عرض مشاركة واحدة
  #58  
قديم اليوم, 03:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,895
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثالث
صـــ 120 الى صـــ 129
(58)






(ولنا) أن الاعتكاف يدوم بالليل والنهار جميعا فبمطلق ذكر الشهر فيه يكون متتابعا كاليمين إذا حلف لا يكلم فلانا شهرا والآجال والإجارات بخلاف الصوم فإنه لا يدوم بالليل والنهار وتأثيره أن ما كان متفرقا في نفسه لا يجب الوصل فيه إلا بالتنصيص وما كان متصل الجزاء لا يجوز تفريقه إلا بالتنصيص ثم الاعتكاف من حيث الابتداء يشبه الصوم فإن أداءه يستدعي فعلا من جهته وكل وقت لا يصلح له كاليوم الذي أكل فيه بخلاف الأيمان فإن بموجب اليمين لا يستدعي فعلا من جهته، وكل وقت يصلح له فيتعين له الوقت الذي يعقب السبب ومن حيث الدوام الاعتكاف يشبه الأيمان والآجال دون الصوم فصار الحاصل أن الأيمان والآجال والإجارات عامة في الوقت ابتداء ودواما، والصوم خاص بالوقت ابتداء ودواما والاعتكاف خاص بالوقت ابتداء عام بالوقت دواما فمن حيث الابتداء ألحقناه بالصوم فكان تعيين الوقت إليه ومن حيث الدوام ألحقناه بالآجال والأيمان فكان متتابعا، وكذلك لو قال: في نذره ثلاثين يوما فهذا وقوله شهرا سواء؛ لأن ذكر أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر قال الله تعالى: {ثلاث ليال سويا} [مريم: 10] وفي تلك القصة قال: في موضع آخر {ثلاثة أيام إلا رمزا} [آل عمران: 41] فقوله ثلاثين يوما أي بلياليها فكان متتابعا
(قال): وإذا قال: لله علي اعتكاف شهر بالنهار فهو كما قال إن شاء تابع وإن شاء فرق؛ لأن وجوب التتابع لاتصال بعض الأجزاء بالبعض وقد انقطع ذلك بتنصيصه على النهار دون الليالي وإن لم يقل بالنهار ونواه فنيته باطلة؛ لأن الشهر اسم لقطعة من الزمان من حين يهل الهلال إلى أن يهل الهلال فليس في لفظه الشهر ولا الليالي فإنما نوى تخصيص ما ليس في لفظه، وذلك باطل كمن قال: لا آكل ونوى مأكولا دون مأكول؛ ولأن هذا استثناء لبعض الوقت الذي سماه والاستثناء بالنية لا يحصل كما لو قال: شهرا ونوى نصف شهر بخلاف ما لو قال: ثلاثين يوما ونوى النهار دون الليل؛ لأن هنا إنما نوى حقيقة كلامه فإن اليوم في الحقيقة هو بياض النهار
فلهذا أعملنا نيته أو؛ لأنه نوى تخصيص ما في لفظه.
(قال): وإن قال: لله علي اعتكاف شهر كذا فمضى، ولم يعتكفه فعليه قضاؤه؛ لأن إضافة النذر بالاعتكاف إلى زمان بعينه كإضافة النذر بالصوم إليه فيلزمه أداؤه، واذا فوت الأداء فعليه قضاؤه وهذا في شهر سوى رمضان مجمع عليه.
