عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 28-01-2007, 09:09 PM
الصورة الرمزية mahmoud eysa
mahmoud eysa mahmoud eysa غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: ارض الله الواسعه
الجنس :
المشاركات: 491
Question وقفات في ذكرى الهجرة

4- هجرة عياش بن أبي ربيعة درس في أن وعي الأمة يحميها من خداع أعدائها:
من الصفحات التي يجب أن تُقرَأ في كتاب الهجرة المباركة: قصة هجرة المستضعفين الذين غررت بهم قريش، واستغلت سلامة نياتهم في فتنتهم، فقراءة هذه الصفحة تحيي وتنمِّي الوعي، فتعالوا نقرأ معًا ما فعلته قريش ببعض المسلمين.

أخرج ابن إسحاق بسندٍ صحيحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، قَالَ اتّعَدْتُ لَمّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ، أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ التّناضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَوْقَ سَرِفٍ، وَقُلْنَا: أَيّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ.. قَالَ فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التّنَاضُبِ، وَحُبِسَ عَنّا هِشَام وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ (أي استجاب للكفر بعد الإسلام).

فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف بقُباءٍ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ ابْنَ عَمّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمّهِمَا، حَتّى قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَكّةَ فَكَلّمَاهُ وَقَالا: إنّ أُمَّك قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لا يَمَسَّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتّى تَرَاك، وَلا تَسْتَظِلَّ مِنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاك، فَرَقَّ لَهَا، فَقُلْت لَهُ: يَا عَيّاشُ إنّهُ وَاَللّهِ إنْ يُرِيدَك الْقَوْمُ إلاَّ لِيَفْتِنُوك عَنْ دِينِك، فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاَللّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمّك الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدْ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حَرّ مَكّةَ لَاسْتَظَلّتْ. قَالَ: فَقَالَ: أَبَرّ قَسَمَ أُمّي، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ. قَالَ: فَقُلْت: وَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ أَنّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَك نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا. قَالَ فَأَبَى عَلَيّ إلّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا. فَلَمّا أَبَى إلّا ذَلِكَ قَالَ قُلْت لَهُ: أَمّا إذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْت، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ فَإِنّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ فَالْزَمْ ظَهْرَهَا، فَإِنْ رَابَك مِنْ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا. فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاَللّهِ لَقَدْ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبَنِي عَلَى نَاقَتِك هَذِهِ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوّلَ عَلَيْهَا، فَلَمّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوا عَلَيْهِ فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ ثُمّ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ، وَفَتَنَاهُ فَافْتُتِنَ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي بِهِ بَعْضُ آلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنّهُمَا حَيْنَ دَخَلا بِهِ مَكّةَ دَخَلا بِهِ نَهَارًا مُوثَقًا، ثُمّ قَالَا: يَا أَهْلَ مَكّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا.

قَالَ: فَكُنّا نَقُولُ: مَا اللّهُ بِقَابِلٍ مِمّنْ اُفْتُتِنَ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَلَا تَوْبَةً، قَوْمٌ عَرَفُوا اللّهَ ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْكُفْرِ، لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ! قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ.

فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ ﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)﴾ (الزمر،) قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: فَكَتَبْتهَا بِيَدِي فِي صَحِيفَةٍ وَبَعَثْت بِهَا إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي، قَالَ: فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِي: فَلَمَّا أَتَتْنِي جَعَلْت أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوًى (هذا المكان يشمل اليوم: العُتَيبة، وجَرول، والطَندَباوي، ومعظم شارع المنصور) أُصَعّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا، حَتّى قُلْت: اللّهُمّ فَهّمْنِيهَا.. قَالَ: فَأَلْقَى اللّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِي أَنّهَا إنّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا، وَفِيمَا كُنّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا. قَالَ: فَرَجَعْت إلَى بَعِيرِي، فَجَلَسْت عَلَيْهِ، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ".

وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- في صلاته يدعو لهؤلاء المستضعفين والمفتونين أن ينجيهم الله، وأن يشدد على مَن فتنهم وضيَّق عليهم، فقد أخرج البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ".
إن هذه القصة وغيرها تؤكد وجوب التنبه الدائم لمحاولاتِ الأعداء فتنة الدعاة واستغلال سلامة نياتهم في الإيقاع بهم، وضرورة الحذرِ من الوقوع في الفتنة، فالمؤامرة مستمرة، والأعداء متربصون يعملون بمكر الليل والنهار لبلوغ أهدافهم وفتنة المؤمنين عن دينهم ورسالتهم، وعلى الدعاة أن يكونوا أكثر إدراكًا وأعظم وعيًا وقدرةً على إحباط هذا المكر.

