عرض مشاركة واحدة
  #59  
قديم اليوم, 03:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,895
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثالث
صـــ 130 الى صـــ 139
(59)






وأما النذر بالعبادات البدنية فإما أن يضيفه إلى مكان أو زمان أما إذا أضافه إلى زمان بأن قال: لله علي أن أصوم رجب فصام شهرا قبله أجزأه عن المنذور في قول أبي يوسف، وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وفي قول محمد وزفر لا يجزئه وكذلك لو قال: لله علي أن أعتكف رجب فاعتكف شهرا قبله أو قال: لله علي أن أصلي ركعتين غدا فصلى اليوم فهو على هذا الخلاف وجه قول محمد وزفر رحمهما الله أن ما يوجبه العبد على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بعينه لا يجوز تعجيله على ذلك الوقت كصوم رمضان، وكذلك ما أوجب الله تعالى عليه من الصلاة في وقت بعينه كصلاة الظهر لا يجوز تعجيلها قبل الزوال فكذلك ما يوجبه على نفسه، وبه فارق الصدقة؛ لأن بالنذر بالصوم جعل ما هو المشروع في الوقت نفلا واجبا بنذره ولهذا لا يصح إضافة النذر بالصوم إلى الليل؛ لأن الصوم غير مشروع فيه نفلا والمشروع من الصوم في وقت غير المشروع في وقت آخر ونذره تعلق بالصوم المشروع في الوقت المضاف إليه حتى يتأدى فيه بمطلق النية وبالنية قبل الزوال ولو لم يتعين صوم ذلك الوقت بنذره لما تأدى إلا بالنية من الليل كما لو أطلق النذر بالصوم وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى إن الناذر يلتزم بنذره الصوم دون الوقت؛ لأن معنى القربة في الصوم باعتبار أنه عمل بخلاف هوى النفس، وإنما يلزم بالنذر ما هو قربة وتعيين الوقت غير مفيد في هذا المعنى فلا يكون معتبرا كما في الصدقة ولا يقال: الصوم في بعض الأوقات قد يكون أعظم في الثواب كما ورد به الأثر في صوم الأيام البيض وفي صوم بعض الشهور
والأيام؛ لأن بالإجماع النذر لا يتقيد بالفضيلة التي في الوقت المضاف إليه حتى لو نذر أن يصوم يوم عرفة أو يوم عاشوراء فصام بعد مضي ذلك اليوم يوما دونه في الفضيلة فإنه يخرج عن موجب نذره.
وهذا بخلاف صوم رمضان وصلاة الظهر؛ لأن الشرع جعل شهود الشهر سببا لوجوب الصوم قال الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] ومثل هذا لبيان السبب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من بدل دينه فاقتلوه ومن ملك ذا رحم محرم فهو حر» وكذلك الشرع جعل زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر قال الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] فإذا أدى قبل ذلك الوقت كان مؤديا قبل وجود سبب الوجوب فلهذا لا يجوز أما هنا الناذر لم يجعل الوقت بنذره سببا للوجوب؛ لأنه ليس للعباد ولاية نصب الأسباب فيكون السبب متقررا قبل مجيء الوقت المضاف إليه وإن كان وجوب الأداء متأخرا فلهذا جاز التعجيل، وهو نظير المسافر في شهر رمضان إذا صام كان مؤديا للفرض وإن كان وجوب الأداء متأخرا في حقه إلى عدة من أيام أخر والحرف الثاني أنه أدى العبادة بعد وجود سبب وجوبها قبل وجوبها فيجوز كما لو كفر بعد الجرح قبل زهوق الروح في قتل المسلم أو في قتل الصيد وبيان الوصف أن هذه عبادة تضاف إلى النذر لا إلى الوقت يقال صوم النذر والواجبات تضاف إلى أسبابها والإضافة إلى وقت لا يمنع كونه نذرا في الحال بدليل أن التعجيل في النذر بالصدقة يجوز بالاتفاق وما لم يوجد السبب لا يجوز الأداء هناك كما لو علق النذر بالشرط وبعد وجود السبب يجوز التعجيل ماليا كان أو بدنيا كما في كفارة