فأما إذا قال: لله علي اعتكاف شهر رمضان فمضى ولم يعتكف فإن كان لم يصم في الشهر لمرض أو سفر قضى اعتكافه بقضاء صوم الشهر وإن كان صام الشهر فعليه اعتكاف شهر بصوم وعند زفر والحسن بن زياد رحمهما الله تعالى لا شيء عليه وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - ووجهه أن اعتكافه تعلق بصوم رمضان فإذا صام رمضان ولم يعتكف بقي الاعتكاف بغير صوم، والاعتكاف الواجب لا يكون إلا بصوم وجه ظاهر الرواية أن نذره قد صح وتعلق بالزمان الذي عينه فإذا لم يعتكف فيه انقطع هذا التعيين وصار دينا في الذمة فكأنه قال: لله علي اعتكاف شهر والتزام الاعتكاف يكون التزاما لشرطه، وهو الصوم ولهذا قلنا لو اعتكف في رمضان القابل قضاء عما التزمه لا يجوز وعليه كفارة اليمين إن كان أراد يمينا لوجود شرط حنثه وإن اعتكف ذلك الشهر الذي سماه إلا أنه أفطر منه يوما قضى ذلك اليوم؛ لأن الشهر المتعين متجاور الأيام لا متتابع فصفة التتابع في الاعتكاف لا تثبت إلا إذا أضافه إلى شهر بعينه.
(قال): وإذا نذرت المرأة اعتكاف شهر فحاضت فيه فعليها أن تقضي أيام حيضها وتصلها بالشهر فإن لم تصلها به فعليها أن تستقبله؛ لأن هذا القدر من التتابع في وسعها وما سقط عنها معلوم بأنه ليس في وسعها ولهذا قلنا لو نذرت اعتكاف عشرة أيام فحاضت فيها فعليها الاستقبال.
(قال): وإذا اعتكف الرجل من غير أن يوجبه على نفسه فهو معتكف ما أقام في المسجد وإن قطعه فلا شيء عليه؛ لأنه لبث في مكان مخصوص فلا يكون مقدرا باليوم كالوقوف بعرفة وهذا؛ لأن المقصود تعظيم البقعة، وذلك يحصل ببعض اليوم وقد ينافي هذا رواية الحسن.
(قال): واذا اعتكف في مسجد فانهدم فهذا عذر، ويخرج منه إلى مسجد آخر؛ لأن المسجد المهدوم لا يمكن المقام فيه؛ ولأنه خرج من أن يكون معتكفا فالمعتكف مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة ولا يتأتى ذلك في المسجد المهدوم فكان عذرا في التحول إلى مسجد آخر.
(قال): ولا بأس بأن يشتري المعتكف ويبيع في المسجد ويتحدث بما بدا له بعد أن لا يكون مأثما فإن «النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحدث مع الناس في اعتكافه» وصوم الصمت ليس بقربة في
شريعتنا والبيع والشراء من جنس الكلام المباح فلا بأس به للمعتكف قالوا: وهذا إذا لم يحضر السلعة إلى المسجد فأما إحضار السلعة إلى المسجد للبيع والشراء في المسجد مكروه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «جنبوا مساجدكم» إلى قوله «وبيعكم وشراءكم»؛ ولأن بقعة المسجد تحررت عن حقوق العباد وصارت خالصة لله تعالى فيكره شغلها بالبيع والتجارة بخلاف ما إذا لم يحضر السلعة فقد انعدم هناك شغل البقعة.
(قال): واذا أخرجه السلطان من المسجد مكرها في اعتكاف واجب فإن دخل مسجدا آخر كما تخلص؛ استحسنا أن يكون على اعتكافه وفي القياس عليه الاستقبال وكذلك لو أخذه غريم فحبسه وقد خرج لغائط أو بول من أصحابنا من قال: هذا القياس والاستحسان على قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - والأصح أن عند أبي حنيفة يلزمه الاستقبال وهذا الاستحسان والقياس على قولهما فيما إذا كان خروجه أكثر من نصف يوم وجه القياس أن ركن الاعتكاف، وهو اللبث قد فات فيستوي فيه المكره والطائع كما إذا فات ركن الصوم بالإكراه على الأكل وجه الاستحسان أنه معذور فيما صنع فإنه لا يمكنه مقاومة السلطان ولا دفع الغريم عن نفسه إلا بإيصال حقه إليه فلم يصر بهذا تاركا تعظيم البقعة، ولم يذكر القياس والاستحسان فيما إذا انهدم المسجد، فقال: بعض مشايخنا الجواب فيهما سواء والأصح أن هناك لا يفسد اعتكافه قياسا واستحسانا؛ لأن العذر كان ممن له الحق إذ لا صنع للعباد في انهدام المسجد، وهنا العذر كان من جهة العباد فلهذا كان القياس فيه أن يستقبل.