4- الهجرة باقية لا تنقطع
كانت الهجرة إلى رسول- صلى الله عليه وسلم- قبل فتح مكة واجبة، فلما فتح الله مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأتت الوفود من كل صوبٍ وحَدَب تُعلن إسلامها وولاءها، وأظهر الله الإسلام، وصار المسلم يعبد ربه حيث شاء قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" (أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس).

وأخرج البخاري عنْ مُجَاشِعٍ بن مسعود- رضي الله عنه- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَأَخِي فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ. فَقَالَ: "مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا" فَقُلْتُ: عَلَامَ تُبَايِعُنَا ؟ قَالَ: "عَلَى الإِسْلامِ وَالْجِهَادِ".

وقصد صلى الله عليه وسلم بذلك الهجرة من مكة خاصة؛ لأنها قد صارت بالفتح دار إسلام، وأنها لن تكون دار كفر إلى يوم القيامة، فلا تُتصوَّر منها الهجرة وقد مضت هذه الهجرة الفاضلة لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، فلن يلحقهم في هذا الفضل لاحق، وأما الهجرة من دار الحربِ والكفرِ إلى دار الإسلام فباقية دائمة إلى يوم القيامة، إذ أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فحيثما وُجدت العلة الداعية إلى الهجرة وجبت.

فقد أخرج أحمد والنسائي وصححه ابن حبان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ- رضي الله عنه- رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالُوا لَهُ: احْفَظْ رِحَالَنَا ثُمَّ تَدْخُلُ- وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ- فَقَضَى لَهُمْ حَاجَتَهُمْ ثُمَّ قَالُوا لَهُ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ فَقَالَ: "حَاجَتُكَ؟" قَالَ: حَاجَتِي تُحَدِّثُنِي أَنْقَضَتْ الْهِجْرَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حَاجَتُكَ خَيْرٌ مِنْ حَوَائِجِهِمْ، لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوّ".

وهذا يجرنا إلى الإشارة إلى مسألةٍ كثُر الكلام عنها، وهي:
حكم الهجرة والإقامة في بلاد غير إسلامية: لا شك أنَّ المسلمَ الذي يُقيم في بلادٍ غير إسلامية ويُمنع فيها من ممارسة دينه، أو يُجبر على الردةِ عنه فإنه لا يحل له المقام بهذه البلاد لغير ضرورةٍ مشروعة.. فأما البلاد التي لا تمنع المسلم من ممارسة عبادته وشعائر دينه، والتي لا تلزمه بالتخلي عن دينه وإيمانه، كما هو الحال في أمريكا وأوربا واليابان وغيرها، فلا بأسَ بالإقامة في تلك البلاد، خصوصًا للذين يستمسكون بدينهم ولا ينزلقون في الفتنة عنه، ويجتهدون في تربيةِ أجيالهم الناشئة على دين الحق، خصوصًا أيضًا أن المواثيق الدولية التي صدقت عليها أغلب بلدان العالم تُعطي كل إنسانٍ الحق في ممارسة دينه بلا إكراه، كما أن التواصل الإنساني اليوم يوجب على الأمة- وبخاصة أصحاب الدين والمشروع الإصلاحي- أن يكون لها حضورٌ قوي على المستوى الدولي من خلال الجاليات الإسلامية في تلك البلدان، وتدعيمها وتوجيهها ليكون لها دورٌ قوي في التقارب الإنساني، وفي نشر القيم الفاضلة النبيلة، التي تكاد العولمة الأمريكية الحديثة أن تعصف بها، وليتذكر إخواننا الذين يعيشون في تلك البلاد للدراسة أو للعمل أو لغير ذلك أنهم حملة رسالة الخير والنور، وأن من واجبهم العمل على إسعاد البشرية بنشر قيم الحق والخير التي جاء بها الإسلام الحنيف، كما فعل سلفهم التجار في بلاد شرق آسيا من قبل.