القتل وكما لو صام المسافر في شهر رمضان يجوز لوجود السبب وهو شهود الشهر فإذا ثبت هنا أن السبب، وهو النذر متقرر قلنا يجوز تعجيل الأداء وفي جواز التعجيل هنا منفعة للناذر فربما لا يقدر على الأداء في الوقت المضاف إليه لمرض أو غيره وربما تخترمه المنية قبل مجيء ذلك الوقت إلا أنه بالإضافة إلى ذلك الوقت قصد التخفيف على نفسه حتى لو مات قبل مجيء ذلك الوقت لا يلزمه شيء فأعطيناه مقصوده واعتبرنا تعيينه في هذا الحكم وجوزنا التعجيل لتوفير المنفعة عليه كما في الصدقة إذا عين الدراهم فهلكت تلك الدراهم لم يلزمه شيء ولو تصدق بمثلها وأمسكها خرج عن موجب نذره وإذا ثبت اعتبار التعيين من هذا الوجه قلنا يجوز الأداء بمطلق النية وبالنية قبل الزوال؛ لأن تعيينه معتبر فيما يرجع إلى النظر له وفي التأدي بمطلق النية قبل الزوال معنى النظر له فاعتبرنا تعيينه في هذا الحكم.
وأما إذا عين
المكان بأن قال: لله علي أن أصوم شهرا بمكة أو أعتكف فصام أو اعتكف في غير ذلك المكان خرج عن موجب نذره عندنا، وقال زفر: لا يخرج عن موجب نذره وكذلك لو قال: لله علي أن أصلي ركعتين بمكة فصلاهما هنا أجزأه عندنا خلافا لزفر والأصل عنده أنه لا يخرج عن موجب نذره إلا بالأداء في المكان الذي عينه أو في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه وأفضل البقاع لأداء الصلاة فيها المسجد الحرام ثم مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثم مسجد بيت المقدس على ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة في مسجد بيت المقدس تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجدي هذا، وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في مسجد بيت المقدس وصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي هذا».
فإذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام ركعتين لا يجوز أداؤهما إلا في ذلك الموضع عنده، وإن نذر أن يصلي ركعتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أداؤهما إلا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو في المسجد الحرام وإذا نذر الصلاة في مسجد بيت المقدس لا يجوز أداؤها إلا في أحد هذه المساجد الثلاثة، ولا يجوز أداؤها في غير هذه المساجد في سائر البلاد وإذا نذر الصلاة في المسجد الجامع لا يجوز أداؤها في مسجد المحلة وإذا نذر الصلاة في مسجد المحلة يجوز أداؤها في المسجد الجامع، ولا يجوز أداؤها في بيته واعتمد في ذلك ما روي «أن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت لرسول الله: - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ركعتين في البيت فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها وأدخلها الحطيم وقال: صلي ههنا فإن الحطيم من البيت» الحديث فهذا دليل اعتبار تعيينه المكان في النذر بالصلاة «وجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أصلي ركعتين في مسجد بيت المقدس فقال: من صلى في مسجدي هذا فكأنما صلى في بيت المقدس» فهو دليل على جواز الأداء في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه؛ ولأن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن لبعض الأمكنة فضيلة على البعض وكذلك لبعض الأزمنة فإذا عين لنذره مكانا ثم أدى في مكان دون ذلك المكان في الفضيلة فإنما يقيم الناقص مقام الكامل مع قدرته على الأداء بصفة الكمال كما التزمه فلا يجوز، وإن أدى في مكان هو أفضل من المكان الذي عينه فقد أدى أتم مما التزمه فيجزئه ذلك.