(قال): وإذا أوجب على نفسه الاعتكاف يوما دخل المسجد قبل طلوع الفجر فأقام فيه إلى أن تغرب الشمس؛ لأنه التزم الاعتكاف في جميع اليوم واليوم اسم للوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بدليل الصوم.
(قال): وإن أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس لما بينا أن الشهر اسم لقطعة من الزمان، وذلك يشتمل على الأيام والليالي، ومتى دخل في اعتكافه الليل مع النهار فابتداؤه يكون من الليل؛ لأن الأصل أن كل ليلة تتبع اليوم الذي بعدها ألا ترى أنه يصلي التراويح في أول ليلة من رمضان ولا يفعل ذلك في أول ليلة من شوال، واليوم الذي بعد ليلته زمان الاعتكاف فكذلك الليلة وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - قال: في شهر بعينه كذلك يدخل في المسجد قبل غروب الشمس فأما في شهر بغير عينه فالخيار إليه إن شاء دخل المسجد قبل طلوع الفجر، وإن شاء قبل غروب الشمس وهو أفضل.
(قال): وإن أوجب اعتكاف
يومين دخل المسجد قبل غروب الشمس فأقام فيه ليلة ويومها والليلة الأخرى ويومها إلى أن تغرب الشمس وكذلك هذا في الأيام الكثيرة أما إذا ذكر ثلاثة أيام أو أكثر فالجواب في قولهم جميعا أن ذكر أحد العددين بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر فأما إذا ذكر يومين فقد روي عن أبي يوسف أنه يلزمه اعتكاف يومين بليلة تتخللهما فإنما يدخل المسجد قبل طلوع الفجر قال: لأن التثنية غير الجمع فهذا والمذكور بلفظ الفرد سواء إلا أن الليلة المتوسطة تدخل بضرورة اتصال بعض الأجزاء بالبعض وهذه الضرورة لا توجد في الليلة الأولى وجه ظاهر الرواية أن في المثنى معنى الجمع قال: - صلى الله عليه وسلم - «الاثنان فما فوقهما جماعة» فكان هذا والمذكور بلفظ الجمع سواء ألا ترى أنه لو قال: ليلتين صح نذره بخلاف ما إذا قال: ليلة واحدة
(قال): واذا جامع المعتكف امرأته في الفرج فسد اعتكافه سواء جامعها ليلا أو نهارا ناسيا كان أو عامدا أنزل أو لم ينزل لقوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] فصار الجماع بهذا النص محظور الاعتكاف فيكون مفسدا له بكل حال كالجماع في الإحرام لما كان محظورا كان مفسدا للإحرام، وقد ذكر ابن سماعة في روايته عن بعض أصحابنا أنه إذا كان ناسيا لا يفسد اعتكافه قال: الاعتكاف فرع عن الصوم والفرع يلحق بالأصل في حكمه فإن باشرها فيما دون الفرج فإن أنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد اعتكافه، وقد أساء فيما صنع وللشافعي - رحمه الله تعالى - ثلاثة أقاويل قول مثل قولنا، وقوله الآخر أنه لا يفسد اعتكافه وإن أنزل كما لا يفسد الإحرام بالمباشرة فيما دون الفرج وإن أنزل فإنهما متقاربان على معنى أن كل واحد منهما يدوم بالليل والنهار والقول الثالث أنه يفسد اعتكافه وإن لم ينزل لظاهر الآية فإن اسم المباشرة يتناول الجماع فيما دون الفرج كما يتناول الجماع في الفرج فصار ذلك محظور الاعتكاف بالنص وجه قولنا أن المباشر فيما دون الفرج إذا اتصل به الإنزال مفسد للصوم والاعتكاف فرع عليه، وهو في معنى الجماع في الفرج فيما هو المقصود فيفسد اعتكافه فأما إذا لم يتصل به الإنزال فهو ليس في معنى الجماع في الفرج ولا ملحق به حكما في إفساد العبادة ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم فكذلك الاعتكاف، وهذا كله إذا لم يخرج من المسجد فإن خرج لهذا الفعل فسد اعتكافه بالخروج في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - على ما بينا
