين (.. [الزخرف: 27].
وكذا قوله سبحانه عن قوم إبراهيم: )قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ([الأنبياء: 60]. قال المفسرون: )يذكرهم ( أي يعيبهم ويستهزىء بهم ويتنقصهم. والكتاب والسنة يمتلئان بالأدلة على ذلك.. ويكفينا من ذلك هدي النبي e بمكة، وكيف كان يسفه آلهة قريش ويظهر البراءة منها والكفر بها حتى كانوا يلقبونه بالصابئ.
وإن شئت أن تتأكد من ذلك وتتيقنه فارجع وتدبر القرآن المكي، الذي ما كانت تتنزل على النبي e منه بضع آيات حتى تضرب بها أكباد المطي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وتتناقلها الألسنة في الأسواق والمجالس والنوادي.. وكانت هذه الآيات تخاطب العرب بلغتهم العربية المفهومة.. بكل وضوح وجلاء تسفه آلهتهم وعلى رأسها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أعظم الآلهة عند القوم في ذلك الزمان، وتعلن البراءة منها وعدم الالتقاء معها أو الرضى بها وما كان النبي e ليكتم شيئاً من ذلك.. إن هو إلا نذير.
فالذين يصدّرون أنفسهم للدعوة في هذا الزمان بحاجة إلى تدبر هذا الأمر جيداً ومحاسبة أنفسهم عليه كثيراً، لأن دعوة تسعى لنصرة دين الله ثم تلقي بهذا الأصل الأصيل وراءها ظهرياً لا يمكن أن تكون على منهج الأنبياء والمرسلين.. وها نحن نعايش في هذا الزمان انتشار شرك التحاكم إلى الدساتير والقوانين الوضعية بين ظهرانينا، فيلزم هذه الدعوات ولا بد، التأسي بنبيها في اتباع ملة إبراهيم بتسفيه قدر هذه الدساتير وتلك القوانين وذكر نقائصها للناس وإبداء الكفر بها وإظهار وإعلان العداوة لها ودعوة الناس إلى ذلك.. وبيان تلبيس الحكومات وضحكها على الناس.. وإلا فمتى يظهر الحق، وكيف يعرف الناس دينهم حق المعرفة، ويميزون الحق من الباطل والعدو من الولي.. ولعل الغالبية يتعذرون بمصلحة الدعوة وبالفتنة.. وأي فتنة أعظم من كتمان التوحيد والتلبيس على الناس في دينهم، وأي مصلحة أعظم من إقامة ملة إبراهيم وإظهار الموالاة لدين الله والمعاداة للطواغيت التي تعبد ويدان لها من دون الله، وإذا لم يبتل المسلمون لأجل ذلك وإذا لم تقدم التضحيات في سبيله فلأي شيء إذاً يكون البلاء.. فالكفر بالطواغيت كلها واجب على كل مسلم بشطر شهادة الإسلام.. وإعلان ذلك وإبداؤه وإظهاره واجب عظيم أيضاً لا بد وأن تصدع به جماعات المسلمين أو طائفة من كل جماعة منهم على الأقل، حتى يشتهر وينتشر ويكون هو الشعار والصفة المميزة لهذه الدعوات كما كان حال النبي e، ليس في زمن التمكين وحسب بل وفي زمن الاستضعاف، حيث كان يشار إليه بالأصابع ويحذر منه ويوصف بعداوة الآلهة وغير ذلك.. وإننا لنعجب أي دعوة هذه التي يتباكى أولئك الدعاة على مصلحتها وأي دين هذا الذي يريدون إقامته وإظهاره وأكثرهم يلهج بمدح القانون الوضعي - ويا للمصيبة - وبعضهم يثني عليه ويشهد بنزاهته وكثير منهم يقسم على احترامه والالتزام ببنوده وحدوده، عكساً للقضية والطريق فبدلاً من إظهار وإبداء العداوة له والكفر به، يظهرون الولاء له والرضى عنه، فهل مثل هؤلاء ينشرون توحيداً أو يقيمون ديناً؟! إلى الله المشتكى..
وإبداء هذا الأمر وإظهاره ليس له علاقة بتكفير الحاكم أو إصراره على الحكم بغير شريعة الرحمن.. لأنه متعلق بالدستور أو التشريع أو القانون القائم المحترم المطبق المبجل المحكم بين الناس.
- القضية الثانية: وهي البراءة من المشركين والكفر بهم وإظهار العداوة والبغضاء لهم هم أنفسهم.
* يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان: "وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله" أهـ. وينسب لشيخ الإسلام وهذه القضية -أي البراءة من المشركين- أهم من الأولى أعني (البراءة من معبوداتهم).
* يقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى في "سبيل النجاة والفكاك" عند قوله تعالى: )إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله ([الممتحنة: 4]: "وهاهنا نكتة بديعة وهي أن الله تعالى قدّم البراءة من المشركين العابدين غير الله، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله لأن الأول أهم من الثاني، فإنه إن تبرأ من الأوثان ولم يتبرأ ممن عبدها لا يكون آتياً بالواجب عليه. وأما إذا تبرأ من المشركين فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم، وكذا قوله: )وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ([مريم: 48] الآية. فقدّم اعتزالهم على اعتزال ما يدعون من دون الله. وكذا قوله: )فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله ([مريم: 49]، وقوله: )وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله ([الكهف: 16]، فعليك بهذه النكتة فإنها تفتح لك باباً إلى عداوة أعداء الله. فكم من إنسان لا يقع منه الشرك ولكنه لا يعادي أهله فلا يكون مسلماً بذلك إذ تركدين جميع المرسلين"([1]) أهـ.
* ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالة له في الدرر السنية: "والمرء قد ينجو من الشرك ويحب التوحيد، ولكنه يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم. فيكون متبعاً لهواه داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركاً من التوحيد أصولاً وشعباً لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه فلا يحب ولا يبغض لله ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسوّاه، وكل هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله" أهـ من جزء الجهاد ص681.
* ويقول أيضاً في رسالة أخرى له من الكتاب نفسه ص842: "وأفضل القرب إلى الله مقت أعدائه المشركين وبغضهم وعداوتهم وجهادهم وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك، فالحذر الحذر مما يهدم الإسلام ويقلع أساسه" أهـ.
* ويقول سليمان بن سحمان:
فمن لم يعاد المشركين ولـم يوال ولم يبغض ولم يتجنـب
فليس على منهاج سنة أحمد وليس على نهج قويم معرب
* وقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " لا بد للمسلم من التصريح بأنه من هذه الطائفة المؤمنة، حتى يقويها وتقوى به ويفزع الطواغيت، الذين لا يبلغون الغاية في العداوة حتى يصرح لهم أنه من هذه الطائفة المحاربة لهم". أهـ من مجموعة التوحيد.
* وسئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن رجل دخل هذا الدين وأحبه وأحب أهله، ولكن لا يعادي المشركين أو عاداهم ولم يكفرهم؟ فكان مما أجابا به: "من قال لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم؟ فهو غير مسلم؟ وهو ممن قال الله تعالى فيهم: )ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ([النساء: 151]. أهـ. من الدرر([2]).
* يقول سليمان بن سحمان:
فعاد الذي عـــادى لدين محمـد ووال الذي والاه من كل مهتــد
وأحبب لحب الله من كان مـؤمنـاً وأبغض لبغض الله أهــل التمرد
وما الدين إلا الحب والبغض والولا كذاك البــرا من كل غاو ومعتد
* ويقول أيضاً:
نعم لو صدقت الله فيما زعمتـه لعاديت من باللـه ويحك يكفر
وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تهاجيهـم وللـكفر تنصر
فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشــراط هنالك تذكر
مباينة الكفار في كل مـوطـن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتكفيرهم جهراً وتسفيه رأيهـم وتضليلهـم فيما أتوه وأظهروا
وتصدع بالتوحيد بين ظهورهـم وتدعوهموا سـراً لذاك وتجهر
فهذا هو الدين الحنيفي والهـدى وملة إبراهيم لـو كنـت تشعر
بالطبع لا نقول إن إظهار مثل هذه البراءة والعداوة شاملة حتى للمؤلفة قلوبهم، أو من يظهرون التقبل ولا يظهرون العداوة لدين الله، وإن كان الواجب وجودها في القلب لكل مشرك، حتى يتطهر من شركه، ولكن الكلام على الإظهار والإعلان والمجاهرة والإبداء، فهؤلاء وحتى المتجبرين والظالمين يُدعون إلى طاعة الله بالحكمة والموعظة الحسنة ابتداء فإن استجابوا فهم إخواننا نحبهم بقدر طاعتهم ولهم ما لنا، وعليهم ما علينا. وإن أبوا مع وضوح الحجة واستكبروا وأصروا على ما هم عليه من الباطل والشرك ووقفوا في الصف المعادي لدين الله، فلا مجاملة معهم ولا مداهنة.. بل يجب إظهار وإبداء البراءة منهم عند ذلك.. وينبغي التفريق هنا بين الحرص على هداية المشركين والكفار وكسب أنصار للدين واللين في البلاغ والحكمة والموعظة الحسنة وبين قضية الحب والبغض والموالاة والمعاداة في دين الله، لأن كثيراً من الناس يخلط في ذلك فتستشكل عليهم كثير من النصوص مثل: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" وما إلى ذلك.
وقد تبرأ إبراهيم من أقرب الناس إليه، لما تبين له أنه مصرّ على شركه وكفره، قال تعالى عنه: )فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ([التوبة: 114].. ذلك بعد أن دعاه بالحكمة والموعظة الحسنة، فتجده يخاطبه بقوله: )يا أبت إني قد جاءني من العلم ([مريم: 43]..)يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ([مريم: 45].. وهكذا موسى مع فرعون.. بعد أن أرسله الله إليه وقال: )فقولا له قولاً ليّنا لعله يتذكر أو يخشى ([طه: 44].. فقد بدأ معه بالقول اللين استجابة لأمر الله فقال: )هل لك إلى أن تزكّى وأهديك إلى ربك فتخشى ( وأراه الآيات والبينات.. فلما أظهر فرعون التكذيب والعناد والإصرار على الباطل، قال له موسى كما أخبر تعالى: )لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني أظنك يا فرعون مثبورا ([الإسراء: 102]. بل ويدعو عليهم قائلاً: )ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ([يونس: 88]، فالذين يدندنون على نصوص الرفق واللين والتيسير على إطلاقها ويحملونها على غير محملها، ويضعونها في غير موضعها، ينبغي لهم أن يقفوا عند هذه القضية طويلاً، ويتدبروها ويفهموها فهماً جيداً.. إن كانوا مخلصين..
([1]) مقصود الشيخ هنا والله أعلم أن لا يعاديهم ولا يبغضهم جملة وتفصيلاً حتى يفي قلبه، بل يغمر لهم بدلاً من ذلك الود والمحبة فهذا لا شك قد نقض إيمانه وترك دين جميع المرسلين، قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}.
([2]) انظر الهامش السابق.