ألا ترى أنه لو نذر أن يصوم يوما فصام بالنية قبل الزوال لا يخرج عن موجب نذره؛ لأن المؤدى
أنقص مما التزمه وهذا بخلاف ما إذا أضاف النذر إلى وقت فاضل فمضى ذلك الوقت؛ لأن هناك قد تحقق العجز عن الأداء بالصفة التي التزمه، ولهذا لم يجوز زفر التعجيل على ذلك الوقت؛ لأن العجز لا يتحقق قبل مجيء ذلك الوقت، وحجتنا في ذلك أن صحة النذر باعتبار معنى القربة، وذلك في الصلاة لا في المكان؛ لأن الصلاة تعظيم لله تعالى بجميع البدن، وفي هذا المعنى الأمكنة كلها سواء، وإن كان الأداء في بعض الأمكنة أفضل فذلك لا يدل على أن الواجب لا يتأدى بدون ذلك كما في أداء المكتوبات، ولا شك أن أداء الصلاة بالجماعة في المسجد أفضل وقد أمر شرعا بالأداء بهذه الصفة ومع ذلك إذا أداها في بيته وحده سقط عنه الواجب، ولما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثواب المتطوع بالصلاة في هذه المساجد، قال: وأفضل ذلك كله صلاة الرجل في بيته في جوف الليل الآخر ثم عنده لو التزم صلاة في بعض هذه البقاع فصلاها في بيته لم يجز، ولما «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل صلاة المرأة فقال: في أشد مكان من بيتها ظلمة» فعلى هذا ينبغي أنها إذا التزمت الصلاة في المسجد الحرام فصلت في أشد مكان من بيتها ظلمة أن تخرج عن موجب نذرها، وعند زفر - رحمه الله تعالى - لا تخرج والذي يوضح ما قلنا أن الناذر إنما يلتزم بنذره ما هو من فعله لا ما ليس من فعله، والمكان ليس من فعله فيكون هو بالنذر ملتزما للصلاة دون المكان، وفي أي موضع صلى فقد أدى ما التزمه فيخرج عن موجب نذره، وإن كان الأداء في الموضع الذي عينه أفضل
(قال): وإن قال: لله علي أن أصوم شهرا متتابعا فأفطر يوما في الشهر استقبل الشهر من أوله؛ لأن ما يوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم متتابعا إذا أفطر فيه يوما لزمه الاستقبال كصوم الظهار والقتل فكذلك ما يوجبه على نفسه بخلاف ما إذا أطلق النذر بالصوم فإن ما أوجب الله تعالى عليه من الصوم مطلقا، وهو قضاء رمضان إذا أفطر فيه يوما لا يلزمه الاستقبال فكذلك ما يوجبه على نفسه.
(قال): ولو قال: لله علي أن أصوم رجب متتابعا فأفطر فيه يوما فعليه قضاء ذلك اليوم وحده؛ لأن ما يوجبه على نفسه من الصوم في وقت بعينه معتبر بما أوجب الله عليه من الصوم في وقت بعينه وهو صوم رمضان، وهذا؛ لأن ذكر التتابع في شهر بعينه غير معتبر؛ لأن المعين لا يعرف إلا بصفته، وإنما ذكر الصفة لتعريف ما ليس بمعين فيعتبر ذلك عند إطلاق لفظ الشهر ولا يعتبر عند التعيين؛ لأن أيام الشهر المعين تكون متجاورة لا متتابعة فذكر التتابع
في الشهر المعين وجوده كعدمه وكذلك لو قال: لله علي أن أصوم شهرا وهو يعني رجب بعينه؛ لأن المنوي من محتملات لفظه فيجعل كالمصرح به وفي الكتاب أشار إلى فرق آخر فقال: في الشهر المعين إذا أفطر يوما فقد عجز عن أداء الصوم على الوجه الذي التزمه؛ لأنه لو استقبل الصوم لم يكن مؤديا في ذلك الوقت الذي أوجبه على نفسه وعند إطلاق الشهر بعد ما أفطر يوما هو قادر على أن يصوم شهرا متتابعا كما التزمه فلهذا أوجبنا عليه الاستقبال.