(قال): فإذا أوجب على نفسه اعتكافا ثم مات قبل أن يقضيه أطعم عنه لكل يوم نصف صاع من حنطة، وهذا إذا أوصى؛ لأن الاعتكاف
فرع عن الصوم وقد بينا في الصوم حكم الفدية فكذلك في الاعتكاف فإن قيل الفدية عن الصوم غير معقول ولا هو ثابت بطريق القياس فكيف قستم الاعتكاف عليه والعجب أن في الصلاة قلتم مثل هذا ولا مدخل للقياس فيه قلنا: أما في الاعتكاف فالجواب عن هذا السؤال سهل؛ لأن صحة النذر بالاعتكاف باعتبار الصوم فإن ما لا أصل له في الفرائض لا يصح التزامه بالنذر فكان التنصيص على الفدية في الصوم تنصيصا عليه في الاعتكاف وأما في الصلاة فلم يطلق الجواب في شيء من الكتب على الفدية مكان الصلاة، ولكن قال: في موضع من الزيادات يجزيه ذلك إن شاء الله تعالى فبتقييده بالاستثناء بيان أنه لا يثبت الجواب فيه إذ لا مدخل للقياس فيه.
(قال): وإن كان مريضا حين نذر الاعتكاف فلم يبرأ حتى مات فلا شيء عليه؛ لأنه ليس للمريض ذمة صحيحة في وجوب أداء الصوم والاعتكاف بناء عليه ألا ترى أنه لا يلزمه أداء صوم رمضان بشهوده الشهر فكذلك لا يلزمه الأداء بالنذر، والفدية تنبني على وجوب الأداء وإن صح يوما ثم مات أطعم عنه عن جميع الشهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمه الله تعالى - وفي قول محمد - رحمه الله تعالى - يطعم عنه بعدد ما صح من الأيام وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: لما صح فقد صارت له ذمة صحيحة في التزام الأداء فيجعل كالمجدد للنذر في هذا الوقت، والصحيح لو نذر اعتكاف شهر ثم مات بعد يوم أطعم عنه لجميع الشهر إن أوصى يجبر الوارث عليه من الثلث، وإن لم يوص لم يجبر الوارث عليه، ولكنه إن أحب فعل فكذلك هذا.
(قال): وإن نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء، وروي عن أبي يوسف أنه إن نوى ليلة بيومها يلزمه وليس بينهما اختلاف في الحقيقة ولكن جواب محمد - رحمه الله تعالى - فيما إذا لم تكن له نية فاسم الليل خاص بزمان لا يقبل الصوم وشرط الاعتكاف الواجب الصوم فإذا نوى ليلة بيومها عملت نيته اعتبارا للفرد بالجمع فصار شرط الاعتكاف وهو الصوم بنيته موجودا فصح نذره.
(قال): ولو أصبح في يوم ثم قال: لله علي أن أعتكف هذا اليوم فإن كان قد أكل فيه أو كان بعد الزوال لم يلزمه شيء؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى وقت لا يقبل الصوم في حقه وإن كان قبل الزوال ولم يكن أكل شيئا فعلى قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - لا يصح نذره وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يصح نذره، وهو بناء على ما تقدم بيانه أن القليل من الخروج يفسد الاعتكاف عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وعندهما الخروج فيما دون نصف اليوم لا يفسد
الاعتكاف وما هو الشرط، وهو الصوم يصح منه في هذا اليوم.
(قال): وإن نذر اعتكاف وقت ماض، وهو يعلم أو لا يعلم فلا شيء عليه؛ لأن ما يوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى، ولم يتعبد الله بشيء من العبادات في الزمان الماضي وصحة الأداء باعتبار إمكان الأداء وذلك لا يتحقق في الزمن الماضي.