كما أن على الجاليات المسلمة أن تكون مجتهدة في تقديم الخير لتلك البلاد، وفي محو الصورة الذهنية السلبية التي يجتهد أعداء الإسلام في ترويجها، لتفزيع الناس من دين الحق وتخويفهم من رسالة الهدى والنور؛ وذلك من خلال تقديم صورة عملية لأخلاق الإسلام ومعاملاته الكريمة.. وتلك مهمة والله جليلة عظيمة، ولربما أقول: هي نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله بمعناه الواسع الكريم لو صدقت النية في جلب المنافع للأمة ودفع المضار عنها، وإظهار الوجه المشرق للإسلام، مما يدعو الآخرين للدخول في دين الله أفواجًا.

5- المعاني الباقية للهجرة
يبقى أيها الإخوة الكرماء أن نتذكر الهجرة المعنوية المستمرة الدائمة التي لا ينبغي أن ينفك عنها المسلم، والتي قال عنها الإمام ابن قيم الجوزية في الرسالة التبوكية: "إنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وإنه لا انفكاكَ لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد، إذ الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم من بلدٍ إلى بلدٍ، وهذه أحكامها معلومة.

والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن "من" و"إلى"، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذلِ والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له".

وقال رحمه الله عن هذه الهجرة في (طريق الهجرتين وباب السعادتين): "هجرةٌ إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار في كل نَفَس إليه.

وهجرةٌ إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفضيل محابِّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها، لا زاد المعاد".

وهاك بعض هذه المعاني الباقية الدائمة:
1- الجهاد في سبيل الله بنية خالصة: كما في أحاديث ابن عباس ومجاشع بن مسعود وعبد الله السعدي رضي الله عنه السابقة.

وأخرج النسائي بسند رجاله ثقات عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ مُهَاجِرٌ؟ قَالَ: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".

وأخرج البخاري وغيره عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، فَسَأَلْنَاهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ: "لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلَامَ، وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".

وأخرج البخاري عَنْ مُجَاهِدٍ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُهَاجِرَ إِلَى الشَّأْمِ. قَالَ: "لاَ هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ، فَانْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئًا وَإِلاَّ رَجَعْتَ".

وأخرج أحمد والنسائي وصححه ابن حبان عن يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ- رضي الله عنه- قَالَ: جِئْتُ رَسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- بِأَبِي أُمَيَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بَايِعْ أَبِي عَلَى الْهِجْرَةِ. فَقَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُبَايِعُهُ عَلَى الْجِهَادِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ".
قال النووي في شرح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن جهاد ونية" معناه: أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة، ولكن حَصّلوه بالجهاد والنية الصالحة.


2- التوبة النصوح الصادقة وهجر الخطايا والسيئات قبل طلوع الشمس من مغربها:
أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن معاوية- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا".

وأخرج أحمد بسند رجاله ثقات عن عبد الله بْنِ السَّعْدِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتَلُ" فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ، وَالأُخْرَى: أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ، وَلا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ الْمَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ".

وهذا هو هجر السوء والسيئات والخطايا والذنوب الوارد في الأحاديث المختلفة.

فقد أخرج البخاري وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْه".
قال ابن حجر في فتح الباري: "خصّ المهاجر بالذكر تطييبًا لقلب مَن لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة، فأعلمهم بأنَّ مَن هجر ما نهى الله عنه كان هو المهاجرَ الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيهًا للمهاجرين أن لا يتَّكلوا على الهجرة، فيقصِّروا في العمل".
وفي رواية عنه عند النسائي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ".


وأخرج ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ"، وأخرج الطبراني بسند رجاله ثقات وصححه ابن حبان عَنْ صَالِحِ بن بَشِيرِ بن فُدَيْكٍ، أَنَّ جَدَّهُ فُدَيْكًا أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: "أَقِمِ الصَّلاةَ، وَائْتِ الزَّكَاةَ، واهْجُرِ السُّوءَ، وَاسْكُنْ بَيْنَ أَرْضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْتَ".

3- إنفاق المال في سبيل الله:
فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنْ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: "وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟" قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: "فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا".

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: في حديث أبي سعيد: فضل أداء زكاة الإبل، ومعادلة إخراج حق الله فيها لفضل الهجرة، فإن في الحديث إشارةً إلى أن استقراره بوطنه إذا أدَّى زكاة إبله يقوم له مقام ثواب هجرته وإقامته بالمدينة".