(قال): وإن أراد بقوله لله علي يمينا كفر عن يمينه مع قضاء ذلك اليوم في الشهر المعين؛ لأن المنوي من محتملات لفظه فإن في النذر معنى اليمين قال: - صلى الله عليه وسلم - «النذر يمين» وكفارته كفارة اليمين: وقد حنث حين أفطر يوما فعليه الكفارة والقضاء؛ لأن ظاهر كلامه نذر وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وأما عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - إن أراد به اليمين فعليه الكفارة دون القضاء وإن أراد النذر أو أرادهما فعليه القضاء دون الكفارة؛ لأن لفظه للنذر حقيقة ولليمين مجازا ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ولكنا نقول: قوله لله علي يمين فإن اللام والباء يتعاقبان قال الله: {آمنتم به} [يونس: 51] وفي موضع آخر قال {آمنتم له} [طه: 71] فقوله لله بمنزلة قوله بالله وقال: ابن عباس - رضي الله عنه - دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج معناه بالله وقوله علي نذر فإنما أثبتنا كل واحد من الحكمين بلفظ آخر ثم الحالف يلتزم البر حقا لله تعالى والناذر يلتزم الوفاء حقا لله تعالى فكان اللفظ محتملا لكل واحد منهما لا أن يكون حقيقة لأحدهما مجازا للآخر فيكون بمنزلة اللفظ العام إلا أن عند الإطلاق يحمل على النذر لغلبة الاستعمال فإذا نوى اليمين مع ذلك كان اللفظ متناولا لهما بمنزلة اللفظ العام في كونه متناولا لجميع محتملاته.
(قال): ولو قال: لله علي صوم يوم فأصبح من الغد لا ينوي صوما فلم تزل الشمس حتى نوى أن يصومه عن نذره لم يجزه ذلك بخلاف ما إذا قال: لله علي صوم غدا؛ لأن ما يوجبه على نفسه في الوجهين معتبر بما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بعينه وهو صوم رمضان يتأدى بالنية قبل الزوال وما كان في وقت بغير عينه لا يتأدى إلا بنية من الليل نحو قضاء رمضان فكذلك ما يوجب على نفسه في الوجهين، وهذا لمعنيين أحدهما أن عند تعيين اليوم إمساكه في أول النهار يتوقف على الصوم المنذور عند وجود النية فإذا وجدت النية قبل الزوال استندت إلى أول النهار لتوقف الإمساك عليه، وذلك لا يوجد فيما إذا أطلق النذر والثاني أن في النذر المعين إذا ترك النية من الليل فقد تحقق عجزه
عن أدائه بصفة الكمال كما التزمه فجوزناه بضرب نقصان بطريق إقامة النية في أكثر النهار مقام النية في جميع النهار لأجل العجز، وذلك لا يوجد فيما إذا لم يعين الوقت فإنه قادر على أن يصوم يوما آخر بصفة الكمال كما التزمه ثم هنا ذكر النية قبل الزوال، وفي كتاب الصوم قبل انتصاف النهار، وهو الصحيح؛ لأن الشرط وجود النية في أكثر وقت الصوم، وذلك لا يوجد إذا نوى قبل الزوال؛ لأن ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت الصوم من طلوع الفجر فإنما يشترط وجود النية في وقت الضحوة على وجه تكون النية موجودة في أكثر وقت الصوم فإذا نوى بالنهار في النذر المطلق لم يجزه عن المنذور، وكان صائما عن التطوع والمستحب له أن يتمه فإن أفطر فلا قضاء عليه عندنا.
وقال زفر: - رحمه الله تعالى - القضاء وأصل المسألة فيما إذا شرع في الصوم على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه وقد بينا ذلك في كتاب الصوم وإنما شبهنا هذه المسألة بتلك المسألة؛ لأن في الموضعين جميعا إنما قصد إسقاط الواجب عن نفسه وما قصد التنفل بالصوم، وإنما جعل شارعا في النفل من غير قصده على سبيل النظر له لكي لا يضيع سعيه لا على سبيل الإيجاب عليه فإذا أفطر لم يلزمه القضاء.