(قال): وإن أحرم المعتكف بحج أو عمرة لزمه الإحرام؛ لأنه لا منافاة بين الاعتكاف والإحرام ثم يتم اعتكافه ويشرع فيه وأداء المناسك يحتمل التأخير عن الإحرام فإذا فرغ منه مضى في إحرامه إلا أن يخاف فوت الحج فحينئذ يدع الاعتكاف ويحج؛ لأن ما يخاف فوته يكون أهم فيبدأ به ثم يستقبل الاعتكاف؛ لأنه قد لزمه بالنذر متتابعا فإذا انقطع التتابع لخروجه كان عليه أن يستقبله.
(قال): وإن أوجب على نفسه اعتكافا ثم ارتد والعياذ بالله ثم أسلم سقط عنه الاعتكاف اعتبارا لما التزمه بما أوجب الله تعالى وشيء من العبادات التي كانت واجبة عليه لحق الله تعالى خالصا لا يبقى بعد الردة؛ لأنه بالردة خرج من أن يكون أهلا للعبادة فإن الأهلية للعبادة بكونه أهلا لثوابها والمرتد ليس بأهل لثواب العبادة؛ لأنه بالردة التحق بكافر أصلي فإن الردة تحبط عمله والكافر الأصلي إذا أسلم لم يكن عليه اعتكاف ما لم يلتزمه بنذره بعد الإسلام فهذا مثله.
(قال): وإذا نذر المملوك اعتكافا صح نذره؛ لأن له ذمة صحيحة في التزام الأداء إلا أن لمولاه أن يمنعه منه؛ لأن منافعه مستحقة للمولى إلا ما صار مستثنى شرعا وذلك مقدار ما تتأدى به الفرائض فلا يدخل فيه ما يلتزمه من الاعتكاف باختياره فكان للمولى منعه فإذا أعتق قضاه وكذلك الزوج له أن يمنع امرأته0 من الاعتكاف الذي التزمته بنذرها؛ لأن منافعها مستحقة للزوج بعقد النكاح، وأما المكاتب فليس لمولاه منعه؛ لأنه صار أحق بنفسه ومنافعه والذي بينا في النذر كذلك في الشروع فإن كان بإذن المولى والزوج فليس للزوج منع زوجته من الإتمام وللمولى منع عبده وإن كان لا يستحب له ذلك؛ لأن الزوج بالإذن ملكها منافعها، وهي من أهل الملك والمولى بالإذن ما ملك العبد منافعه؛ لأنه ليس من أهل الملك ولكنه وعد فالوفاء له وخلف الوعد مذموم فلا يستحب له منعه فإن فعل لم يكن عليه شيء غير أنه قد أساء وأثم، وهو قياس الإحرام فإن المرأة إذا أحرمت بإذن زوجها لم يكن للزوج أن يحللها والعبد إذا أحرم بإذن مولاه كان للمولى أن يحلله وإن كره له ذلك.
(قال): وإذا أكل المعتكف نهارا ناسيا لم يضره الأكل؛ لأن حرمة الأكل لأجل الصوم لا لأجل الاعتكاف حتى اختص
بوقت الصوم والأكل ناسيا لا يفسد الصوم بخلاف ما إذا جامع ناسيا فحرمة الجماع لأجل الاعتكاف حتى يعم الليل والنهار جميعا وقد بينا أن ما كانت حرمته لأجل الاعتكاف يستوي فيه الناسي والعامد بالقياس على الإحرام ومعنى الفرق أنه متى اقترن بحاله ما يذكره لا يبتلى فيه بالنسيان عادة فيعذر لأجله ففي الإحرام هيئة المحرمين مذكرة له وفي الاعتكاف كونه في المسجد مذكرا له فأما في الصوم لم يقترن بحاله ما يذكره؛ لأنه غير ممنوع عن التصرف في الطعام في حالة الصوم ألا ترى أن في الأكل في الصلاة سوى بين النسيان والعمد؛ لأنه ليس من جنس أركان الصلاة.