6- فوائد أخرى
إن حدث الهجرة مليء بالدروس والعبر النافعة، نُشير في ختام هذه الرسالة إلى بعضها:
1- ضرورة الاهتمام ببيوت الدعاة: حتى تكون على مستوى المسئولية المنوطة بها، وأمامنا بيت أبي بكر الصديق نموذجٌ فريدٌّ لما ينبغي أن تكون عليه بيوت الدعاة، فقد شارك جميع أفراد هذا البيت في هذا الأمر الجليل الخطير- أمر الهجرة- وكانوا جميعًا على مستوى المسئولية رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، وكان أبو بكر- رضي الله عنه- على تمامِ الوعي ببيته، والثقة بأهله وبما غرسه في نفوس الجميع من حب الدعوة والداعية، وافتدائه بالنفس والمال، ولما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أخرج عني من عندك". قال: "إنما هم أهلك يا رسول الله".

2- إقامة الدولة الإسلامية العالمية: ينبغي أن يكون هدف الدعاة الأساسي والرئيسَ الذي يملأ قلوبهم وعقولهم، وتنطلق على أساسه حركتهم في الحياة، وأن يكون هذا هو المحور الذي تدور حوله الأهداف المرحلية الأخرى القريب منها والبعيد، والتي يقف على رأسها العملُ على إيجاد كيان سياسيٍّ وعسكريٍّ، يحمي الدعوةَ ويهيء لها سبيل الانطلاق، ويعينها على تفادي العقبًات والمعوِّقات، حتى تصل إلى غاياتها السامية.. وهذا ما بدا واضحًا أنه الدافع الرئيس للهجرة التي لم تكن أبدًا فرارًا ولا هربًا، وإنما كانت تحوُّلاً في المواقع يتيح للدعوة إقامة الدولة حاملة لواء الدعوة، وبناء الجيش المدافع عنها.

3- الوطن في الإسلام هو وطن العقيدة قبل أن يكون وطن المولد والنشاة: ومع أن الإسلام يزكي معاني الحب للأوطان ويراعي أنه فطرة مركوزة في النفوس، فإنه يُحذِّر من أن يكون ذلك سببًا للقعود عن الجهاد، وفي الإخلاد إلى الأرض، ويوجه المسلم إلى التضحية به، واستبدال الأرض الحاضنة للدعوة به، بل وحبّها عليه، ولهذا كان- صلى الله عليه وسلم- يقول حين يسمع من أصحابه المهاجرين حنينًا إلى مكة: "اللهم حبِب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد".

4- أهمية دور العقيدة والدين في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح: وهو دورٌ لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تضطلع به، وها أنت ترى كيف جمعت العقيدة بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عشرات السنين، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة جد قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها. ثم ها أنت ترى ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس.

ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة.

5- التأكيد على أهمية دور الشباب في الأحداث الكبرى في تاريخ الأمة: وقد برزت في الهجرة أسماء شابة كثيرة نذكر منها: مصعب بن عمير، وأسعد بن زرارة الأنصاري أصغر المبايعين سنًّا، وعلي بن أبي طالب الفدائي الذي نام في فراش المهاجر الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي بكر الذي اضطلع بمهمة المخابرات، وعامر بن فهيرة، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين.

6- التأكيد على أهمية دور المرأة المسلمة في الأحداث الكبرى: وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد، منها: عائشة بنت أبي بكر التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلَّغتها للأمة، وأسماء ذات النطاقين، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، وأم منيع أسماء بنت عمرو الأنصارية، اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة مع السبعين، وغيرهن كثير رضي الله عنهن أجمعين.

7- التأكيد على شمولية الإسلام والإيمان به دينًا شاملاً ينتظم أمور الدنيا والآخرة: وهذا ما أكدته بنود البيعتين في العقبة الأولى والثانية، فهو ليس عبادات فقط، ولا أخلاقًا فاضلةً فقط، وإنما هو دين شامل كامل يوجب على مَن يعلن الإيمان به: عبادةَ الله وحده لا شريك له بما أمر وكما أمر، وترك كافة الرذائل التي حرَّمها من السرقة والزنى وقتل الأولاد وافتراء البهتان على العباد ومعصية الله ورسوله، ويلزمه بالسمع والطاعة في العسر واليسر والنشاط والكسل، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق من غير أن تأخذه في الله لومة لائم، وبنصرته والدفاع عنه في مواجهة من يقصده بسوء.

تلك كانت بعض الفوائد والدروس، والحدثُ الكريمُ مليء بغيرها من الطيب الكريم، والله المسئول أن ينفعنا بها، وأن يُوفقنا لما يحب ويرضى.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.71 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]