(قال): ولو قال: لله علي أن أصوم غدا ثم أصبح فنوى أن يصوم تطوعا فإنه يكون صومه مما أوجبه على نفسه بخلاف ما إذا أطلق النذر وهذا للأصل الذي بيناه أن ما أوجب الله في وقت بعينه، وهو صوم رمضان يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بغير عينه لا يتأدى إلا بتعيين النية فكذلك ما أوجبه على نفسه وهذا؛ لأن الناذر لا يجعل بنذره ما ليس بمشروع مشروعا، ولكن يجعل ما كان مشروعا نفلا في الوقت واجبا على نفسه ففي النذر المعين إنما التزم الصوم المشروع في هذا الزمان، وقد أصابه بمطلق النية وبنية النفل ألا ترى أنه قبل النذر كان مصيبا له بهذه النية فكذلك بعد النذر، وعند إطلاق النذر الواجب في ذمته، والمشروع في هذا اليوم غير متعين لما هو الواجب في ذمته فإنما يكون بمطلق النية وبنية النفل مصيبا للمشروع في هذا الوقت، وهو التطوع فلا يكون محولا عن ذمته ما التزمه فيها إلى المشروع في هذا الوقت بدون تعيين النية.
(قال): ولو قال: لله علي أن أصوم رجب ثم ظاهر من امرأته فصام شهرين متتابعين: أحدهما: رجب أجزآه من الظهار كما نواه، وعليه قضاء المنذور بخلاف ما إذا صام عن ظهاره شهرين أحدهما: رمضان وهو مقيم فإن صومه
يكون عن فرض رمضان، وأشار إلى الفرق بينهما في الكتاب فقال: لأن صوم الظهار مثل صوم المنذور من حيث إن كل واحد منهما وجب بسبب من جهته فعن أيهما نواه كان عن ذلك، وأما صوم رمضان أقوى من صوم الظهار؛ لأنه واجب بإيجاب الله تعالى ابتداء، وصوم الظهار إنما وجب بسبب من جهة العبد، والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي فلهذا كان صومه عن فرض رمضان على كل حال ولكن هذا ليس بقوي فإنه لا مساواة بين صوم الظهار وصوم المنذور؛ لأن المنذور هو المشروع في رجب نفسه، وصوم الظهار واجب في ذمته فينبغي أن يترجح المنذور باعتبار السبق؛ لأن صوم الظهار إنما يتحول من ذمته إلى المشروع في الوقت بنيته، وقد كان النذر سابقا على هذه النية؛ لأن المشروع في الوقت لما صار واجبا عليه بنذره لا يبقى صالحا لصوم الظهار؛ لأن ما في ذمته إنما يتأدى بما كان مشروعا في الوقت له لا عليه فالفرق الصحيح بينهما أن قبل نذره كان الصوم المشروع في رجب صالحا لأداء صوم الظهار فلا يتغير ذلك بنذره؛ لأنه يوجب على نفسه بنذره ما لم يكن واجبا عليه ولكن لا ينفي صلاحيته لغيره إذ ليس ذلك تحت ولاية العبد فإذا بقي بعد نذره صالحا لأداء صوم الظهار به تأدى بنيته، وأما صوم رمضان فقد جعله الشرع فرضا عليه ومن ضرورته أن لا ينفي صالحا لأداء صوم الظهار به، وللشرع هذه الولاية فإذا لم يبق صالحا لأداء صوم الظهار به تلغو نيته عن الظهار به وانتفاء الصلاحية من ضرورة وجوب الأداء عن فرض رمضان حتى إن في حق المسافر لما لم يكن الأداء في الشهر واجبا عليه فإذا نواه عن الظهار كان عن الظهار في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، ومسألة النذر بمنزلة المسافر في صوم رمضان ثم في مسألة النذر إذا كان نوى اليمين لم تلزمه الكفارة؛ لأن شرط بره أن يكون صائما في رجب لا أن يكون صومه عن المنذور، وقد وجد ذلك وإن صامه عن الظهار.