(قال): وإذا أغمي على المعتكف أياما أو أصابه لمم فعليه إذا برئ أن يستقبل الاعتكاف؛ لأن ما هو شرط الأداء وهو الصوم قد انعدم بتطاول الإغماء فعليه الاستقبال فإن صار معتوها ثم أفاق بعد سنين ففي القياس ليس عليه قضاء الاعتكاف كما لا يلزمه قضاء الفرائض لسقوط الخطاب عنه بالعته وفي الاستحسان عليه القضاء؛ لأن سبب الالتزام تقرر قبل العته فكان بمنزلة الفرائض التي لزمته بتقرر السبب قبل العته وهذا؛ لأنه بالعته لم يخرج من أن يكون أهلا للعبادة فإنه أهل لثوابها فبقيت ذمته صالحة للوجوب فيها فيما تقرر سببه
(قال): ويلبس المعتكف وينام، ويأكل، ويدهن ويتطيب بما شاء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك كله في اعتكافه
(قال): ولا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال فإن حرمة هذه الأشياء ليس لأجل الاعتكاف ألا ترى أنه كان محرما قبل الاعتكاف ولا يفوت به ركن الاعتكاف، وهو اللبث ولا شرطه، وهو الصوم وكذلك إن سكر ليلا لما بينا أن حرمة السكر ليست لأجل الاعتكاف فلا يكون مؤثرا فيه
(قال): وصعود المعتكف على المئذنة لا يفسد اعتكافه أما إذا كان باب المئذنة في المسجد فهو والصعود على سطح المسجد سواء وإن كان بابها خارج المسجد فكذلك من أصحابنا من يقول: هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - فينبني أن يفسد اعتكافه للخروج من المسجد من غير ضرورة والأصح أنه قولهم جميعا واستحسن أبو حنيفة هذا؛ لأنه من جملة حاجته فإن مسجده إنما كان معتكفا لإقامة الصلاة فيه بالجماعة، وذلك إنما يتأتى بالأذان وهو بهذا الخروج غير معرض عن تعظيم البقعة أصلا بل هو ساع فيما يزيد في تعظيم البقعة فلهذا لا يفسد اعتكافه.
(قال): ولا بأس بأن يخرج رأسه من المسجد إلى بعض أهله ليغسله لما روي أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - في اعتكافه كان يخرج رأسه إلى عائشة فكانت تغسله وترجله»؛ لأنه بإخراج رأسه لا يصير خارجا من المسجد فإن من حلف
لا يخرج من هذه الدار فأخرج رأسه منها لم يحنث وإن غسل رأسه في المسجد في إناء فلا بأس بذلك إذ ليس فيه تلويث المسجد، وذكر حديث عائشة أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يعتكف أصبح في المكان الذي يريد أن يعتكف فيه» ففي هذه دليل على أن من أراد اعتكاف يوم أو نذر ذلك ينبغي أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر وقد بينا هذا.
(قال): وإن نذر اعتكاف يوم العيد قضاه في وقت آخر وكفر عن يمينه إن كان أراد يمينا، وإن اعتكف فيه أجزأه وقد أساء وهذا عندنا اعتبارا للاعتكاف بالصوم وقد بينا هذه الأحكام في النذر بصوم يوم العيد فكذلك الاعتكاف.
