رعاية الله تعالى للخليل عليه السلام وحمايته من شر الأعداء
د. أحمد خضر حسنين الحسن
في هذا المطلب نتحدث عما جرى للخليل عليه السلم عندما أُلقي في النار، فكفاه الله شرَّها وشرَّ أعدائه، كما أن الله حمى عرضه من أن ينتهك عندما دخل مصر، وأما قصة إلقائه في النار، فقد وردت في موضعين من القرآن الكريم، وهما سورتا الصافات والأنبياء، وسوف نتناول ما ورد في سورة الأنبياء باختصار: قال تعالى: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 70].
مجمل كلام أهل التفسير في هذه الآيات:
لما تبيَّن للقوم سوءُ فعلهم، وقلة حِيلتهم في دفع حجج إبراهيم المتهادرة عنهم؛ إذ "قد دحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهَر الحق، واندفع الباطل، عدَلوا عندئذ إلى استعمال جاهِ مُلكهم، فقالوا: ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًّا؛ قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفِيَتْ أن تَحمِل حطبًا لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض، وأضرموها نارًا، فكان لها شررٌ عظيم ولهب مرتفع، لم توقَدْ قط نارٌ مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كِفة المنجنيق.
فلما ألقَوه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"؛ كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]".
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأما من الله فبلى.
قال الله - عز وجل -: ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، وقال كعب الأحبار: ولم تَحرق النار من إبراهيم سوى وَثاقِه.
قال في أضواء البيان:
فالكيد الذي أرادوه به: إحراقه بالنار نصرًا منهم لآلهتهم في زعمهم، وجعله تعالى إياهم الأخسرين؛ أي الذين هم أكثر خسرانًا لبُطلان كيدهم وسلامته من نارهم.
وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضًا في سورة " الصافات" في قوله: ﴿ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴾ [الصافات: 98]، وكونهم الأسفلين واضح، لعلوِّه عليهم وسلامته من شرهم، وكونهم الأخسرين؛ لأنهم خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وأما حماية الله تعالى لعرض الخليل عليه السلام من أن يُنتهك عندما دخل مصر، فهي قصة مشهورة ذكرها الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ما مُلخصه:
أن إبراهيم عليه السلام لما قدِم بلاد مصر، عَلِمَ أن فيها ملكًا جبَّارًا، فخاف على زوجه ونفسه، فقال لها: "إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك، فإن سأل فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرك"، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، فأتاه فقال له: "لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك"، فأمر جنوده فسُلبت من إبراهيم عَنوة، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة لائذًا بالله سبحانه وتعالى يدعو ربه عز وجل أن يحفَظ له زوجه، وهل له وسيلة أخرى غير الدعاء في مثل هذه المواقف، وأن يسأل الله تعالى الذي نجَّاه من النار أن يحفَظه كذلك من وصمة العار، فأدخلها الطاغوت إلى قصره فلما رآها لم يتمالك أن بسط يده إليها، لهتْك عرضها والاعتداء على شرفها، وهي لا تملك حولًا ولا قوة لتُدافع بها عن نفسها، فلما بسط يده إليها قُبضت يده قبضة شديدة، فقال لها: "ادْعي الله أن يطلق يدي ولا أضرُّك"، ففعلت ذلك، فعادت يده سليمة كما كانت، ثم عاد إلى فَعلته الأولى، وكذلك عادة الغدَّارين، فلما بسط يده إليها، قبضت أشدَّ من القبضة الأولى، فقال لها مثل المرَّة الأولى، فدعت الله عز وجل أن يطلق يده، فعادت يده كما كانت، ثم عاد إلى فَعلته القبيحة - قبَّح الله وجهه - فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين، فقال: "ادْعي الله أن يطلق يدي، فلك الله ألا أَضُرَّك"، ففعلت، وأطلقت يده، ثم دعا الرجل الذي جاء بها إليه، فقال له: "إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطِها هاجر تَخدمها".
فعادت سارة معها هاجر إلى إبراهيم عليه السلام وهو يصلي، فأومأ بيده أن ما الخبر، فقالت: "كفَّ الله يد الفاجر في نحره، وأخدم هاجر، قال أبو هريرة في نهاية الرواية: فتلك أمُّكم يا بني ماء السماء.