(قال): والمجنونة والنائمة إذا جامعهما زوجهما وهما صائمتان في رمضان فعليهما القضاء دون الكفارة؛ لأن وجوب الكفارة يستدعي جناية متكاملة فإنها ستارة للذنب ولم يوجد ذلك في حقهما ووجوب القضاء لانعدام أداء الصوم في الوقت، وقد وجد ذلك في حقهما فإن الصوم لا يتأدى مع فوات ركنه وقد انعدم ركن الصوم في حقهما مع قيام العذر وقد بينا خلاف زفر - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة في كتاب الصوم.
(قال): هنا ألا ترى أنهما لو قتلا رجلا خطأ لم يكن عليهما في ذلك كفارة ولا تحرمان الميراث (قال) : - رحمه الله تعالى -
وهذا صحيح في حق المجنونة غلط في حق النائمة فالرواية محفوظة أن النائم إذا انقلب على مورثه فقتله تلزمه الكفارة ويحرم الميراث ثم هذا الاستشهاد ضعيف فإن كفارة القتل لا تستدعي جناية متكاملة، ولهذا تجب على الخاطئ بخلاف كفارة الفطر.
(قال): وإذا خاف الرجل وهو صائم إن هو لم يفطر تزداد عينه وجعا أو تزداد حماه شدة فينبغي أن يفطر؛ لأن الله تعالى رخص للمريض في الفطر بقوله {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] وهذا مريض؛ لأن وجع العين نوع مرض والحمى كذلك ثم إن الله تعالى بين المعنى فيه فقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وفي إيجاب أداء الصوم مع هذا الخوف عسر فينبغي له أن يأخذ باليسر فيه ويترخص بالفطر قال: - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه» وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - كل من كان له أن يفطر في يوم فأفطر فيه بعد ما صام فلا كفارة عليه، وهذا قول أصحابنا جميعا؛ لأن صوم اليوم الواحد لا يتجزأ وجوبا كما لا يتجزأ أداء فإذا لم يكن الأداء واجبا في جزء من النهار لا تتكامل الجناية بالفطر فيه؛ ولأن الكفارة في رمضان تسقط بالشبهة، ولهذا لا تجب على المتسحر الذي لا يعلم بطلوع الفجر، وعلى المفطر الذي يرى أن الشمس قد غابت ولم تغب وإباحة الفطر له في جزء من اليوم يكون شبهة قوية في المحل فإنه ينعدم بها استحقاق الأداء ولا شبهة أقوى من ذلك، والشبهة في المحل مسقطة للكفارة سواء علم بها أو لم يعلم ألا ترى أن من وطئ جارية ابنه لا يلزمه الحد سواء علم بالحرمة أو لم يعلم لشبهة في المحل باعتبار أن مال الولد مضاف إلى والده شرعا وبيان هذا الأصل أنه إذا أصبح مريضا أو مسافرا في أول النهار، ونوى الصوم ثم برأ من مرضه أو صار مقيما ثم أفطر فلا كفارة عليه؛ لأنه كان له أن يفطر في أول النهار وكذلك لو كان صحيحا مقيما في أول النهار ثم مرض في آخره فأفطر؛ لأنه لما عجز عن الصوم بسبب المرض صار الفطر مباحا له.