وذكر محمد - رحمه الله - في الأصل حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف في العشر الأوسط من رمضان فأتاه جبرائيل - عليه السلام - فقال: إن ما تطلبت وراءك فقال: - عليه السلام - من كان معتكفا معنا فليعد إلى معتكفه وإني أراني أسجد في ماء وطين فقال أبو سعيد: فمطرنا وكان عريش المسجد من جريد فوكف فو الذي بعثه بالحق لقد صلى بنا المغرب ليلة الحادي والعشرين وإني أرى جبهته وأرنبة أنفه في الماء والطين» وإنما أورد هذا الحديث لبيان ليلة القدر وفيه اختلاف بين الصحابة والعلماء بعدهم فأما أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - كان مذهبه أن ليلة القدر الحادي والعشرون لهذا الحديث، ولم يأخذ به علماؤنا لما صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من فاته ثلاث ليال فقد فاته خير كثير ليلة التاسع عشر والحادي والعشرين وآخرها ليلة فقيل سوى ليلة القدر يا رسول الله فقال: سوى ليلة القدر» وليس في حديث أبي سعيد كبير حجة فإنه لم يقل أراني أسجد في ماء وطين في ليلة القدر وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: أنها ليلة الخامس والعشرين فإنه صح في الحديث «أن نزول القرآن كان لأربع وعشرين مضين من رمضان». وقال الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] والهاء كناية عن القرآن باتفاق المفسرين فإذا جمعت بين الآية والحديث تبين أنها ليلة الخامس والعشرين وأكثر الصحابة على أنها ليلة السابع والعشرين فقد ذكر عاصم عن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب يا أبا المنذر أخبرني عن ليلة القدر فإن ابن مسعود كان يقول: من يقم الحول يدركها فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كان يعلم أنها ليلة السابع والعشرين ولكنه أراد حث الناس على الجهد في جميع الحول قلت بم عرفت ذلك قال بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتبرناها فوجدناها قلت وما تلك
العلامة قال: تطلع الشمس من صبيحتها كأنها طست لا شعاع لها وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: إنها ليلة السابع والعشرين فقيل: له ومن أين تقول: ذلك قال: لأن سورة القدر ثلاثون كلمة وقوله هي الكلمة السابعة والعشرون وفيها إشارة إلى ليلة القدر.
وذكر الفقيه أبو جعفر أن المذهب عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنها تكون في شهر رمضان ولكنها تتقدم وتتأخر وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا تتأخر وفائدة الاختلاف أن من قال: لعبده أنت حر ليلة القدر فإن قال ذلك قبل دخول شهر رمضان عتق إذا انسلخ الشهر وإن قال: ذلك بعد مضي ليلة من الشهر لم يعتق حتى ينسلخ شهر رمضان من العام القابل في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - لجواز أنها كانت في الشهر الماضي في الليلة الأولى وفي الشهر الآتي في الليلة الأخيرة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا مضت ليلة من الشهر في العام القابل فجاء مثل الوقت الذي حلف فيه عتق؛ لأن عندهما لا تتقدم ولا تتأخر بل هي في ليلة من الشهر في كل وقت فإذا جاء مثل ذلك الوقت فقد تيقنا بمجيء الوقت المضاف إليه العتق بعد يمينه فلهذا عتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
[كتاب نوادر الصوم]
(كتاب نوادر الصوم) (قال) الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء اعلم بأن موجب النذر الوفاء
قال الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل: 91] والناذر معاهد لله تعالى بنذره فعليه الوفاء بذلك وقد ذم الله تعالى قوما تركوا الوفاء بالنذر فقال تعالى: {ومنهم من عاهد الله} [التوبة: 75] الآية وإنما يذم المرء بترك الواجب ومدح قوما بالوفاء بالنذر فقال تعالى: {يوفون بالنذر ويخافون} [الإنسان: 7] الآية.
ثم النذر إنما يصح بما يكون قربة مقصودة فأما ما ليس بقربة مقصودة فإنه لا يصح التزامه بالنذر لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»؛ لأن الناذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة وإنما يجعل العبادة المشروعة نفلا واجبا بنذره، وما فيه معنى القربة ولكن ليس بعبادة مقصودة بنفسها كتشييع الجنازة وعيادة المريض لا يصح التزامه بالنذر إلا في رواية الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله قال: إن نذر أن يعود مريضا اليوم صح نذره وإن نذر أن
يعود فلانا لا يلزمه شيء؛ لأن عيادة المريض قربة شرعا قال - صلى الله عليه وسلم: «عائد المريض يمشي على محارف الجنة حتى يرجع» وعيادة فلان بعينه لا يكون معنى القربة فيها مقصودا للناذر بل معنى مراعاة حق فلان فلا يصح التزامه بالنذر، وفي ظاهر الرواية قال: عيادة المريض وتشييع الجنازة، وإن كان فيه معنى حق الله تعالى فالمقصود حق المريض والميت والناذر إنما يلتزم بنذره ما يكون مشروعا حقا لله تعالى مقصودا.
إذا عرفنا هذا فنقول: النذر إما أن يكون بالصدقة أو بالصوم أو الصلاة أو الاعتكاف فنبدأ بالنذر بالصدقة فنقول: إما أن يعين الوقت بنذره فيقول: لله علي أن أتصدق بدرهم غدا أو يعين المكان فيقول: في مكان كذا أو يعين المتصدق عليه فيقول: على فلان المسكين أو يعين الدرهم فيقول: لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم وفي الوجوه كلها يلزمه التصدق بالمنذور عندنا، ويلغو اعتبار ذلك التقييد حتى لو تصدق به قبل مجيء ذلك الوقت أو في غير ذلك المكان أو على غير ذلك المسكين أو بدرهم غير الذي عينه خرج عن موجب نذره وعلى قول زفر لا يخرج عن موجب نذره إلا بالأداء كما التزمه قال: لأن في ألفاظ العباد يعتبر اللفظ ولا يعتبر المعنى ألا ترى أن من قال: لغيره طلق امرأتي للسنة فطلقها لغير السنة لم يقع ولو أمره أن يتصدق بدرهم على فلان الفقير فتصدق على غيره كان مخالفا وهذا؛ لأن أوامر العباد قد تكون خالية عن فائدة حميدة فلا يمكن اعتبار المعنى فيها وإنما يعتبر اللفظ فلا يحصل الوفاء إلا بالتصدق على الوجه الذي التزمه وعلماؤنا - رحمهم الله - قالوا ما يوجبه المرء على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ألا ترى أن ما لله تعالى من جنسه واجبا على عباده صح التزامه بالنذر وما ليس لله تعالى من جنسه واجبا على عباده لا يصح التزامه بالنذر ثم ما أوجب الله تعالى من التصدق بالمال مضافا إلى وقت يجوز تعجيله قبل ذلك الوقت كالزكاة بعد كمال النصاب قبل حولان الحول وصدقة الفطر قبل مجيء يوم الفطر فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهذا؛ لأن صحة النذر باعتبار معنى القربة وذلك في التزام الصدقة لا في تعيين المكان والزمان والمسكين والدرهم.
وإنما يعتبر من التعيين ما يكون مفيدا فيما هو المقصود لا ما ليس بمفيد ومعنى العبادة في التصدق باعتبار سد خلة المحتاج إذ أخرج المتصدق ما يجري فيه الشح والضنة عن ملكه ابتغاء مرضاة الله تعالى وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة تعيين المكان والزمان، وبهذا يتبين الجواب عما اعتمد عليه من اعتبار اللفظ فإن صحة النذر لم تكن باعتبار اللفظ
بل باعتبار معنى القربة كما بينا وبه فارق الوصية فإن صحة الوصية لم يكن باعتبار معنى القربة فلهذا اعتبرنا تعيين المصروف إليه فصار فلان موصى له بما سمي فإذا دفعه إلى غيره كان مخالفا أمر الموصي، وهذا بخلاف ما إذا قال: إذا قدم فلان فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به قبل قدوم فلان لم يجزه وكذلك لو قال: إذا جاء غد؛ لأن هناك علق النذر بالشرط والمعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط، وإنما يجوز الأداء بعد وجود السبب والسبب هو النذر فإذا علقه بالشرط كان معدوما قبله، وهنا أضاف النذر إلى وقت والإضافة إلى وقت لا يخرجه من أن يكون سببا في الحال فيجوز التعجيل بمنزلة أداء الزكاة قبل كمال الحول وعلى قول الشافعي - رضي الله عنه - يجوز التعجيل قبل قدوم فلان بناء على مذهبه في جواز التكفير بالمال بعد اليمين قبل الحنث وقد بينا المسألة في كتاب الأيمان.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.81 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]