ولو سافر في آخر النهار ثم أفطر لم يكن عليه الكفارة لا؛ لأن الفطر صار مباحا له فإنه إذا شرع في الصوم وهو مقيم ثم سافر لا يباح له الفطر ولكن؛ لأن السفر في الأصل مبيح للفطر فإذا اقترن بالسبب الموجب للكفارة يكون مورثا شبهة مسقطة للكفارة، وإن لم يصر الفطر مباحا له بمنزلة النكاح الفاسد يكون مسقطا للحد وإن لم يكن مبيحا للوطء، وخرج على هذا الأصل ما إذا أصبحت المرأة صائمة ثم أفطرت ثم حاضت أو أصبح الرجل صائما ثم أفطر ثم مرض وقد بينا هذه
المسائل في كتاب الصوم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
[باب ما يجب فيه القضاء والكفارة وما يجب فيه القضاء دون الكفارة]
باب ما يجب فيه القضاء والكفارة وما يجب فيه القضاء دون الكفارة وما يجوز من الشهادة على رؤية الهلال وما لا يجوز (قال) : - رضي الله عنه - ومن ابتلع جوزة رطبة وهو صائم فعليه القضاء ولا كفارة عليه، وإن ابتلع لوزة رطبة أو بطيخة صغيرة فعليه القضاء والكفارة، والأصل في هذا أنه متى حصل الفطر بما لا يتغذى به أو يتداوى به عادة فعليه القضاء دون الكفارة؛ لأن وجوب الكفارة يستدعي كمال الجناية والجناية تتكامل بتناول ما يتغذى به أو يتداوى به لانعدام الإمساك صورة ومعنى، ولا تتكامل الجناية بتناول ما لا يتغذى به، ولا يتداوى به؛ لأن الإمساك ينعدم به صورة لا معنى؛ لأن الكفارة مشروعة للزجر والطباع السليمة تدعو إلى تناول ما يتغذى به وما يتداوى به لما فيه من إصلاح البدن فتقع الحاجة إلى شرع الزاجر فيه ولا تدعو الطباع السليمة إلى تناول ما لا يتغذى به ولا يتداوى به فلا حاجة لشرع الزاجر فيه إذا عرفنا هذا فنقول: الجوزة الرطبة لا تؤكل كما هي عادة واللوزة الرطبة تؤكل كما هي عادة، وهذا إذا ابتلع الجوزة فأما إذا مضغها، وهي رطبة أو يابسة فعليه الكفارة ذكره الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لأنه تناول لبها ولب الجوز مما يتغذى به، وأكثر ما فيه أنه جمع بين ما يتغذى به، وبين ما لا يتغذى به في التناول، وذلك موجب للكفارة عليه.
وإذا ابتلع إهليلجة فعليه القضاء والكفارة أراد به الدواء أو لم يرد هكذا ذكره ابن سماعة وهشام عن محمد رحمهم الله تعالى وذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أن عليه القضاء دون الكفارة قال: لأنها لا تؤكل كما هي للتداوي عادة والأصح ما ذكره هنا فإن الإهليلجة مما يتداوى به فسواء أكلها على الوجه المعتاد أو على غير الوجه المعتاد قلنا أنه تجب عليه الكفارة، وكذلك إن أكل مسكا أو غالية أو زعفرانا فعليه القضاء والكفارة؛ لأن هذه الأشياء تؤكل عادة للتغذي أو للتداوي.
وذكر الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لو أكل عجينا لا تلزمه الكفارة؛ لأن العجين لا يؤكل عادة قبل الطبخ، ولا يدعو الطبع إلى تناوله وهكذا ذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى وقال: لو أكل الدقيق أيضا لا تلزمه الكفارة؛ لأنه يصير عجينا في فمه قبل أن يصل إلى جوفه.
(قال): ولو أكل حنطة يجب عليه القضاء
والكفارة؛ لأن الحنطة تؤكل كما هي عادة فإنها ما دامت رطبة تؤكل وبعد اليبس تغلى فتؤكل وتقلى فتؤكل.
(قال): ولو أكل طينا أرمنيا فعليه الكفارة ذكره ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى قال: لأنه بمنزلة الغاريقون يتداوى به قال ابن رستم: فقلت: له فإن أكل من هذا الطين الذي يأكله الناس قال: لا أعرف أحدا يأكله، وفي رواية أخرى عن محمد - رحمه الله تعالى - أنه لا تلزمه الكفارة في الطين الأرمني أيضا إذا أكله كما هو إلا أن يسويه على الوجه المعتاد الذي يتداوى به والأول أصح
(قال): ومن أفطر في شهر رمضان بعذر والشهر ثلاثون يوما فقضى شهرا بالأهلة، وهو تسعة وعشرون يوما فعليه قضاء يوم آخر لقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] ففي هذا بيان أن المعتبر في القضاء إكمال العدة بالأيام
(قال): ولو شهد رجل واحد برؤية هلال رمضان وبالسماء علة قبلت شهادته إذا كان عدلا وقد بينا هذه المسألة في كتاب الصوم والاستحسان وشرط في الكتاب أن يكون الشاهد عدلا والطحاوي يقول: عدلا كان أو غير عدل قيل مراده أنه يكتفي بالعدالة الظاهرة ولا يشترط أن يكون الشاهد عدلا في الباطن وقيل إنما لا تشترط العدالة في هذا الموضع لانتفاء التهمة؛ لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم غيره وإنما لا يقبل خبر الفاسق لتمكن التهمة والأصح اشتراط العدالة فيه؛ لأن هذا من أمور الدين ولهذا يكتفى فيه بخبر الواحد وخبر الفاسق في باب الدين غير مقبول بمنزلة رواية الحديث عن رسول الله. - صلى الله عليه وسلم -
(قال): وأما على الفطر فلا تقبل إلا شهادة رجلين إذا كان بالسماء علة وأشار في بعض النوادر إلى الفرق فقال: المتعلق بهلال رمضان هو الشروع في العبادة، وخبر الواحد فيه مقبول كما لو أخبر بإسلام رجل والمتعلق بهلال شوال الخروج من العبادة، وذلك لا يثبت إلا بشهادة رجلين كما في الشهادة على ردة المسلم، وأشار هنا إلى فرق آخر فقال: المتعلق بهلال شوال ما فيه منفعة للناس وهو الترخص بالفطر فيكون هذا نظير الشهادة على حقوق العباد والمتعلق بهلال رمضان محض حق الشرع، وهو الصوم الذي هو عبادة يؤخذ فيها بالاحتياط فلهذا يكتفى فيه بخبر الواحد إذا كان بالسماء علة، وهذا صحيح على ما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنهم يصومون بخبر الواحد ولا يفطرون إذا لم يروا الهلال، وإن أكملوا العدة ثلاثين يوما بدون التيقن بانسلاخ رمضان للأخذ بالاحتياط في الجانبين فأما ابن سماعة يروي عن محمد - رحمه الله تعالى - إنهم يفطرون إذا أكملوا العدة ثلاثين يوما؛ لأن صوم الفرض في رمضان لا يكون
أكثر من ثلاثين يوما وقال: ابن سماعة فقلت لمحمد كيف يفطرون بشهادة الواحد قال: لا يفطرون بشهادة الواحد بل بحكم الحاكم؛ لأنه لما حكم بدخول رمضان وأمر الناس بالصوم فمن ضرورته الحكم بانسلاخ رمضان بعد مضي ثلاثين يوما والحاصل أن الفطر هنا مما تفضي إليه الشهادة لا أنه يكون ثابتا بشهادة الواحد، وهو نظير شهادة القابلة على النسب فإنها تكون مقبولة ثم يفضي ذلك إلى استحقاق الميراث، والميراث لا يثبت بشهادة القابلة ابتداء ويستوي إن شهد رجل أو امرأة على شهادة نفسه أو على شهادة غيره حرا كان أو عبدا محدودا في القذف أو غير محدود بعد أن يكون عدلا في ظاهر الرواية بمنزلة رواية الأخبار فإن الصحابة كانوا يقبلون رواية أبي بكرة بعد ما أقيم عليه حد القذف وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا تقبل شهادة المحدود في القذف على رؤية الهلال، وإن حسنت توبته؛ لأنه محكوم بكذبه شرعا قال الله تعالى: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13] فإذا كان المتهم بالكذب، وهو الفاسق غير مقبول الشهادة هنا فالمحكوم بكذبه كان أولى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]